٣٠‏/٩‏/٢٠٠٩

إبراهيم حسو:الشــــــعر على مــــــائدة اليومي العابر. في ديوانها الرابع ( معطف أحمر فارغ ) تحدثنا رشا عمران كعادتها عن علاقاتها مع محيطها الدلالي المحسوس و عن انفعالاتها اليومية ذات حساسية عالية حيث الحياة الروتينية الراكضة بعنف نحو وراء مشاغل روحية عابرة و عوالم جديدة من الانكسارات المتتابعة و المتلاحقة ضمن تصوير حالة الذات الشاعرة و تحولاتها المستمرة و المنقسمة إلى بؤر من الألم و الفقد و التلهف إلى أطوار حياتية مختصرة منسية و تواريخ ثبتّتها الشاعرة على شكل مقاطع متناثرة و متناسقة في سياقاتها الشعرية , وهي مقاطع في ترويض الصمت أو تفكيكه و مقايضة ( التذكر) بالنسيان المراوغ المعاند , أو هي في الحقيقة محاورة الصدى و كسبه , فلا رائحة لذاكرة الجسد و لا هواء لشهوات مختبئة ولا هوس بوصف مذاقات الأنثى في تخمين رغباتها ولهاثها و اشتعالاتها , تجربة رشا الجديدة تغوص في العمق و البساطة الإنسانيين, ففي كل مقطع تعثر على دفء إنساني ما تعصر روح الكلمات و في كل مفردة ظلال خفية لآلام خفية تُسلخ و تُُستباح , رغبات إنسانية معذبة قلقة دون أمل كالأصوات الخانقة العابرة أو كملاك عابر يتفقد ضحاياه و يمضي :‏ أعرف .. أن الزوارق تتهدم / كما الذاكرة / وأن المرافئ مهجورة / كالحب القديم / وأن الرمل يتبدد كما الأسئلة /وأن الزرقة تموج/ كضباب منسحب من جهة غريبة /متألم /غامق /حزين ..‏ ( معطف احمر فارغ ) هي تجربة النجاة من ذلك الشعور الحميمي للخوف و الفقدان و الموت وغشاوة الحب , إنها أيضاً انجذاب إلى الذات المشتعلة التي تمحي نفسها و تحيا فيها في محاولة الوصول إلى معنى الشعر و التقرب أكثر من معنى الصمت أو الصخب أو الحب الأصيل الذي له حضور فاقع , حب ما قديم و يتجدد , ألم ما قديم وباقٍِ لا فرق هنا طالما أن كتابتها مجامعة على شواغر حسيّة و معّدة على أحسن تقويم لاستقبال شؤون الحب بكاملها , الحياة و الألم بكاملهما , و الكره الرائع بكامله , اقصد الكره المسالم الذي يسكن في أعلى ناصية من عمق كلمة ( الحب ) : ( أعرف أنكم في كل مكان مني كألم قديم .) ‏ تحفر رشا في عمق الكلمة دون أن تهتم بجذرها أو أوراقها , تخلص كثيراً للسياقات و تكاد تكون مغرمة بالترتيب و البناء الهيكلي للجملة الشعرية , لديها مساطر في قياس كل جملة وما قد ينقصها أو يزيدها و ذلك بالعودة الدائمة إلى اللغة التي تكون حاضرة أبداً في تقديم يد العون و مراقبة البناء من أعلى الصارية و توجيه النصح للمخيلة و ما قد تضيفها إلى النص و تجمله : ( لم يقل شيئاً .... أنا اخترت أن أسمعه ) ( تعال ..كي نرفع الليل عن مائدة العالم ونهبه للسائلين ) .‏ وقد تبدو القراءة الأولية لهذا النص انه مبني على القص أو ما يشبه الحكاية فلأن المتكلمة هنا ( تحكي ) عن حضورها عن لحظتها وان بدت اللحظة مغلفة بالعودة إلى ماض قريب ( استرجاع ذكرى محمد عمران ) أو مزج الماضي بالراهن البعيد عبر مشاهد سينمائية ( بصرية ) و القبض على لقطاتها شعرياً , بأدوات قد يكون بعضها استنطاقاً للصور و الحركة و المشاهد المركبة و اللقطات الإنسانية الخانقة :‏ أسماء غيابك/ أرددها عاماً وراء عام / كي أصدق الفراغ/ من آخر البيت/ حتى أول قبرك .‏ تختار عمران العناوين الطويلة لمقاطع نثرية قصيرة و كذلك عناوين قصيرة ( مفردة واحدة ) لنصوص طويلة في سبيل الوصول إلى حالة شعرية تبدأ في جعل البياض و الهامش و الحواشي فسحة لغوية عامرة و بركة تشكيلية ملونة و لامعة بالصور التخيلية التي قد تجدها هنا و هناك في قلب كل صفحة وفي كل مقطع ينتهي بجملة أو كلمة :( كم طرية أنا بك . ) ( سرير مؤجل منذ أن استدل البرق على نافذتي وانزلق تحت قميص نومي) وإذا توغلنا أكثر في مفاصل النصوص الطويلة التي أخذت أكثر من 60 صفحة من الكتاب سنعثر على مفاتيح رشا الشعرية و كلمة السر التي لم تقدر إلا أن تبوح بها لكل قرائها في محاولة منها في إيصال وحشتها الداخلية إلى فضاءات أقوى و أرحب , إلى دلالات مفتوحة و متداولة للجميع دون أن تنسى الحفاظ على طهارة فكرها , و نقاء عناصرها , و كمال معاناتها , وزلال تجربتها الحياتية , و قد يصل هذا البوح ( المجاني ) إلى اصطكاك غير محسوب بين تحولات المعنى و انزلاقاتها عن طريقها الصحيح .‏ أصدرت رشا عمران أربع مجموعات شعرية في فترات متباعدة زمنياً إلا أنها تنوعت في أساليبها و لغتها و صورها و شكلت في نصها الشعري ( كأن منفاي جسدي ) ما يمكن تسميته العبور إلى الضفة الآمنة للشعر و القصيدة الحديثة و هي على كل تعكس حضورها الإبداعي و الكتابي . لها أيضاً : (وجع له شكل الحياة) و(ظلك الممتد في أقصى حنيني) و(كجدار بلا نوافذ) .‏ ( معطف أحمر فارغ ) شعر 2009 - رشا عمران - مطبوعات وزارة الثقافة السورية‏ الأربعاء 30-9-2009م . صحيفة الثورة السوريّة.


٢٨‏/٩‏/٢٠٠٩

إبراهيم حسو: شعراء على الطريق... اقـــــــرؤوا لهـــــــــذا الشـــــــاعر. رسم بالكلمات. محمد بيجو من الشعراء الشباب السوريين الأوفياء لقصيدة النثر , فهو لم يخرج عن آداب و أخلاق هذه القصيدة منذ انطلاقته المتبسطة في الصحافة السورية ( قصائد هنا و هناك في الثورة ) و (الزمان ) اللندنية‏ وككل المبتدئين لم يكن شاعرا استعراضيا فهو لم يحاول أن يكسر عظام اللغة مثلما فعل رعيل كامل من الشعراء الشباب و صاروا في خبر كان , ولم يفكر أن يفخخ أي كلمة و يفجرها أمّام المشاريع التجريبية العربية التي يشتغل عليها كبار الشعراء كأدونيس وغيره منذ السبعينات , و لم ( يجّرب ) قط الإطاحة بالمشاريع الشعرية الأخرى المتبارية , بحسبانه هو ليس متسابقا مع أحد , بل لا يستهويه أبدا الخوض في حرب كسر العظم الدارجة اليوم في المشهد الثقافي السوري . محمد بيجو يكتب الشعر بطمأنينة ملحوظة , و بأعصاب مشدودة , لا يعير اكتراثا بكل ما يصفه , تخمينا منه بأن الكتابة مثل تدجين طائر في قفص منزلي تنصت لغنائه و أنت في عنفوان حنقك , و ربما تكمن أهمية هذه الكتابة في أنها لا تضر أحدا سوى حائزها , حتى إن الشاعر نفسه لا يعرف إن كانت هذه الكتابة تعيد له الضحكة و الأمان كأي شيء آخر في الحياة .‏ في أغلب ما قرأت لمحمد بيجو اكتشفت جنسين من الكتابة هما: التيه في اللغة, و زحمة الأفكار و قد يكون ذلك نتيجة أن محمد يكتب الشعر دون تخطيط مسبق أو حتى وضع برمجة ( نصية ) للكتابة الشعرية, و هذه النوعية من الكتابة دارجة بين معظم الشعراء الجدد الذين يكتبون كتابة آلية تلقائية أو ما يقال كتابة سيلانية , وأعتقد أن الشعر السوري برمته منخرط في هذه الكتابة منذ انجلاء قصيدة النثر , والمتابع لهذا الشعر سيلحظ أن فترة التسعينات أفرزت الكثير من شعراء قصيدة النثر إلى الضوء, نتيجة التنويعات المتلاحقة لهذه القصيدة , بينما لم تخرج في الثمانينيات إلا أسماء يسيرة و هامة , و ما يهم في هذه الكتابة أنها تخلق فضاء آخر أكثر اتساعا, و مساحات لغوية أكثر طيرانا و حرية , و من يقرأ نصوص محمد بيجو المنشورة هنا و هناك و التي لم تستقر في ديوان بعد سيلحظ أن هذا الشاب يعاني من زحمة الأفكار و المواضيع التي يطرحها دون معرفة و إبصار شعري واثق :بغيمة و ظلال زاجلة هكذا قبل الآن‏ بغيمة غسلت وجهي بأجنحتي تلك‏ رفعت روحي كنخب كانت من خضرة ورنين‏ وكنت كما الآن .... زاجلاً‏ بعينين من ماء و جسد من ريح‏. في قصيدة لمحمد ( بغيمة و ظلال زاجلة ) ثمة سيلان سردي ملفت , أو ما يشبه قصا متقنا وكثيفا جدا لحالة نفسية حادة و صاعقة , و تكاد تكون هذه الحالة هي التي تبرز الجانب الشعري من كل هذا القص , و قد يكون هذا السرد ما يبرر للنص شعريته, و يجعله أكثر مواجهة لهذا الجمال المختفي بين أثلام المفردات التي تنبسط هكذا دون حدود ودون أسوار , و قد يأخذ هذا السرد شخص القصيدة إلى مختبر آخر للتجارب اللغوية , لا يرجع منها سالما , فهو غير متأهب ليغامر بقصيدته إلى متاهة نثرية غير معلومة النتائج , بل لا يستطيع أن يحارب من أجل كلماته, طالما أن الكتابة لديه كتدجين طائر منزلي , إلا انه ومع ذلك يمتلك كل العناصر الشعرية التي يمكن من خلالها تأريخ الصور و تقطير الجمل الشعرية و رفع المعاني الجديدة عبر لمسة إبداعية حديثة :‏ كلّما فرشت على الأرض قمراً‏ كان الطريق يصعدني و يمتدّ ..‏ أنا الرثاء .. في المديح.‏ اقرؤوا لهذا الشاعر و لا تصفقوا له , فهو جاثم ينتظر و يراقب الشعر من بعيد مصوبا قلمه إلى عصافير الشعر وهي تخرج من أوكارها فرادى , رابض في قصيدة تصحو كلما هبت الحياة فينا , منتصب في كل كلمةٍ تستنكفُ رأسها كلما دبّت نارٌ ما بمفاصل القصيدة , فنهرع مشلولين لقراءة صحوتنا من جديد , اقرؤوا لهذا الشاعر دون أن توقظوه من قصيدته التي لا تنام أبدا .‏ العاشق‏. لأنك من دلّك عليها خلقت أعشاب في رئتيك‏ وجفّ الكلام أمام امرأة قرأت عينيك كانت أجراسها تناديك‏ و هي تقلب القلب تشعل خواتم روحك ثم تختفي‏ وما زلت تختار شارعاً كلما سقطت عليك سهواً الرغبة‏ وتنسى النزيف حينا لا لقاء كأعمى يفسّر الحروف‏ تكحّل أشواك نظراتها بعينيك.. !! كأنك مصاب‏ على وريدك امرأة تزدهر تسقيها حواسك‏ تحترق ثمارك على أغصانها و لا مشوار يلهمك بالشوق‏ فتبكي على النساء كالنساء ... !! تلك الجديدة تنبأت‏ بموتك القديم فاح منك الأنين قلت: الحياة مركب لا يصل‏ قالت: لا أحيا لك ولولاي ما كانت لدمك أكواخ‏ تحرس فيها أنوثتي رئتاك ألم وأنفاسك ألم‏ تبحث عن يدي بين يديّ ترسم لقلبي أسوارا‏ وتنحني له كعطر علّك تنسى بأن لك فضاء‏ وعليك أن تطير على سرير أو شمس‏ - إذا أردت - هطلت روحي أمام البيت‏ سألت الباب : من أنا يا باب ؟‏ وهل المواعيد باقات من شهيق‏ و زفير ؟ فرحت حين فتحت لي‏ وضوءا يسيل من أطراف يديك‏ قدماي لا تلامسان أرض قدميك‏ لا ظل لي حين أكون حافيا كغصن أو مسافة‏ لا قلب للغياب أحتضر بعدك‏ أشبه الخطيئة وأنت تضحكين لي أو لغيري‏ كأننا شيء من وشم حزين‏ ما أكثرك من امرأة .. أنت برق وقلبي الأرض‏ المسيني لأطير أو ليتصاعد الدخان‏ خبئيني ... أنا خائف من الليل و لم أنهِ شعرك بعد .‏
الأثنين 28-9-2009
جريدة الثّورة السوريّة.



٢٦‏/٩‏/٢٠٠٩

جـوان تـتـر: في رَحْم ِ كُلِّ طَيفٍ قاصِر حَيوانٌ مَنَويٌّ مُنْتَحِرْ أيَّتُهَا الأُمُّ , لا تَخْجَلي مِن خَطَايا وَلدِك , إسمَعي فَقَط , سَتُنْشِدُ المَلَائِكَةُ خَجِلَةً أفْعَالَهُ : كَانَ يُضَاجِعُ المَسَاءَ وَأنْتِ نَائِمَة , يُطْفِئُ التَّلفَازَ ويُشْغِلُهُ بِخفَّةٍ آنَ يَسْمَعُ خُطَاكِ هَابِطَةً السَّطْحَ إلى المِرْحَاض, كانَ يَبْتَسِمُ لِتَأوّهَاتِ الأُنثَى الصّغيرة وَهيَ تُضَاجَعُ مِرَارَاً في الّليلِ مِن شَبَحِ زوجِهَا الحَطَاب , ثُمّ صَبَاحَاً مَعَ رَغيفٍ ساخنٍ يولَدُ تَأويلٌ مُغَايَرٌ لِمَغْزَى الصّوت : (( جَارَتُنَا الصَغيرَة لَمْ تَنَمْ , إنّها الزَّائِدَة الدوديّة , مِسكينَةٌ , طبيبٌ والِدُهَا , أوّاهُ يا لَلبُخل ..)) كَانَ يَخْتَلِسُ النقودَ مِن مِحْفَظَةِ شَقيقِهِ ثَمَنَاً للجعّةِ الرّديئة , يَكذِبُ لَيلاً نَهَارَاً , وَاضِحَاً كَالشّمس , يُحْرِقُ سَاعَاتَ الّليلِ الأَخيرة مَعَ السّجَائِرِ مُضَاجِعَاً أَطْيافَ بَنَاتِ الحَيِّ القَاصِرَات , في رَحْمِ كُلِّ طَيفٍ قاصِرٍ حَيوانٌ مَنَويٌّ مُنْتَحِرْ . يَسْتَدينُ دونَمَا اكْتِرَاثٍ للوَفَاء ( الوفاءُ صَنيعُ الحَمْقَى ) , هَكَذَا دوَّنَ بحبرِ الخَيالِ ذاتَ خَريفٍ , _ إبْنُكَ مُحْتَالٌ _ هَمَسَ أحَدُ البَاعَة في أُذُنِ شَاهِد قَبْرِ والِدِهِ مرةً وَهوَ يَبْصِقُ , يَلعَنُ الآَلِهَةَ دونَ مُبَرِّرٍ , يُنْفِقُ المَالَ خَاصَّتَكِ , كّانَت العَائِلَة تَنْعَتُهُ بالمَجنون, سِواكِ : لَيْسَ مَجنونَاً , ( وَلَدي شَارِعٌ ) عِوَضَاً عَن ( وَلَدي شَاعِرْ ) , يَتَوارَى إذْ ( هَاتِفُكُم مَفْصولٌ لأسبابِ مَاليّة ) أو ( أخي المُشترِك بَادر للإستِفَادَة مِن مَرسوم الإعفاء عَن الغَرَامات ) , وَلَدُكِ أغَلى غَرامة , كُوني مُتَيَقِّنَةً الأمْرَ . كَانَ يُحَرِّرُ عُضوهُ لِرَسْمِ أبيهِ المُضْحِك , يَبْحَثُ في خِزَانَة ابنَةِ عَمَّتِهِ الضّخمَة عَن سوتيانٍ لائقٍ بِثدي حَبيبَتِه النّحيلَة . لايَكُفُّ عَن إعدامِ الظِلالِ رَشْقَاً بنُصُوصٍ رَديئَةٍ . أيَّتُها الوَالِدَة : مرحَى لَكِ . لِرحمِكِ . 2 فيمَا مَضَى , ارتَابَ بَجدوَاي . هُنَا . في المَاضي . " الآنَ تَيَقَّنْتُ" أُديرُ كَلامَاً بينَ بَابٍ عَطوفٍ ونَافذَةٍ لاتَمْلِكُ غيرَ هَواءٍ حَزين , بينَ مَقعَدِ روحي الذي أمْقُتُهُ وَدربٍ يُحيلُ العُبورَ مَوتَاً 3 الآنَ مُبْتَعِدَاً, أُمَسِّدُ شَعْرَ دُميتي الفِضّيّ, أُحَيّيِّ وَبِخفَّةٍ لا تُجَارَى الرَّغيفَ الذي نثَرَهُ صَاحِبُ الّلحيةِ السّودَاء قِبَالَةَ الفُرْنِ ليَبْرُدَ, أُحَطِّمُ الرُّقَيمَ الثّابِتَ عَلى سَطْحِ الكُوخِ العَميقِ في التراب . أُبَدِّلُ ذِكرَى الميِّتِ ثُمَّ وِلادَتَهُ. 4 " لَكن, مَا هَذهِ الأعدَادُ الغَامِضَةُ, مَحْفورَةً, أعلَى الجُمْجُمَة, أيُّها الطَّيف ؟ " هَل تَرَاءَت الوِلادَة , لِتَنْحَتَ المَوتَ بِأنَامِلِ طِفل؟ أَوَ , لَم أتَمَرَّن كِفَايةً عَلى الغيابِ ؟ صَرَخْتُ . 5 الآنَ فَقَطْ , بَاتَ بِوسْعِي اسْتِدعَاءَ الشّيطَان إلَى الحُجْرَة , قَابِضَاً عَلَى قِرنِهِ اليُمْنَى , جَارَّاً وَرَاءَهُ مَلائِكَةً مُبْتَعِدَة عَن النُورَانيّة , لَنْ أفْعَلَ أمْرَاً إنّمَا أُتَابِعُ الشّيطَانَ حَالّاً السوُتيانَ الأَحْمَرَ خَيطَاً فَخَيطَاً , شَادّاً الفُصُولَ مِنْ أعْمَاقِكِ فَصْلاً , فَصْلاً , إنْتَبِهي , لَنْ أَهِبَكِ فَاصِلاً كَمَا تَفْعَلُ المُذيعَةُ السَخيفَة وَ لَن أَتَأَثَّرَ بِالعُنف , بَل سَأقُولُ بِكُلِّ فَخْرٍ : طُزّْ .... عـامـودا.
عن أبابيل.





٢٥‏/٩‏/٢٠٠٩

فرج بصلو: على بعد قرنفلة... هي جميلة لا لأنها تسمى جميلة. ليس لأن عيناها البنيتان واسعتان. ليس لرشاقة قامتها أو ملس شعرها الأسود المشدود إلى الخلف. ليس لنعومة أناملها, ولا من أجل عنقها العاجي وجبينها المرمري. هي جميلة لأنها تبتسم لي فور دخولي للحوش, وتضيء كالنوارة. تبدو من الشباك المفتوح صورة في برواز. تبتسم لي وللشمس. تبتسم ابتسامة تليق بجميلة. يتكور وجهها ويشع. تزاح شفتاها الرقيقة لتحاكي ورود الأصص, وظلال الدالية الناعمة. هي جميلة وتستحق إسمها. على بعد قرنفلة, ريحانة, وياسمين صارخ الشَّذى, عرفتني بها والدتي من أول يوم بدينا السكن هذا الحوش الكلداني. وهو كلداني لأنه يعود لكلدانيين. ويقع وسط الجادة. امام مدرسة الكلدان. ودير الكلدان. الدير وراء جدار إسمنتي عالي. يتسلقه النبات, وتعلوه الزهور. له بوابة حديدية كبيرة مدهونة بالأسود. وكذلك المدرسة, من مطلع مفترق الشارع بناية إسمنتية. جدرانها العالية بيضاء. درج فسيح يعلو إلى بوابة من زجاج وحديد. مدرسة مزودة بالكهرباء. خلف بوابتها بهو. على طرفيه صفوف. آخرته مفتوحة على باحة وكنيسة, وصفوف أخرى. حنفيات مياه. نظام, تعليم, تربية وخِلق فضي فضي. وبوابة غربية. السيدة وسيلة كئيبة. عيونها منكمشة بين الأخضر والأزرق. تكاد تبدو مطفأة من كثرة النحيب. كل شيء نصيب. ونصيبها: تتشمس ناحية البئر. تحك منخاراها بقشة رفيعة وطويلة, يسيل منهما الدم. خشمها ينزف. تغسل وجهها بالماء. أصب على يديها مباشرة من الدلو. تسحب الهواء إلى رئتيها كأنه نشوق. تزفر. تضع يدها اليمنى على جهة صدرها الأيسر, تتحسر مطولاً. تفكر ماذا تقول: هَوْن مكسور. قلب. قلب مكسور. لا أفهم. ما أدراني بقلوب الناس؟ ثم كيف تكسر القلوب؟ تكسر ساعد, معقول. تكسر ساق. معقول. تكسر ضلع. ولكن قلب؟ كيف يكسر قلب. وسيلة نحيفة نحيفة, فستانها المترامي فضفاض على جسدها المصغر. جبينها مربوط بوثاق ناصع. لا تجيد العربية. لا تتكلم الكرمانجية. فقط الكلدانية والآرامية. ولما تتكلم ترتجف شفتاها الناعمتان. ترتجف شامتها المنقوشة كالوشم حد أقصى شفتها العلوية. تثير الإنتباه والقلق. لعبوسها وكآبتها. ما السر الذي يشغلها؟ هناك سر إذاَ. ما السر في كآبة السيدة وسيلة, ما السر ماما؟ أراها توخز مناخيرها. تنزف, تبكي. تتمتم بالكلدانية. ولا أفهم. "الدنيا كلها كئيبة". ترد علي ماما. وانت تستفسر فقط عن سيدة وسيلة؟ "طيب ليش تمنعوني أروح دكان جدي بصلو؟. خليها لغير مرة. يما! ليش الدنيا كئيبة وليش نقلتوا السكن لبيت السيدة وسيلة؟ لأي مرة أخليها؟ لا دواب في هذا الحوش. لا دواجن, لا غنم ولا بقر. لا زريدية, لا حظيرة, لا قن ولا حمّام. لمين بدكي أخليها؟ لمين تحكين, إذا ما حكيتي لي؟ "عنيد, عنيد انت ياولد". أوووووف قديش عنيد. ومع ذلك تبدأ وحسها يرتجف, وعينها تتبلل: تتذكر ماقلته لك عن خطوبتي وزفافي؟ (طبعاً أتذكر). طول نهار ما قبل العرس, راح عالمكياج والزينة, النظافة واللبس. عصر اليوم إلتمو الأهل ببيت أبوي, نستنسى العريس وأهل العريس. ومن وقع الداهولي عرفنا قدومهم. تقدمهم سيمح الحلاق وطنبورته. توقفوا ببوابة حوشنا الواسع ومن بين الزغاريد, بعثوا طلب خروج العروس وأهلها. وطلعوا أهلي إخوتي, وأولاد عمي والمعازيم, الجيران والأصحاب, ولما أرادو يطلعوني من الحوش سمعنا صرخة من السطوح. رفع الكل رؤوسهم لفوق. وعالسطوح واقف عمك حنون بإيدو جرة, وراح يهدد بكسرها على رؤوسنا إذا ما دفعنا له "حلاوة" مرور العروسة. صارت دوشة وصارت خربطة مو ببال أحد. وعمك حنون فوق رافع الجرة بالهوى, يحلف بالسموات: إذا ما بتدفعوا حلاوة مرور العروسة, الجرة بحجارها تهوي على رؤوسكون!. فوشوش أبوي عمي عزيز: روح ياأخوي ورضي هالأزعر. أول زواج من ولادي وشوف هالبهدلة! روح أخوي, روح رضيه بقرشين وسكتو! روح وعوضنا على الله... يترك عمي العزيز الحفل ويختفي بين الجموع. يلف إلى بيت المشاوي, الدار اللي ساكن فيها زميللك فرحانو وأهله. معروف إنها الدار الوحيدة اللي فيها درج طين يودي إلى السطوح, بدل سلم خشبي. يصعد, ويلف ويغافل عمك حنون ويمسكه. يرمي الجرة على طرف ويهشمها. ويضربو كفين. ويصرخ في وشو, شو إنت قرباطي, إنت قرجي. مو عرس أخوك ياحمار؟ على مين جاي تعمل عنتريات؟ إخجل يا قرجي!!! ويمر العرس المر إلى دار جدك بصلو. عبر الشوارع. الرقص والأغاني, الزغاريد ورمي الملبس, ودوسدوس الله عليه". داهولي, زرناية, طنبورة... والليل يبرد الدنيا وينهي حفل اليوم الأول تقريباً عند وش الصباح. وتفطن أختي وردة لمعطفها. جوخ إنكليزي. تفصيل خاص على مودة الجورنال. يوم يوم أجت الخياطة لعندنا وعملت قياسات. والبالطو مشرح من الخلف. مشرح بالشفرة. ممزوع من الظهر شقف شقف. ونكتم القضية من شان يمر العرس بسلام. وبعد الأيام السبعة. نذهب لقارئة فنجان لترى في قدح القهوة وجه عمك حنون. نروح على المنجمين ونفس الوش يطلع بالزيت والميه. نروح إلى السَّحرة, وما في غير وش. ونكتم القضية. ويبقى الخبر الأسود بيني وبين أختي وأبوك. ويمر الزمان. ويكبر صاحب الشفرة والتشريح. يترعرع. يتلاكم بالنوادي. يرفع الأثقال. يصير قبضاي. ولا ولم ينسى ليلة الزفاف, وكيفية كسر جرته. وأكل ضربته. ونزوله من السطوح مخذول. يترقب عمي عزيز من بعيد, يومياً يترقبه في ساعات العصر. يدري جلوسه في مقهى سيمح الحلاق. امام معبد اليهود بشارع الجامع. يلهو عمي بالنرد والطاولة, بالدومينو, بالشدة مع زملاءه... ويقبل اليوم فيه سوء الحظ يكبر الخسارة. وعمك واقف على رأسه. يتمسخر له. يستفزه طوال الوقت. إلى ان يضيق به وبكلامه, ليمد يداً طويلة ويدفعه قائلاً: روح ولاك, كلب إبن كلب! على مين بتتمسخر؟. وكانت الدفشة قوية ومفاجئة. يتقهرقر عمك الى الخلف ويقع على الأرض. والقهاوي أراضيها لا ترحم آنذاك. ينهض المضروب ليقف وقفة الملاكم ويبعث بلكمته اليمنى واليسرى مراراً في وجه ورأس عمي عزيز الجالس. ليهوي من كرسي الحصير. لتهوي أسنانه, فك بعد فك. دم بعد دم. جرح بعد جرح. كسور بعد كسور. مقتلة. أقارب من كل طرف. والشرطة قريبة. الشرطة تصل. يقبض على عمك حنون. يرسل عمي عزيز إلى المستشفى. علاج, خياط, عملية. ولازم إعداد طاقم أسنان. ما عدى الآلام كلفة باهظة. باهظة جداً وعذاب الدنيا على رأسنا. ولعمي درب مفتوح لقلوب الشرطة, وخاصة رئيس المخفر. يزوره رئيس المخفر يومياً في المستشفى. يمر وبعودته يفوت على متجر الأقمشة, ينتقي ما يريد. إكرمايات تفصل تفصيل خاص عند إبراهيمو الخياط. وأحياناً ظرف أبيض ثمين يفوته بعبه. إكرمايات. لوازم بسيطة. تخلي عمك حنون موقوف. تتهمه بالجناء. إصرار بقرار حضرة رئيس المخفر إلى إتمام القضاء. يحاول جدك بصلو الرشوة. فتأخذ منه للتسهيل فقط. لا يفرج على الجاني طالما هناك شكوى ودعوى ضده. يقول جدك لجدك: إبنك جنى على أخوي. هناك مبالغ ستدفع للمستشفى. عملية للفكين. تركيب طاقم أسنان. جروح وقروح. تعويضات. ولازم استخلاص الدرس والعبارة. يطول الكلام ويعرض. لكنهما تجار وأقارب ويفهمان. ويفهمان بوساطة المحامي أبو رامي, أن يكفل جدك بصلو بكامل المصروفات والتعويضات والإكراميات وأجر المحامي أبو رامي, بشرط واحد: تخلي عمي عزيز عن الشكوى والدعوة. يكتب محضر ويعقد عقد مكفول بسند وشهود. ولا حل يأتي لفك عقدة إلاّ وله حسابه... . ظهر اليوم أتاني جدك يطلب كل مجوهراتي. الحلي, العقد, الخواتم والأساور. كل الذهب. على شو عمو. مو شغلك أنتِ, هاتي وبس!. طيب ليش أعطيك مهري كله. ذهب أبوي وبيت أبوي؟ يعيط علي. يرج الحوش. تفزع حتى الدواب. جدتك ساكتة, تخاف منه. يأخذ ما علي من حلي, يفتح الخزانة, يفتش, يلملم كل ثمين ونفيس. كأحد قطاع الطرق يسطو. يذهب بالنفائس يرهنها عند شيخة الطي مقابل المال. ويدفع المصروفات, والتعويضات, والإكراميات, ينفذ كل ما إتفق عليه بينه وبين المحامي. أيام ولا اجرؤ التحدث لأبوك بما جرى. ولاكن جانيت بنت عمي عزيز, ذهبت لأبوها وباحت له بالأمر. إنفضحت القضية وقامت القيامة من جديد. وأبوك يزعل إذ يرى نفسه صاحب الذهب أكثر مني ومن أهلي. ويقوم في وش أبوه, والنقاش حاد وصارخ. يعصب جدك ويرمي بقية متاعنا في الشارع. اللحف, المخاديد, الفرش في الشارع. مطرودين يصيح بنا, لا إقامة لكم عندي ....! أبوك يصادق المطارنة من زمان وخاصة قس الكلدان. يسمع منه الحديث, يأسف. يخبره بالحل: بإمكانك نقل المتاع لدار وسيلة, مقابل المدرسة الكلدانية. عندها غرفة شاغرة كلفتني أكريها لأي إبن حلال من معارفي, وأنت الأولى بذلك. يتفق معه على سعر الإيجار فوراً, يبعث بعض الرهبان والراهبات ويساعدونا في النقل لدار وسيلة. وأرسلنا حكو الدربكجي للمدرسة تايجيبك لهون. وتبكي. يذرف الدمع حتى شفتيها. "حظي وحظ يتمي ياولدي". تحضنها وسيلة: بس نعيمة بس.. الله كريم.. . وتعود وسيلة تضع يمناها على صدرها الأيسر: مكسور, قلب مكسور. ليش قلبها مكسور؟. أتسأل. أ وسيلة! ترد والدتي من بين الدموع الصامتة. هي حكتني, ما إلها غير ولد وبنت في هالدنيا. البنت عانس وطول اليوم بالدار. أما الصبي, أنهى دراسته في المدرسة الكلدانية. أحرز البكلوريا بنجاح متكامل. فأتى المطران عيسى يترجاها إرساله إلى ألمانيا ليتعلم الطب. والطبيب ينفع مجتمعه, ينفع أهله, خير له, لك وللبلد. سيعيلك, ويدعم الطائفة. ستفتخرين به. ولم يذكر الحنين بحرف. لم يتطرق لشوق الأم لوحيدها. وسيلة لا تعرف ما هذه الألمانيا. فكرتها مدينة سورية مثل, حمص وحلب. يقولون في مدن أخرى بالبلد ما عدى قامشلو. عمرها ما برحت قامشلو. لكنها تصدق وجود مدن اخرى. على بلدان أخرى لم تسمع. واخيراً تقبل نصيحة المطران, وليش لأ, أليس مطرانها, قس طائفتها, ويريد الخير لها ولإبنها وللطائفة. يسافر الشاب على حساب الكلدان مدعوماً بالألمان. وتمر الأيام بكَّرها فصولاً وفصول. تتتالى الأعوام والمواسم ولا من خبر وحيدها إلا المكاتيب. تقرأها لها إبنتها العانس, يقرأها لها المطران. يهدئها.. سيعود طبيب لمنفعة الكل. وقد أخبرها أخيراً بأنه تخرج بعد ثماني سنوات "جراح متخصص بجراحة القلب". وسوف يتزوج شابة ألملنية شقراء زميلة له في التعليم, لن يعود إلى قامشلو... لن ينام بعد في ليالي الصيف على السطوح مقابل دير الكلدان. لن يعود لمدينة تلملم قماماتها بعربيات مكشوفة تقودها الخيل. لن يعود للعجاج, ولا لعواصف الثلج القارصة, الجليد والوحل, دلف البيوت, وخرابها من السيول. يملك سيارة, يسكن دار معمرة من الإسمنت, لها مصاعد كهربائية. يسير بين بشر آدمية في شوارع معبدة, له عيشة تخيم عليها الحرية, وهو من الآن مواطن ألماني, وألمانيا بعيدة بعيدة يما. قد يركب الطيارة مرة ليزورها في زمن مجهول. قد يبعث لها تذكرة لتأتي إليه بصحبة أخته. "أختي لماذا لم تتعلم, لماذا لم تتزوج, أختي الجالسة في إطار الشباك طوال الأيام مثل صورة في برواز... . كئيبة وسيلة. تكاد تطفي عيناها من النحيب. "الدنيا كلها كئيبة" تقول ماما... راحت المجوهرات... رمانا في الشارع... بهدلنا... سوَّانا فرجة لأهل الحارة... . قلب, قلب مكسور, ترد عليها وسيلة وتحضنها. أسمع ولا أبكي... أنا لا أبكي في مجالس النسوان... . أسهو في الليالي مع النجوم والقمر... أسهو لوحدي وأبعث سهادي على طرف الهوى ليجول أساطيح الحارة, ليجول بيت بيت, وعمارة عمارة. وجميلة جميلة لا لأنها جميلة. بل لأنها فاتنة على بعد قرنفلة وريحانة وياسمين صارخ الشّذى...
تابعوا سرديّات الشّاعر فرج في التالي من الأيّام... (في رسائل الحجحجيك).


٢٤‏/٩‏/٢٠٠٩

خالد عيسى: خواطر عاموديه - الحلقة -5- خامساَ : شعبة تجنيد عاموده. أمام باب التجنيد, يوم السَوق, كانت مجموعات صغيرة من العاموديين و العاموديات تطوّق رتل الباصات الطويلة والعتيقة, و كان يندمج البكاء بالغناء في أفواه وأعين الجميع. و كان بلبل عاموده رفعت داري يقول على لسانهم و بلسانهم لا تذهب! لا تذهب! لا تذهب إلى العسكرية أيها الحبيب. ذهبت لآول مرة إلى شعبة التجنيد, وأنا أحمل معي مذكرة للحضور, لاستلام دفتر الخدمة العسكرية, و لإجراء المعاينة الطبية. و كانت دورية الشرطة, في غيابي, قد سلمت المذكرة إلى أمي, و قد طلبت منها خمسة ليرات لقاء عملها, و كان قد قال لها أحد أفراد الدورية بأن المبلغ المطلوب هو مقابل تبشيرها بأن ابنها قد أصبح رجلاَ.عندما سلمتني أمي المذكرة المذكورة كان يتمالكها شعور غريب, كانت بحق سعيدة ببلوغي سن التكليف, وكانت تحلم في أن تراني مرتدياَ الزيّ العسكري, ولكنها في الوقت ذاته كانت قلقة علي المصير الذي قد ألقاه بعيداَ عنها في الخدمة العسكرية. أمام التجنيد, كنت ترى أماَ تخفي دموعها بكبرياء, وهناك كنت ترى زوجة تبكي خلف حماتها, وأطفالا لا حشمة أو خوف يمنع بكاءهم على أب يقترب رحيله في درب مجهول المآل. وكان لازال العاموديون يتذكرون أبناءهم الذين استشهدوا في ساحات القتال, وكان الشهيد نجم الدين حج أحمد الكرمي, من حي نجارێ, قد جدد مساهمة العاموديين بدمائهم في حماية حدود الدولة السورية. وكان من أولاد چتا الكبابچي (من بيت طاووس) من كان قد وقع في الأسر على جبهات القتال. كان بائع البوظة سعيداَ في يوم السَوق ذاك, إذ كان الحر قد بدا يلسع منذ ساعات الصباح الأولى, وكان الأطفال يبكون عطشاَ وقلقاَ, وكانت البوظة تسد أفواههم, وتشلّ ألسنتهم عن طرح الأسئلة المحرجة كان البيت المقابل لمقر شعبة التجنيد هو بيت أحمد (أحمێ) الخربه كاڤري. كان يرتدي أحمد شروالاً, ويضع على راسه لفة(شار) صفراء, وكان يتدلى سلسال ساعته من جيبة صدريته (يلك). وكانت تشتهر زوجته گولچين بكرمها وحسن استقبالها. وكانت تقدم المياه الباردة للمكلفين وذويهم المتجمعين أمام باب التجنيد. وكان شيخو بن أحمد الخربه كاڤري قد بقي مدة طويلة في الخدمة العسكرية, وخلال خدمته حاول التهرب مراراَ من المعاملة القاسية التي كان يتلقاه على يد رؤسائه, وفي كل مرة كان ينال العقاب ويعود لاستئناف خدمته. كان شيخو ملقباَ بغزالا أحمێ, وكان قد حاز على هذا اللقب عندما كان يعمل مع أصدقاء له في التجارة عبر الحدود السورية – التركية, ويقال أنه وأصدقاءه بعد اجتيازهم الحدود ليلاَ تبين لهم بأنهم قد نسواَ بقچة في الطرف السوري, فهمّ شيخو وتطوع باسترجاع البضاعة, ولسرعة تنفيذه لهذه المهمة الخطرة, لقبه أصدقاءه بالغزال. وكان نجيم أخو شيخو يعمل في حانوت صغير في ذلك الحي, وكان يوزع الغاز للأهالي بعربية يجرها حصان. سمعت أن رخصة توزيع الغاز كانت باسم الشيخ عبيد القادري. لأن السلطة لم تكن تمنح رخصة توزيع الغاز إلا لأصحاب الجاه والمعارف أو لقاء المال الكثير. قيل لي بأن نعمتّو, الابن الثالث لأحمد الخربه كاڤري, هو ايضاَ جرب حظه في التجارة عبر الحدود. ويقال أنه في إحدى الليالي بينما كان يريد إخفاء البضاعة المهربة في خلفية الحصادة, فاجأه عنصر المخابرات العسكرية حميد (أبو محمد) الذي كان قد اختبأ في ذات المكان, فصرخ نعمتو بالكردي وا أماه! انه العقرب! العقرب!!. كان أحمد الخربه كاڤري قد زوّج ابنته من الحاج أحمد شيخكێ (البيرتي), الذي كان من التجار المعروفين والمحترمين في عاموده. ذكر لي أحد الأصدقاء بأنه كان الحاج أحمد في إحدى المرات قد علّق جاكيته و التهى بعمله, فوجد أحمدێ دين ( المجنون) يضع يده في جيبة الجاكيت, فقال الحاج يا أحمد أهكذا يجوز منك تجاهي, وتعرف بأنني لطيف وكريم معك!!. خجل أحمد وقال يا عمي ماذا يمكن أن أقول لك ؟! طيب يا عمي انس, وافترض أن الأمر كان فيلماَ رأيته في السينما. كان الحاج كريماَ, وكان أحمد دين غير مؤذياً ويستحق كل لطف. كان الشيخ توفيق الحسيني يصنع أحياناً بعض المجسمات من مادة الجبصين, ومن هذه المجسمات, كانت لوحات دائرية الشكل وقد كتب عليها اسم الله ورسوله محمد, وكان يعطيها لأحمد كي يبيعها في شوارع عاموده. وفي المساء كان أحمد يأتي ليحاسب الشيخ فيما تمكن من بيعه. أخو أحمد الخربه كاڤري كان خليل الخربه كاڤري, وكان يسمى خليل العطار, وخليل قلبالغ(قه له بالغ) وكان بيتهما متقاربين. كان خليل قصير القامة, يضع على رأسه شماخاَ وعقالاَ, ويرتدي خفتاناَ, ويربط على خصره حزاماَ. كانت لديه دراسة قديمة لدرس القش وتحولها إلى التبن. يحكى أن خليلاً قد ذهب مع سائقه لدرس القش في إحدى القرى, وطلب من سائقه كتابة أسماء القرويين الذين يطلبون منه درس بيادرهم, فأخذا الرجل ورقة وقلماً لكتابة القائمة, وبدأ يسألهم عن أسمائهم, فكان اسم الأول مچو, والثاني چپو, والثالث شمو, والرابع جمو, والخامس شرو, والسادس تعلو, وهكذا البقية. عندما تلى السائق هذه الأسماء, أوقفه خليل في منتصف القائمة, وقال هل أنت متأكد بأننا في عالم الانس؟! ألا ترانا بأننا سنعمل للجن!!. وذكر لي أحد الشباب بأنه كان راكباً في باص أبو علي المسكني العامل على طريق عاموده-الحسكة, فوجد خليل قلبالغ يركب الباص, ولكنه لم يجد مقعداً شاغراً فبقي واقفاً في الممر الفاصل بين المقاعد. كان الطريق أقل من سبعين كيلو مترا, لكن كان وعراً, وكانت حالة باص أبو علي (على قد حالها). دون أن يفكر طويلاًاً, قام الشاب باحترام وعرض مقعده على العم خليل. قال له العم خليل أدام الله في عمرك يا ابن أخي, أشكرك ابق في مكانك! لأنني مستعجل وليس لدي الوقت للجلوس.!. كان أبو علي المسكني يعمل قبل ذلك مع فلمز بن فرج شيخو كورو, وكانا يشغّلان التوربيتو العامل على طريق الدرباسية-عاموده, كان المذكوران متفاهمين إلى حد أن البعض كان يظن أنهما إخوة. كانت عائلة علي المسكني محل احترام العاموديين بالإجماع. كان حميد (المخابرات) بالأصل من قلعة الأكراد (الحصن), وبقي مدة طويلة يبث الرعب والفساد بين العاموديين ويبتز أموالهم لحسابه وحساب رؤسائه. كان رئيس مفرزة المخابرات العسكرية في تلك الفترة يسمى أبو نضال. وكان رئيس شعبة التجنيد أيضاَ يسمى أبو نضال. كان قد تعوّد الأهالي على البحث عن واسطة(ذي سلطة) كلما اضطروا إلى مراجعة دائرة بأمر ما, وكان البعض من الفقراء يلجأون إلى السلطات الأمنية للاحتماء بها. فقد صدف عدة مرات كان المراجع لا يحتاج إلى أية وساطة, وقبل أن يتقدم بطلبه بنفسه, كان يلجأ إلى من يعرفه من السلطة ليوسطه عند الدائرة المعنية. وصدف وأن قال لي مراجع بأن أبو نضال يسلم عليّ, ولم أكن أدري أيّ أبو النضالين يقصد,!!ولم أكن قد التقيت بأيّ منهما, فقلت له أيهما وحركت رأسي يميناَ ويساراَ, لأنه جغرافياَ, كان يقع التجنيد على يمين مركز الأعلاف, وكانت مفرزة المخارات على اليسار منه. كانت تقضي اللوائح العسكرية بنقل الخدمة العسكرية لأخوة الشهداء إلى مراكز قريبة من ذويهم. وهكذا تم نقل أخو الشهيد نجم الدين, المجند محمود حج أحمد إلى شعبة تجنيد عاموده, لأداء خدمته الإلزامية. وأثبت محمود جدارة في العمل, وبعد انتهاء خدمته الإلزامية طلب أن يعمل في الشعبة كمستخدم مدني, ورغم توفر الشاغر وموافقة الرئيس المباشر, رفضت الأجهزة الأمنية طلبه, لأن حسب هذه الأجهزة, عمل محمود المدني كان سيشكل خطراَ على أمن الدولة, بينما خدمته العسكرية المجانية لم تكن تشكل أي خطر على أمن السلطة. في يوم السَوق, في ذلك الحفل القسري العظيم, في حفلة زفاف الشباب إلى جبهات القتال, إلى الحواجز الأمنية على الطرقات, إلى مقرات حراسة المنتفعين من السلطة , كانت تتوحد كل اللهجات العامودية في ألوان الألبسة الشعبية. وتندمج وتتساوى كل الانتماءات في دموع الزوجات و بكاء الأمهات. كان يتم السوق سابقاَ من الثكنة (القشلة) القديمة. وكانت تقع هذه الثكنة في الشمال الغربي من المدينة, والى الجنوب من مركز توزيع الأعلاف و الإعدادية. ثم تم بناء المقر الحالي الحديث في نهاية الستينات من القرن العشرين. كان يتم في العام الواحد تنظيم سَوقين للمكلفين بالجندية من مواليد العام نفسه. على ما يبدو كانت الباصات تأخذ سابقاَ المجندين إلى محطة القطار في الدرباسية أو في القامشلى, لأن الأغاني الشعبية توصف المكلفين عندما كان يسير بهم القطار إلى حلب, إلى مركز الفرز في ثكنة ابراهيم هنانو. بينما كان يتم سوق الرتباء والمتخلفين افرادياَ. قبل يوم السَوق بـأكثر من عام, كان يخضع المكلف للمعاينة. وكانت المعاينة ذي شقين, أحدهما صحي وآخر عقلي لمن لم يكن قد حصل على شهادات دراسية. وكان يقتصر الفحص الطبي على التأكد من أن المكلف يتمتع بيدين سليمتين,و بقدمين مقعرتين (ليس تاپاناَ) وبخصيتين غير مفتوقتين. وكان يقتصر الفحص العقلي على إجراء اختبار في تطبيق أشكال مقصوصة. كانت الفحوصات شكلية بحتة. فكان يتم سَوق الكثير من ذوي الإمكانيات العقلية أو الجسدية المحدودة. فقيل بان محمود بن رفاعي الكرمي كان ذو عاهة في ساقه, لكن مع ذلك لم يعف عن الخدمة العسكرية. كنت مرة في مقهى كوێ, فدخل أحد الشباب المقهى, وكان أحول العينين, فرحب به أصدقاءه, وسأله أحدهم عن القطعة العسكرية التي يتوجب عليه الالتحاق بها. فعرفنا بأنه كان متخلفأ عن السوق, وأنه قد سلّم نفسه طوعاَ, فتعجب أحدهم كيف لم يعف صحياَ هذا الشاب من الخدمة, فأسرع رجل خفيف الظل وتطوع للإجابة عن الشاب, وقال انه كان سلقاَ يعرف بان هذا الشاب سيتم فرزه إلى إدارة قوات القصف العشوائي. وقال آخر يبدو أن الطبيب العسكري الذي عاينه كان أحولاَ أيضاَ. وبعد ذلك أصبح كل يذكر الحالات المشابهة أو الأكثر غرابة التي رآها أو سمع بها. كان يتلقى شباب عاموده المعاملة السيئة من قبل رؤسائهم, ولذا كان البعض منهم يخالف هؤلاء الرؤساء, ويتعرضون للمحاكم العسكرية’ ويقضون مدد طويلة من العقاب في السجون العسكرية. ذكر لي مصدر كردي مطلع بأنه, في احدي الفترات, كانت كل المسؤليات الداخلية الهامة في سجن تدمر مسندة إلى مساجين من عاموده, فكان أحمد حسو مسؤولاً عن البلديات العامة, وكان حسن علي مسؤولاً عن السخرات العامة, وكان لقمان عكو مسؤولاً عن المهجع رقم 21 الشهير, بينما كان خورشيد حسن مسؤولاً عن الشؤون الكهربائية في السجن. نعم كانت لهم مواقع هامة في السجن وليس في الدولة. كان(عڤدكو) عبد الرزاق موسى يوسف معتوهاَ, لكنه كان يبيع بطاقات اليانصيب في القامشلي ليساعد والده في إعالة الأسرة. لم تعفه السلطات من الخدمة العسكرية, ونتيجة لتعرضه للمعاقبات وسوء المعاملة من قبل الرؤساء العسكريين جنّ عڤدكو أثناء الخدمة العسكرية التي طالت به سنيناَ وسنيناَ. خلف أوسێ شارو, الذي كان قصاباً في عاموده,عاقبه الرؤساء في الخدمة العسكرية, وتم سجنه في سجن تدمر الشهير,فعاد إلى أهله وبلدته مجنوناَ. وهكذا سمعت أن أحد أولاد بيت مجدو, الذي كان فناناً, قد جنّ بعد أن عاقبته السلطات أثناء الخدمة العسكرية الالزامية. قال لي أحد العاموديين المسنين بأن سكان عاموده قد ضحوا الكثير من أجل الدولة السورية. وقال آخر نعم إن السلطة السورية تقبل بالعاموديين شركاء في التضحية والعطاء والواجبات تجاه الوطن, و لا تقبل بهم هذه السلطة كأصحاب حقوق في الوطن. وهذه الأحاديث ذكرتني بالناس الذين تم تجريدهم ظلماَ من الجنسية السورية. تذكرت عبد الرحمن بكر الذي خدم في الجيش السوري, وتذكرت أنه زارنا ببذلته العسكرية عندما كان في اجازة, وكان يدخن يومها سيگارات خصوصي للجيش. التقيت به في عاموده وكان قد جردته السلطة من الجنسية السورية, ولم تسعفه خدماته أو ذكرياته في الجيش السوري. تذكرت المجرد عن الجنسية شيخموس حسن, الذي استشهد والده في تل حبش أثناء القصف الفرنسي لعاموده وقراها, وهو أيصاَ, أي شيخموس, كان يأتي لزيارتنا في إجازاته أثناء الخدمة العسكرية. أتذكره أيضاً, كيف كان فيما بعد يلتمس سماسرة كتاب النفوس, و يرشيهم لاستعادة جنسيته المسلوبة. اذا كانت مهمة مركز مؤسسة تجارة وتصنيع الحبوب(الميرا) هي وضع المحاصيل الزراعية في عاموده تحت تصرف السلطة, و أغناء مخازن الدولة و أمرائها في دمشق, فمهمة شعبة التجنيد في عاموده هو وضع شباب عاموده تحت تصرف ضباط لا يعرفون من عاموده وسكانها إلا ما طاب لهم. لا يتلقى أهالي عاموده المعاملة التي تليق بهم, و لا تتناسب حقوقهم مع تضحياتهم من أجل الوطن. وعندم قرأت مسودة هذه الحلقة لصديق من عاموده, أكد لي هذا الخير بأنه لم ينتفع أي ممن ذكر اسمهم في هذا الحلقة من الأراضي التي استولت عليها الدولة في منطقة عاموده, ووزعتها على العشائر العربية التي أتت بها من مناطق بعيدة عن عاموده. ولذلك كان بلبل عاموده رفعت داري يقول على لسانهم و بلسانهم لا تذهب! لا تذهب! لا تذهب إلى العسكرية أيها الحبيب.


٢٢‏/٩‏/٢٠٠٩

خالد عيسى: خواطر عامودية. عذراَ من سعيد آغا الدقوري ومن ابنه محمد. عذراَ من رشيد كرد وجكرخوين وعبدي تيلو وصالح حج علي ويوسف حج حرسان وغيرهم من الرعيل الأول. وعذراَ من أسر ضحايا سينما عاموده وسجن الحسكة, وعذراَ من ضحايا أمين الحافظ ومصطفى رامحمداني وأحمد عبد الكريم ومحمد طلب هلال وأمثالهم الذين شملوا عاموده بظلمهم. عذراَ من ضحايا رمضان عبيد ويوسف طحطوح ومصطفى شعبان وعلاوي السطم, وعذراَ من ضحايا من سبقهم ولحقهم من الجلادين الذين حكموا في عامودا. عذراَ من أبناء عاموده الذين شيدوا مجدها بأياديهم وأقلامهم, بانتفاضاتهم واحتفالاتهم, بزراعتهم وتجارتهم وحرفهم, ومن الذين دفعوا ضريبة انتمائهم بدمائهم وحرياتهم وأرزاقهم. عذراَ منهم جميعاَ لتقصيرنا بحقهم, لأنهم يستحقون و تستحق بلدتهم الشامخة أكثر بكثير عما كتب عنهم وعنها. ولنذكر من الأبرار زبير صوفي عمر وعصمت سيدا وغيرهم ممن لم يكفوا عن الدفاع عن أهلهم في عاموده ومثيلاتها من المناطق الكردية ولنرفع على أضرحتهم راية الوطن الذي أخلصوا له. ولتنضم أسماء أخرى إلى أسماء الشيخ توفيق والشيخ عفيف و حسن دريعي وسليم بركات وأحمد حسيني ويونس الحكيم وغيرهم من شيوخ الأدب و أعلام القلم في عاموده. خدمت في بلدة عاموده في عامي 1977 و 1978, بصفة رئيس مركز توزيع الأعلاف. و قد استطعت خلال هذه الفترة التعرف على البعض من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في هذه البلدة العريقة. كنت أثناء وجودي في عاموده أكتب أحياناَ ملاحظاتي في كراس صغير. كنت أعتمد في ذلك على ملاحظاتي وعلى أحاديثي مع بعض الأصدقاء والمعارف من هذه البلدة. وكان المرحوم فلمز بن فرج شيخو كورو يروي لي بشكل مرح الكثير من القصص التي تعكس بصدق الحياة العامة في تلك الفترة في عاموده. وكان ابن عاموده الوفي,أحمد بديع بن أمين البارافي مصدراَ لا ينضب من المعلومات عن مختلف أوجه الحياة في عاموده.و محمد علي بن عبدو كروتو كان مستودعاَ لأغلب النكت والفكاهات الشعبية العامودية. وهاني الحسيني, وغالب عبدي, وفرحان سيد علو وعبد الرزاق بن هادي أغا و عبد الفتاح عيسى (من بيت فاتمه), وغيرهم كثيرون الذين أغنوا ثقافتي العامودية خلال العامين المذكورين. وفي الفترة القصيرة التي كنت معيداَ في جامعة دمشق,توطدت علاقاتي مع الكثير من المثقفين والسياسيين من أبناء عاموده, وازدادت معرفتي عن عاموده, لكن لم أجد الوقت اللازم والمناسب لتدوين معلوماتي على شكل دراسة علمية وفيما بعد, في المهجر, لم أتمكن من الحصول على ما كنت قد كتبته عن عاموده, وللأسف لم أتمكن من أنتهاز الزيارة القصيرة التي قام بها إلى باريس صديقي الأستاذ أبو عبد الستار عبد الرحيم عبدي, الذي هو أشبه بموسوعة حية عن ماضي عاموده وحاضرها. وإذا كان قصر الوقت لم يسعفني, فأدعو المهتمين والباحثين إلى الاستفادة من معلوماته الوافرة وخبرته الغنية. ومن باريس, وفي شهر آذار عام 2007 , أي بعد مرور حوالي ثلاثين عاماَ من مغادرتها, حاولت العودة بذاكرتي إلى عاموده و إلى الحياة فيها. و الذاكرة قاصرة على إعطاء صورة دقيقة عن عاموده وعن شعبها. ورغم استعانتي ببعض الأصدقاء المهاجرين, بقي هذا العمل ناقصاَ. وأقول سلفاَ بأن اللمحة الموجزة التي أكتبها ليست إلا معلومات متفرقة لا تتناسب و المكانة الهامة التي تحتل عاموده في جغرافية وتاريخ الوطن الذي أنتمي إليه. فمن وجد فيه من خطئ فليصححه مشكوراّ, ومن وجد فيه نقصاَ فليكمله إن أراد ذلك. ومن شعر بغبن فليعذرني, لأن كل ما ذكرته لم يكن بقصد الإساءة أو الحط من قيمة أي كان. عندما أكتب هذه المعلومات اليسيرة والمتفرقة عن عاموده أراني مديناَ إلى الأبد إلى الأرض التي أنجبتني ويزداد شعوري بالتقصير تجاه الشعب الذي أنتمي إليه. و هذا الشعور هو الذي شجعني إلى التجرؤ في نشر هذه اللمحة المتواضعة ولو بصيغتها الناقصة, عسى أن أتمكن في المستقبل من القيام بدراسة أكثر جودة. أولاَ:المدخل الغربي قبل الدخول إلى عامودا مباشرة من جهة الغرب, عبر الطريق الآتي من الدرباسية, كانت ضاحية كندكى قاسو تستقبل الوافدين. ومن مشاهير هذه الضاحية ابراهيم تقليلو وخليل مشقى. فكان ابراهيم تقليلو يشتهر بقدرته على تتبع آثار السارقين (الحرامية). و كان شريكاَ للحج أورخان دباغ في الكرمة التي تقع على (القلاج) الواقعة في الجهة الشمالية من الطريق, أي باتجاه سكة الحديد التي تفصل المنطقة الكردية بين سورية وتركية. وكان لتقليلو الفخر في السمعة الطيبة والسيرة الحسنة لأولاده. أمّا خليل مشقى فقد كان مصلحاَ للساعات, وخاصة ساعات الجيب. وكان الساعاتي خليل مشقى قد أقام مزاراَ في زاوية حديقته في (كندكي قاسو),لأن عمله كساعاتي لم يعد مردوده المالي كافياَ بعد أن غزت الساعات الصينية الرخيصة الأسواق,فبحث خليل مشقى عن مورد آخر للرزق. فزعم أنه رأى في المنام الرسول محمداَ و كان وافقاَ في إحدى زوايا حديقة داره(حوش) المطلة على الطريق العام القادم من الدرباسية. فأقام في تلك الزاوية مزاراَ ليتبرك إليه الناس وليتصدقوا على راعي المزار. وكان منام صاحب المزار مشكوكاَ فيه من قبل شباب عاموده. قال لي أحد الأصدقاء مرة: بجانب الزاوية التي ظهر فيها الرسول في (كندكي قاسو) يمر كل من يدخل عاموده من جهة الغرب. وبذلك يدخل البلدة طاهراَ ومباركا, فهل سيحتاج من بعد ذلك إلى تطويف حجرات الشيوخ والتبرك بالتكيات العامودية؟ !.َ وقال لي أحدهم.تصور لو توجه نصف حجيج الجزيرة إلى كندكى قاسو بدلاَ عن التوجه إلى المكة!. ويحكى أن عبدي خلف شيخو (أبو شيخو), وهو عامل كردي, أسمر البشرة وطويل القامة, قد قال مرة عن هذا المزار, "عجباَ ألم بر محمد مكاناَ آخر أنسب له من هذه الزاوية من (حوش) حديقة خليل مشقى. ليظهر للناس في(كندكي قاسو)" ؟!. كان عبدى خلف شيخو من الأكراد المجردين من الجنسية, وكان معروفاَ بمحبته لزوجته, لأنه لم يتزوج رغم أنها لم تنجب له ولداَ. وكان بيته إلى جوار بيت أخيه القراش صالح شيخو(اسم زوجته به كى) في حي آشى علاوي(طاحونة علاوي). وكان أبو شيخو سريعاَ في مشيته, إذ كان يأتي إلى السوق ويعود منها إلى داره سيراَ على الأقدام في اليوم عدة مرات!. وكان يحكى أنه مرّة بينما كان أبو شيخو مسافراَ إلى خارج الحزيرة, فأوقفت دورية أمنية الباص لتفتيش هويات الركاب. وعندما وصل الدور إلى أبو شيخو طلب منه رجل الأمن هويته, فأبرز أبو شيخو الوثيقة الممنوحة لأكراد الجزيرة ممن سحبت منهم السلطة الجنسية السورية منذ 1962, فلم يفهم رجل الأمن الوضع القانوني الشاذ لأبو شيخو الذي بدأ يتلعثم خوفاَ, وسأله فيما إذا كان لاجئاَ سياسياَ؟ فرد عليه أبو شيخو بالإيجاب (نعم سيدي) ودون أن يفهم السؤال بشكل جيد . لكن بدأ رجل الأمن بطرح عليه المزيد من الأسئلة, فقال له أبو شيخو البريء من كل ذنب إلا من كرديته " سيدي إذا كان في زه ر ه ر والله مو أنا" أي إذا كان فيما أجبته ما يسبب المسؤولية أو الضرر فأسحب جوابي. وكان يقال بأنه عندما تشاجر أبو شيخو مع أحدهم, وأثناء الاستجواب قال بعربيته المكرّدة " والله سيدي هادا سحب عليّ شوور" فلم يفهم رجل الأمن ما قاله أبو شيخو لأن الشور كلمة كردية تعني السيف بالكردية. وسمعت أن أبو شيخو كان, لتأمين مقتضيات معيشته, يخاطر أحياناَ بحياته في التجارة (التهريب) بين عاموده والمناطق الكردية المجاورة ضمن الحدود التركية. وكان قد أصيب مرة بجراح أثناء مرافقته لفرجى شيخو كورو. كان أبو شيخو قد باع مرة مسدساَ لإبراهيم إسماعيل ايبوو, وبعد ذلك طلب من إبراهيم الخروج من الدار, ثم قال له "أترى تلك الصخرة" فأجابه ابراهيم بنعم! فقال أبو شيخو "انك لم تشتر المسدس إلا من تلك الصخرة, لا بعتك ولا أنت اشتريت مني"!. أمّا صالح شيخو فكان يعمل قراشاَ (طحاناَ) في المطحنة. وكان القراش هو الشخص الذي ينظم الدور في المطحنة فضلاَ عن عمله في تعيير آلات الجرش ومراقبة الطحن, ومحاسبة الزبائن أحياناَ. وكان القراش معروفاَ من قبل الجميع لأن كل الناس كانت تأخذ القمح إلى الطاحونة لطحنه, وكانت النساء تخبزن على الصاج أو في تنور البيت أو الحي. وفي عامي 1977 و 1978 كانت الطاقة الإنتاجية لأفران عاموده لا تسد حاجات السكان. وكانت أزمة الخبز لا تقل عن أزمة العلف في مختلف أنحاء الجزيرة. كان معروفاَ عن صالح شيخو بأنه كان يعمل في الطاحونة حتى العصريات, ومن ثم يقف بجانب الحائط يفصفص البذر(بذر الجبس أو البطيخ أو عباد الشمس). وكانت زوجة صالح هي (به كى) المعروفة بشخصيتها (الرجّالية) القوية, وشهامتها الشهيرة. ويقال أن به كى كانت ستقود بلداَ لو كانت قد ولدت في ظروف أخرى.



الشاعر السوري عبد المقصد الحسيني لـ(الزمان): استعادة الذاكرة مثل تحرير رهينة من قرصان حوار: جوان تتر.
الشاعر السوري (عبد المقصد الحسيني) منذ سنواتٍ قديمة يدوِّن قلقه وشغفه بالدّيوك المتصارعة، لقصائدهِ رائحة غامضة وعوالم متخفية أو بالأحري (هو من يخفيها كساحرٍ)، قصيدته تنجذِب في أغلب الأحيان إلي دائرة اللّا معني لنقف حياري لا نعرف درب الخروجِ من القفص (قفص اللاّ معني) وإن حصل وخرجنا تبقي كلماته في الذّاكرة التي تجتهِِد عبثا العثور علي المعني، أصدر إلي الآن شعرا (حارس الهواء) و (مآتم النسيان) و (المهارش) وفي مجال الرواية ثلاثيته التي أنجز منها الجزء الأوّل والجزء الثاني والمعنونة ب (حجّاج العتبات الترابيّة) أمّا الجزء الثالث فهو قيد النشر، عن الشعر والرواية والغموض كان هذا الحوار :التذكّر كان حقيقيا في الماضي وأصبح عالما وهميا الّلحظة، التذكّر إلي أي مدي يؤثر علي الكتابة عند الشاعر، كيف تعامل الذاكرة؟
ــ إستعادة الذاكرة بأقاليمها.. و فصولها و شخوصها عملية مرْهِقة مثل تحرير رهينةٍ من أيدي القراصنة، أفرش الذاكرة بوحوشها المتفرِّسة أمامي
وأنبش كعالِمِ آثار لأحصل علي جوازٍ لتدوين مانهِب، الذاكرة لدي مغتصبة منذ الأزل ومرهونة، عليّ أن أقتل حرّاسها ومن ثمّ العودة إلي مقتنيات الروح لنمضي معا سهرة في تجميل العتمة.
û تحت مسميّاتٍ عِدّة كتب شعراء كثر،مارأيك بالتصنيفات الشعريّة؟
ــ التصنيفات الشعريّة مثل موديلات قصّْ الشعر الآن، لا يهمني سوي الإبداع، تلك المسمّيات قد أزيلت بفعل عوامل الحتّ والترسّب، ولكل فصلٍ مسميّات وقراصنة، لم نستطع أن نواكب تلك التصنيفات لأن ذاكرتنا كانت ضعيفة ومترهلة، ومن نتائج التطوّر الاقتصادي أنّها أمْحتْ التصنيفات الجميلة لدينا منذ القدم وازدهر سوق عكاظ في التاريخ.
û أنت تكتب الرواية إلي جانب الشعر،إلي أين وصلت في مشروعك الروائي؟
ــ أخون حالتي، لكنني أجدِّد العزيمة علي مواصلة الجنون، أحيانا أبقي لقيطا مرهقا في السرير، فأتجه إلي الرواية، أنجزت الجزء الأول والثاني من الثلاثية (حجّاج العتبات الترابيّة) والجزء الثالث قيد الإعمار والترميم وبحاجة إلي ترخيص من البلدية (يضحك)، في المشروع الروائي أعلِّق روحي علي المشجب تحت أشعة الشمس لتتجدّد الخلايا ولتفرّ الجراثيم، في الرواية خيالي منتحر من كثرة الأساطير الموجعة والحكايات المحرّمة ولكنني أعود إلي القصيدة حينما تفور الشهوة علي البياض، النص الشعري أحبّ إليّ إن كان خيالي يتجوّل أمامي طليقا.
û لماذا الغموض في كل كتاباتك؟
ــ للغموض شهوة، وشهوة الروح تكْتب علي البياض فلا بدّ من الوقوف بإجلالٍ واحترام أمام تلك الحالة، الغموض ليس طلاء جدار معبد أو بيت إنما حالة طبيعية، فلكل إنسان حالته وظروفه، الغموض ليست عملية قيصرية بل حالة أمارسها في الحياة، الغموض لذة مقدّسة في النص ولكن القارئ الرّاهن كسول ومترهل الذاكرة والوعي، علينا إعادة تأهيل الإنسان الحاضر وتنمية روحه بالثقافة عِوضا عن ثقافة الأعراس والهاتف النقّال كي يستطيع إكمال الحياة.
û في المشهد الشعري الراهن نلحظ وفرة من الإصدارات الشعريّة برأيك هل يعكِّر ذلك المشهد الشعري أم هو دلالة علي النضج الشعري؟
ــ المشهد الشعري كسوق الماشية، وفرة الإصدارات الشعرية ليست مصدر صحوةٍ، إنما عراك علي البياض بدون فائز، الخاسر الأكبر هو الإبداع، هناك انقباض في الحالة البشرية نتيجة الكوارث التي تتفرّس البشر، فالمشهد الذي تدّعي سراج ضرير لا يري البياض، يبقي الإنسان حائرا مهبولا يتفرّس لعابه لأن حقل الثقافة يتصحّر بمعونة ملّاكي الإستثمارات، المشهد مخيف يستند إلي مواثيق مزوّرة وشخوص ضبابييّن.
û حدِّثنا عن ذاتك الشعريّة؟
ــ ليس الشعر عملية تربويّة، بل حالة ميتافيزيقيّة، لذا أبحث عن ذاتي فأجدها خارج السرب، أنقِّش فضائي بأحلام اليقظة اللقيطة وأرتمي علي ظلي النحيف لكي لا أزعج الموتي وأدوِّن شهوة القدر، نفترق أحيانا لنعيش طلقاء، فأنا كالعرّافة علي صهوة البياض ولا أبخل علي الروح بالمهدِّئات كي أفرش الصباح النقيّ أمامي.


٢١‏/٩‏/٢٠٠٩

سما كرد : سفيرةُ الغِناء الكرديّ الأوبراليّ إلى العالم : مزكين طاهر في ضيافة سما كرد . ليسَ صعباً اللقاءُ (بمزكين طاهر ), فهي التي تريدُ لقاءَ الأدباء والفنانين أينما كانوا , و ليستْ غريبة عن مدينة عامودا التي عرفتْها قبلَ إنطلاقتها الغنائيّة , بلْ قبلَ شهرتِها . هذا المنزلُ ( منزل الشيخ عفيف )عرفها جيّداً , عرفها وزوجها تيمور عبدكي قبلَ أكثرَ من عشر سنوات . مزكين طاهر حينَ تقيمُ حفلاً فنيّاً في دمشق , يتبادرُ بعضُ مثقفي هذه المدينة ( عامودا) لحضور حفلها , والاستماع إلى صوتها ( الطاهر ) : صوتها حينَ تغني , و صوتها حينَ تتحدّثْ . حينَ غنّتْ مزكين في احتفالية دمشق عاصمة للثقافة , كان ثمة مقالٌ نقديّ عاصف : ( مزكين طاهر : تغني في العراء ) كنتُ أظنُّ أنها ستنتقدُ ما كُتِبَ عنها , فتفاجأتُ ( لم أتفاجأ ) بأنها هي مَنْ تريدُ أنْ تغني – أوّلاً – في منطقة الجزيرة , وتالياً في الأمكنة الأخرى , لأنها من هنا,وإليها .
س1- بحسب اطلاعنا : إنّ (مزكين طاهر) أولُ مغنية أوبرالية كرديّاً , ما سببُ اختياركِ لهذا الغناء غير المسبوق ؟ ج1- أنا من عائلةٍ فنيّةٍ كانتْ تُقامُ في بيتنا أمسياتٌ للغناء الكرديّ الشعبيّ ( أغاني (دنگبيژ ) وكون والدي من المغنيين الشعبيين في تلك الفترة :(نجيم أومري) إضافة إلى تلك الأمسيات كان يلفتُ إنتباهي شيءٌ آخرُ, في القناة التركية حيث كانتْ تعرضُ أسبوعياً برنامجاً موسيقيّاً تُقدّمُ فيها (أوبرا أو كورال كلاسيكي.( الغناء الشعبي الكردي (دنگبيژية) مدرسة فنيّة بحدِّ ذاتها , حيثُ كان دائماً يخطرُ ببالي سؤالٌ: كيف باستطاعتنا أنْ نجعلَ من هذا الغناء الشعبي مدرسة فنيّة عالميّة مثل الذي يعرض في التلفاز؟ لذلك أردتُ أنْ أدرسَ الموسيقا والغناء بشكله الأكاديميّ لعلي أستطيعُ إيجادَ جوابٍ لهذا السؤال. س2-ما هي طبقاتُ الصوت التي يجبُ أنْ تتوفرَ للمغني – المغنية كي يجيدَ غناءً أوبراليّاً ؟ ج2- ينقسمُ الصوتُ في الغناء الأوبرالي على النحو التالي: - سوبرانو: الصوت الرفيع للفتاة (الطبقات العالية) - ميتسو سوبرانو: صوت الفتيات بين الرفيع والثخين (الطبقة المتوسطة) - ألتو: صوت الفتيات الثخين العريض (الطبقة المنخفضة) - تينور: صوت الشباب الرفيع (الطبقة العالية) - بريتون: صوت الشباب المتوسط بين الرفيع والثخين (الطبقة المتوسطة) - باص: صوت الشباب الثخين (الطبقة المنخفضة) بهذا الشكل ,كلُّ الأصوات البشرية تستطيعُ أنْ تغني غناءً أوبرالياً ,هذا إذا كانتْ أصواتاً جميلة، ولكنّ أسلوبَ الغناء الأوبرالي يحتاجُ إلى تمرين ودراسة. س3-( مزكين طاهر أضاءتْ ليل دمشق بصوتها ) هذا ما كتبته الصحفُ غيرُ الرسميّة ؟ و غنتْ بوساطة فرنسيّة ؟ ج3- حفلتي الأولى بعد التخرّج كانتْ برعاية المركز الثقافي الفرنسي بدمشق ,وهكذا عُرفتُ من قِبلِهم , وأصبحتْ لديّ علاقاتٌ ومعارفُ في المركز , فكلما تأتي مجموعة موسيقية فرنسية ,وإذا وجدوا بأني أنسجمُ معهم فنياً كانوا يُعلمونني فيما إذا أردتُ العملَ معهم ,أم لا، هذا ما حصل معي و(مينا أغوسي) مغنية الجاز الفرنسية قدمنا معاً حفلتين بعنوان "الجميلة والوحش" وأدّيتُ معها أغانيَ من ملحمة "سيامند وخجي" في كنيسة في مدينة حلب وفي دمشق في دار الأوبرا، وأيضا مع فرقة (دي. جي. أول) للموسيقا الإلكترونية غنيتُ معهم أغانيَ من التراث الكردي (بايزوك) في دمشق في قلعة صلاح الدين الأيوبي، ومن خلال تلك العلاقات أرادتْ صديقة فرنسية أنْ أقدّمَ حفلة ضمن برنامج "دمشق عاصمة الثقافة العربية" فأخبرت مسؤولة النشاطات الثقافية في هذا البرنامج في المركز الثقافي بـ"دمر" وبموجبه قدمتُ حفلة بعنوان "ألوان من التراث السوري" وباللغة الإنكليزية "Songs from the north of Syria" وهكذا كانتْ أغلبُ أعمالي بوساطة الفرنسيين. س4-نادراً ما نقرأُ نقداً فنياً أوبرالياً . كيفَ تمّ تقييمُ مزكين طاهر نقديّاً ؟ ج4- لأنّ فنَّ الأوبرا في الشرق عموماً فنٌ أوروبي وغريبٌ على الساحة الشرقية، ومن ناحية أخرى مؤرخو هذا الفنّ قلائل , بل و حتى نقاد فنّ الغناء الشرقي أيضاً، وبحسب تقييم المعهد العالي للموسيقا في دمشق لي فقد قيّموني بـ"جيد"، كما أنّ المجموعات الفنية التي كانتْ تأتي إلى المعهد وكنا نشاركهم في ورشات عمل مشتركة كانوا يقولون "صوت مزكين صوت خاصّ" فهو صوت للقاعات الأوبرالية الكبيرة، وأحياناً أخرى كانوا يقولون لي هل تتقنين اللغات الإيطالية أو الألمانية أو الفرنسية ؟,كان الجوابُ :بالنفي، فيقولون :النطقُ لديكِ جيد في هذه اللغات على عكس أصدقائك، كنتُ أقول أنا لستُ عربية ,فأنا كردية , ولغتي الأم لغة هندوأوروبية ,لذلك مخارج الحروف عندي مثل اللغات اللاتينية الأخرى مثل (P-J-Sch-Ch-G-V) ولكن غير ذلك , صوتي لم يُقيّمَ بعدُ على الساحة الفنية. س5-أينبغي على المغنّي – المغنية أنْ يتعلمَ فنَّ ( الأوبرا) أوّلا , وتالياً أنْ يتحوّلَ إلى الغناء ؟ ج5- لا، هنالك أصواتٌ فطرية جميلة جداً مثل المغنيين الشعبيين الكرد , وغيرهم أمثال (شاكرو - سيد علي أصغر كوردستاني - مريم خان - حسينكي أومري ... إلخ) هؤلاء عمالقة الغناء الكردي , والحديثين مثل (فقي تيرا - شفان برور - كامكاران ... الخ) أصواتهم من الحنجرة وعرب أصواتهم الشرقية تضيفُ جمالاً على أدائهم، ولكنْ يجبُ أنْ يعرفَ المغني أو المغنية الطريقة التي يغني بها على الأقل، وإذا أتقن أسلوباً آخر , مثل الأوبرا من المؤكد أنّ ذلك أفضل. س6-هل لحنتْ مزكين قصائد من الشعر الكرديّ الحديث لتكونَ مغناةً ؟ ج6- انتقيتُ مجموعة من القصائد الكلاسيكية والحديثة بألحان جديدة قصائد لـ(ملايي جزيري - بي بهار - جكرخوين - أحمد عارف ) ومن الشعراء الحديثين (تيمور عبدكي - شيرو هندي). س7- الأوبرا فنٌّ جديد على الساحة الشرقية بشكل عام والكردية بشكل خاص، كيف سيستطيع الجمهور تقبّل هذا الفنّ والإستماع إليه؟ ج7- لقد بذلتُ جهداً كبيراً لأجدَ صلة الوصل بينَ الغناء الأوبرالي والثقافة الكرديّة فغنيتُ (فيردي - موزارت - بوتشيني - جورج بيزيه ...) بقصائد كردية (جكرخوين - أحمد عارف ...إلخ) ضمن مجموعة أوبرالية يقوم بتوزيعها (محمود براز ي ) س8- غنيتِ مع أوركسترا السليمانية بقيادة عبد الله جمال ساكرمه وغنيت أيضاً مع فرق صغيرة للآلات الشرقية، أيٌ من التجربتين تفضلين؟ ج8- الغناء مع الأوركسترا دراستي وتخصصي كما أنّ حفلتي مع ساكرمه مشاركةٌ ضمن الأوركسترا (عازفون على الآلات الشرقية )وهذا ما أرنو إليه، أي دمج الموسيقا الشرقية مع الأروكسترا الغربية , ومن وجهة نظري أنّ المايسترو ساكرمه قد وفّق في هذا الدمج. ولأنه لا تتوفر دائماً هذه الفرقة الأوركسترالية الكبيرة نلجأ إلى الفرق الصغيرة كما أنه إذا كان التوزيعُ الموسيقيّ جيّداً للفرق الصغيرة فهي أيضاً تحققُ نجاحاً ملفتاً. س9- تجربتك مع المايسترو ساكرمه هل أثمرتْ بأعمال أخرى غير الحفلة التي أقمتموها؟ ج9- نعم المايسترو ساكرمه يؤلفُ الآن موسيقا للأوركسترا , ولي في بريطانيا , وستكون في مجموعة أخرى إن شاء الله. باسم مدير مؤسسة سما كرد للثقافة و الفنون : الأستاذ عارف رمضان , وباسم أُسرة سما نتمنّى لمزكين مزيداً من الـتألّق في رحلتها الغنائيّة .
ملاحظة : الحوارُ و الصورُ خاصّة بسما كرد , لا يجوزُ نقلهما و الاستفادة منهما إلا بإذن , أو بالإشارة إلى ( سما كرد ) . خاصّة و أنّ الصور مهداة من المغنية مزكين طاهر إلى سما , و تُنشر لأوّل مرة .


٢٠‏/٩‏/٢٠٠٩

السهروردي: ابن حبش (549 - 586هـ، 1155 - 1191م). أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك الملّقب بشهاب الدين السهروردي. ولد بسهرورد إحدى قرى زنجان في عراق العجم (إيران القديمة). اختلف مؤرخو سيرته في ميلاده. وهو أحد أعلام التصوف. أمضى السهروردي سني حياته الأولى في طلب العلم وتنقل بين مراغة بأذربيجان، وأصبهان في وسط إيران. وأمضى عددًا من السنين بالأناضول، حيث أحسن استقباله أمراء السلاجقة، ثم ذهب إلى سوريا ومات مقتولاً بحلب. اتصل السهروردي في مراغة بمجد الدين الجيلي وتلقى عنه أصول الحكمة والفقه. جرت بينه وبين الفخر الرازي مناظرات ومساجلات. وكان قد قرأ في شبابه البصائر النصيرية في المنطق لابن سهلان الساوي على يد الظهير الفارس بأصبهان، وهناك تعرف مذهب ابن سينا فترجم له رسالة الطير إلى الفارسية. وأهم مرحلة في حياته هي تلك التي قضاها في حلب، حيث اجتمع بعظمائها وعلمائها في عهد الملك الظاهر بن الناصر صلاح الدين، وجادلهم وظهر عليهم، فقربه الظاهر وصار مكينًا عنده، فوشى به الفقهاء عند الملك صلاح الدين وقالوا له إنه سيفسد عقيدة الملك الظاهر، وطعنوا في عقيدة السهروردي عند الملك صلاح الدين، فأشار على ابنه بقتله، وقيل إنه أعدم في قلعة حلب أو في مصر، أو تُرك حتى مات جوعًا في سجنه. وكان ذلك في سنة 586هـ، 1191م. كان السهروردي إشراقي النزعة في تفكيره، وقد تجلت هذه النزعة الإشراقية في كتابه حكمة الإشراق ، إذ إنه جمع فيه بين المنطق والتصوف. وكان منطقه أقرب إلى منهج أرسطو اليوناني في المنطق، وتصوفه أقرب إلى فلسفة أفلاطون اليوناني الإشراقية في بعض جوانبها. وقد اتصلت فلسفته أيضًا بهرمس وأنبادوقليس وفيثاغورث من فلاسفة اليونان الذين كانوا يتفلسفون قبل سقراط. تأثر أيضًا بالمذهب الزرادشتي في النور والظلمة، فجاءت فلسفته في التقابل بين النور والظلمة، ويرمز إلى الروحاني بالنوراني وإلى المادي بالظلماني، وإلى الله بنور الأنوار. ويمكن تلخيص فلسفة السهروردي بأنها مزيج من الأذواق الصوفية والأنظار الفلسفية. وقد أشار أحد مؤرخي سيرته إلى أن أحد أسباب قتله قوله بأن النبوة بمعنى الإمامة ممكنة الحصول دائمًا وفي كل عصر، وقد أخذ كلامه على ظاهره فأُهدر دمه. أحصى مؤرخو سيرته له من المصنفات ما يربو على الأربعين مصنفًا في الفلسفة الإشراقية والحكمة، من المنظوم والمنثور، ومن أهم هذه المصنفات حكمة الإشراق ويتكون من قسمين في المنطق والإلهيات ؛ الهياكل النورية ، وفيه تظهر جوانب فلسفته الإشراقية وترجمه هو بنفسه إلى الفارسية؛ رسالة غربة الغربية وهي قصة رمزية تأثر فيها السهروردي بقصة حي بن يقظان لابن طفيل. وقد ترجم رسالة الطير لابن سينا إلى الفارسية. وله رسالة تفسير آيات من كتاب الله وخبر عن رسول الله ³. وله كتاب في السيميا، وله أيضًا شرح الإشارات لابن سينا ؛ وكشف الغطاء لإخوان الصفاء . وله طائفة من المنظومات ذكرها ياقوت الحموي في معجم الأدباء، منها قصيدة نزهة الأرواح التي مطلعها: أبدًا تحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والراح.


١٩‏/٩‏/٢٠٠٩

سحبان السواح:العرب يستنمون مخدرين على مسلسل باب الحارة. لأننا شعب تعود أن يَكذب ويُكذب عليه. يَسرق القليل، ويُسرق منه الكثير. يُخيف من هو أضعف منه، ويموت خوفا ممن هم أقوى منه. شعب تربى لمئات السنين على أن يكون مهانا، ومستضعفا، وذليلا، ودون سند. لذلك كله يمتعه مسلسل كمسلسل باب الحارة بأجزائه كافة، يمتعه أن يجلس ليلا ليرى الكذب ويصدقه، يرى انتصار حارة شامية صغيرة على جيش فرنسا الذي قصف البرلمان حين لم يعد أمامه مفر من ذلك، وأذل الشعب السوري لمدى طويل، ومع ذلك يصدق عنترية معتز، وهدوء واستقامة عصام وقبلها في الجز الثالث أبو شهاب وفي الأجزاء الأولى أبو عصام، وشهامة أبو حاتم ويضحك على أبي بدر، شخصيات كرتونية تجعلنا نسترخي فنحن شعب منتصر "ماشاء الله علينا" ولا أحد يقدر علينا. كما حين لم يكن هناك تلفزيون، وحين يحكي الحكواتي قصة الزير سالم وعنترة وأبو ليلى المهلهل. كان رواد المقاهي يخرجون والنشوة تتملكهم، فهؤلاء الذين حكى عنهم الحكواتي منتصرون دائما على أعدائهم، وبالتأكيد سينتصرون هم كذلك على أعدائهم. من منكم يتذكر نصرا للعرب في عصرنا الراهن، من منكم يتذكر نصرا منذ استقلالنا عن الإمبراطورية العثمانية بتحريض من الغرب وتصديقنا لمقولة أمة عربية ووطن عربي. من منكم إلا وتحمس لنصر الآخرين الذي لم يستطع أن يحققه هو. ألا يعني هذا أن المحطات التلفزيونية التي تمول مسلسلا كباب الحارة أو غيره من المسلسلات المشبوهة، تريد منا أن نصدق ما يكتبه لنا كتاب لا يصدقون هم ما يكتبون.. ويقبضون مبالغ هائلة ثمن كذبهم، من أجل أن يجلس ثلاثمائة مليون عربي ونيف يتجمدون أمام شاشات التلفزيون يشاهدون الكذبة الكبرى ويحلمون بنصر قادم وقريب على عدوهم الصهيوني.. فما دامت حارة دمشقية انتصرت فلماذا لا ننتصر نحن أيضا. مع أنهم يرون النازحين والمهجرين يسكنون إلى جوارهم ويستمتعون معا بنصر حارة على جيش فرنسا العظيم. يكذب من يقول لكم أنه يشاهد باب الحارة ليكتب عنه، أو لينتقد، أو ليشاهد تفاهاته، بل يشاهده لأنه يرضي شيئا في داخله، كما الاستنماء تماما، يعطيك الحس بالراحة وكأنك قمت بفعل الجنس، وحقيقة الأمر أنت لم تفعل سوى استخدام خيالك ويدك لتستنمي وترتاح من احتقان طويل .. طال زمنه كثيرا. باب الحارة عملية استنماء جماعي يمتد من المحيط إلى الخليج، إلى العرب المهاجرين في أصقاع الدنيا، يستنمون كل ليلة وهم يشاهدون باب الحارة، ثم يذهبون إلى فراشهم وقد فرغوا شحنة كانت تضغط على أحشائهم. هي كذبة كبرى، تريح الكثير من الحكام العرب، الذين يرون أن كذب محطات التلفزة يساعد على تخدير شعوبهم ليستطيعوا تمرير صفقاتهم المشبوهة وشعبهم مخدر. هذا نحن ولنعترف؛ شعب مقموع، ومخدوع، ولا نستطيع أن نفعل شيئا، لذلك ليس أمامنا إلا أن نحلم مستفيدين من قصص خيالية يمكن أن تتحقق يوما .. أقول لكم لاشيء سيتحقق.. وليس من صلاح الدين جديد.
موقع ألف.



١٧‏/٩‏/٢٠٠٩

السهروردي: الغربة الغربيّة. سافرت مع أخي عاصم من ديار ما وراء النهر إلى بلاد المغرب للصيد، فوقعت بغتة في القيروان، ولما عرف أهل المدينة أننا ابنا الشيخ الهادي بن الخير اليماني حبسونا في بئر سميكة. وكان للبئر الشديدة الظلمة قعر ذو أبراج. وفي كل مساء كنا نشرف على الفضاء من كوة في القصر وتزورنا بين الحين والحين حمامات من اليمن تومض من الجانب الأيمن الشرقي فنحنّ إلى الوطن ونشتاق إليه. وفي ليلة قمراء دخل علينا الهدهد يحمل إلينا الخلاص، فقال لنا: جئتكما بنبأ وأعطانا رقعة من أبينا كتب عليها أن التخلص من غيابة الجبّ مرهون بالاعتصام بحبل الألف القدسي، وبقتل الزوج وبركوب السفينة والتوجه إلى حيث نؤمر. فنفضت عندها ذيلي وسرت مع أخي والهدهد حتى إذا سامت الشمس الرؤوس ووصلنا إلى طرف الظل ركبنا السفينة باتجاه صومعة أبينا القائمة على جبل طور سيناء، إلا أن الموج حال بيني وبين ولدي فغرق. ولما أشرفنا على الصبح علمت أن القيروان التي تعمل الخبائث ستسام عذاباً عظيماً وفي مواضع تلاطم الأمواج أخذت ظئري وألقيته في اليم، حتى إذا مررنا بجزيرتي ياجوج وماجوج في الجانب الأيسر من الجودي، أمرت الجن وكان منهم من يعمل بين يدي، أين يفصلوني عنه، ففعلوا وعاينت في طريقي جماجم عاد وثمود. ثم أخذت الثقلين مع الأفلاك والجن وجعلتها في قارورة صنعتها مستديرة، وقطعت الأنهار من كبد السماء، وألقيت. فلك الأفلاك حتى طحنت الشمس والقمر والكواكب، وتخلصت من أربعة عشر تابوتاً وعشرة قبور. أما أخي وأهلي فقد هلكوا جميعاً. وفي الطريق رأيت سراجاً عليه دهن ينبجس منه نور ينتشر في الأرجاء. فوضعته في فم تنين ساكن في برج دولاب ما عرف مطارح أشعته إلا «الراسخون في العلم». ورأيت الأسد والثور قد غابا، وطلع النجم اليماني من وراء الغيوم، مما نسجته زوايا العالم العنصري. وكنا قد تركنا الغنم في الصحراء فأتلفتها الزلازل، ولما انقطعت المسافة رأيت الأجرام السماوية، واتصلت بها، وسمعت نغماتها، وتعلمت إنشادها حتى انقشع الغمام وتخزقت المشيمة وإذ بي أعاين صخرة عظيمة على قلة جبل كالطود هو طور سيناء والصخرة صومعة أبي. عندها صعدت الجبل ورأيت أبي شيخاً مسناً تكاد السموات والأرض تنشق من تجلي نوره. فبقيت باهتاً متحيراً منه. فسلمت عليه ثم بكيت أمامه وشكوت له من حبس القيروان، إلا أن أبي ذكرني بأنه لا بد لي من العودة إلى الحبس الغربي، لكنه بشرني أنه باستطاعتي أن أصعد إلى جنته هيناً وإنني سأتخلص يوماً من الأسر في بلاد الغرب، ثم راح يعين لي مسكن والده، وجده، ويخبرني أنه له أجداد كثيرين يرقون حتى يبلغوا الملك وهو النور الخالص.


١١‏/٩‏/٢٠٠٩

فرج بصلو:
بسكليتات وسينالكو.


العزى يجي على كيفه. وليش ياجدة العزى يجي مثل ما قلتِ. لأنو عزى ياولد. عزى! طيب ياجدة هاتي الحليب ونروح عالدوندرمجي. حكو يرافقنا من بعيد , والعزى مثل ما بتعرفي يخاف من حكو. حكو بذاتو عزى. تضحك تلملم أردانها الطويلة وتنادي: تعال ياحكو, تعال ياعزى. السطول بأيدينا ويالله تعين يارب...
أه النقود النقود! كأنما حرقت النقود جيبي لأفكر التخلص منها. هل أكري بسكليت لنصف الساعة؟ هل أشتري لحمة بعجين من يوسف إبن عمتي, كازوزة سينالكو, كاتو من فرحانو, كارز مشوي, كتاب أو مجلة من مكتبة أنيس حنا؟ ماذا؟ ليس لكل طفل نقود في الجيب. والنقود التي أملكها, أجري من جدي, جدتي, أو مصروف من جدو أبو والدتي. أمسك توب القماش, يكون مخمل, يكون ساتين, يكون بوبلين, يكون جوخ, يكون ما يكون. وهو يلف يملس اطراف التوب, ويعطيني لأضع على الرف. كل ثوب محله. الدكان, تقريباً لا حجم لها من كثرة الأتواب, والألوان, كل ألوان القزح. هو بصدر المكان خلف الطاولة والدخل. جاكيت, كرافتة, طربوش أحمر. وعيون تضوي تضوي. يقبل رأسي يضع في يدي, نصف الليرة. "مصروفك يا فرجو". والمصروف أحياناً هدية من جدتي على مساعدتي لها. ويالله تعين يارب...
نلعب, نلهو, نمرر الوقت, نمرر طفولتنا وولدنتنا. برّامات نلعب. كرة قدم نلعب. وألعاب أخرى في نادي الأرمن القريب من الحارة, أو في نادي السريان البعيد عن الحارة. ألعاب كمثل كرة الطاولة (بينج بونج), الدومينو وأشياء أخرى كالبيلياردو والبيبيفوت. هناك لهو يقضي على كل مصروفاتك ياولد. وهناك لهو لا يحتاج لغير إمكانياتك ومهاراتك الجسدية الشخصية. البرامة نشتريها من أحد النجارين, مرة واحدة إلى أن تنفلق. الكرة هدية عمي حنون من الشام. أما الأفلام او البلورات, يعني الغارات يجب تجديدها وشرائها إما من الأولاد, إما من الأكشاك والحوانيت. ويالله تعين يارب...
أحب المشي بالخف, واللعب بالخف. لأن الركض وركل الكرة أسهل من الحذاء العادي. بلعب الكرة يشاركني جميع أطفال الحارة, وحتى من الحارات المجاورة. لأنها كرتي الخاصة. ومن العزى أن لا كل طفل يملك كرة, طابة من جلد. كرة قدم حقيقة وليس كرة من الخرق البالية. كل فريق يريد إنتمائي له, إما بسبب كرتي, إما بسبب مهارتي. خليط من أطفال كل الأجيال يشكل فرق من ثمانية أفراد, لأن الشارع ضيق ولا يطول على الستين متر من مفترق لآخر. كل طفل يطلب من أهله غلق الشبابيك اللي عالشارع. واللعب بالأهداف, ثلاثة أكوال والفرقة الخاسرة تطلع برى, لتبدلها فرقة تالية. وعلى طول تربح فرقة "قلب الأسد" لأنها فرقتي. وفرقتي تضم أحسن اللاعبين. ويالله تعين يارب...
تميل شمس النهار على لو ح المغيب الأزرق, وتلمع جدران الطين, وتشع من قش السياع. ياتي فرحانو ومعه كاتو حار من الفرن. ينفق بلحظات. يقول: قبل ذهابي لأودع الفلوس من دخل اليوم,
أريد أكري بسكليت. رأسه حار حار. ساخن من حمة الصينية التي يرفعها عليه من الفرن إلى الحارة. تعال نروح نستأجر دراجات من عند أبو طرزان كيڤو, نركبها على مدى الشارع إلى كورنيش القوتلي, ونلف إلى البلودان, حد السّراي, نلف دورة ونرجع. "بس أبو كيڤو ذاك الوديع صاحب الشنب الرفيع ما بيحكي غير اللغة الأرمنية, وإشلون راح نتفاهم معاه؟". بالمصاري. الفلوس هية أحسن لغة أهم تعبير. النقود يا فرجو النقود!. ويبتسم زميلي الوسيم, زميلي الأمي. والكرة؟ أعاود أسأله. "خليها يلعبوا فيها ولما نرجع ننضم إليهم. ويقدم لي تركي إبن عمه. تركي يتيم يقول. هل أنت تركي ياتركي؟ لا أنا محلمي!. وليش ضعيف هالقد؟ ليش حذائك بالي؟ يتداخل فرحانو: خليه, هو أكبر منك ومني. عنيد ومشاكس وقوي رغم نحافتو!. طيب! ألتفت للاعبين: ياولاد حارتنا لعبوا تركي! وبس أرجع بعد نصف الساعة يطلع وأفوت بدالو!.
ينضم إلينا يوسفو إبن خالة مامتي, وحبيب بوكان إبن الصايغ اللي باعنا خاتم الذهب المنقوش بالنسر, واللي ظل في عب الجقجق نواحي الطاحونة. طاحونة جد أبوي سابقاً. يا عيني على الإثنين, الواحد صانع عند الخضرجي في العرصة وجيبوبو مليانة مصاري وتفاح زبداني. والتاني, إبن الصايغ. حبيب يمشط بالبرلانتين. يقول, جده سوّى مسابقة بين أخوته وبين أبناء عمته, اللي يشتم ببراعة أكبر واكثر, يربح. وحسب كبر الشتيمة وقذارتها يوزع على أحفاده النقود. وحبيبب رغم هدوءه ورصانته, شتام ونص! يوسفو دائماً على عجل: ياالله نروح نكري قبل ما يدوّر علي معلمي. ركيب بسكليت عظيم يوسفو, يجوب به كل بيوت البلد ومعه خضار وفواكه, أقتنيت من معلمه. تستقبلنه النساء ببهجة وإكرام. تفرح لحمولته المبعوثة من الأزواج. لكن وين الأزواج. الأزواج مشغولون. ويوسفو غماز غماز. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى ستكون صفقة مليحة لأبو كيڤو. إستإجار أربع دراجات دفعة واحدة خير على المؤجر. الدكان والورشة على مدخل سوق الفاتورة المسمى بسوق اليهود. ويملك أبو كيڤو البيبيفوت (كرة قدم يدوية) طاولة واحدة فقط. يبيع المرطبات, وخاصة الكازوز. شراب يولع به كل مراهق. بل كل صبي. ماء, غازات وسكر. مذاق منعش وبرودة تضاهي برودة الثلج. ينتقي المعلم أفضل الدراجات, يتفاهم مع فرحانو, وهذا بدوره يفحص الدواليب إذا كانت منفوخة كما يجب. الكل يلمع. حتى الأجراس تلمع. كل شيء فضي. فقط خاتمي المفقود ذهبي. أتذكر. أعض شفاهي أعود انسى. جرسي لا يرن, الوحيد الذي لا يرن. يبرم أبو كيڤو البرغي بأنامله المطولة. ينقط الزيت على البرغي, ويا عيني عالرنين. يظبط الساعة من لحظة الركوب والإنطلاق "وديرو بالكو على حالكو يا ولاد". طبعاً ندير بالنا ولا شو. أعترف لنفسي: إن أصدقائي ابرع مني بركوب الدراجات. أنا والحديد, وإن كان لامعاً, لا نتساوى. لأسوق على مهل إذاً, تحسباً بقدراتي وتحفظاً على الدراجة. من الأربعة أنا الأقصر طولاً, أنا الأشقر الوحيد, أنا أزرق العيون. حساس حساس هذا الأنا... نركب على عرض الشارع, أو على طوله, الواحد جنب الآخر, ثم الواحد خلف الآخر, كأننا في موكب غامض. موكب بداية المراهقة. نرن بالأجراس, نمد النظر على طرفي الشارع, خاصة إلى الشبابيك ( وشافتني ولا ما شافتني ياولاد؟). ننظر في الأبواب والطاقات (الكوات) والسطوحات. هل من بنات تتطلعن فينا. وين سميرة؟ وين منى؟ وين فهيمة, وين منيرة؟ وين دنيا؟ ووين الدنيا. والله تعين يارب...
الصبايا ورود الله وجناينه. ولكن له ورود وجناين أخرى أنبتها بشتائل شتلها البشر. وشارعنا ينتهي غرباً بالكورنيش. المسمى "جادة القوتلي" الشارع يحز البيوت, بيوت الطين, ويمر إلى كورنيشه الأنيق. المشجر, المبستن, المرصوف. بيوت كانها صور من جورنالات خيالية. فتنة تأخذ القلب والذهن, تسحر العيون. مناظر يخلب لها وبها. ورود بشتى الألوان تتسلق سياجات, نباتات وأشجار لا تأتي على بال. روعة من بوابات, ومداخل, وشبابيك لم نتعود على رؤيتها. لأننا نعيش في حدود شارعنا وحارتنا وسوقنا. وها نحن في دنيا أخرى, مجاورة لنا ومختلفة عنا.
لا تذهل أيها الطفل! كمل ركوبك, فما زال أمامك مشوار. مازالت أمامك مناظر. لا تدع الخدر يتسرب إليك وأنت تسوق. جوقة أجراس تمر بالفرسان الأربعة. خيول حديدية لامعة. هذا يتسأل هل هزت رأسها الغزالة, وهذاك يقول غمزت له. كل حكة عين أسطورة. كل نظرة خرافة. هن بالمشي ونحن بالركوب. هن بالحكي ونحن بالرنين. ويارنين العمر على اول درب. وياحفيف النسيم على مطلع البرية والبراري. دخلت الغزالات بالبلودان, واللافتة تقول: "ممنوع دخول الدراجات". لن نبقى فريسة الظمأ وهنا الماء, النوافير وشذى الورد. هناك ظلال الأرز والسروات. هناك سنديان وصفصاف. وياعيني على غمز الصفصاف. إذاً لنربط الدراجات جنب البوابة وناطورها. لنتأمل عصر اليوم ونلمس خفض الحرارة. وننظر كيف إمتزجت كل ألوان الخليقة بالصورة. أحجار السّراي السوداء, خضار جنات البلودان, ورد البنات وزهر النبات. نشرب. نسترق النظرات ونستوعبها من الطرف الآخر. نخاف ولا ندري ما الذي يخيفنا. والوقت يمر لأن الوقت لم يعتاد إلاّ أن يمر. وحساب الكراية يتراكم وإبن الصائغ كفيل بالأجر...
نؤوب. نرد الدراجات. يسهل لنا أبو كيڤو رغم فوات الأوان. "عشر دقائق على حساب" يربت على صدره, يبرم شواربه . معليش معليش. الزلمة إستلم مننا ليرة ولا بأس في ذلك... نشرب قوارير السينالكو الباردة. ونمضي الى أمورنا العادية في حارتنا وشارعنا. نمضي إلى لعبتنا اللا متناهية. حيث مازال الرفاق يركضون خلف الكرة وخلف الخصم ويصخبون كانها لعبة العمر. لا أحد يحب يخسر. لكن تركي هوغير شيء. لم يعتاد الجري. لا خفة بحركته. لا تعاون. لا تجاوب مع أفراد فرقتنا. ومع ذلك يطلب الكرة. يعطوه, فيخسرها. يقف يشتم. يصرخ. يخافون منه. عبوسة وجه وخشم حاد كنصل السكين. عيون غراب ونظرة جارحة غدّارة.
يتركنا فرحانو. يروح يودع الفلوس عند أهله. ثم هو تعبان من شغل اليوم. ومن بقايا شقاوة الأمس وما قبل الأمس. الصيد. الفرن. الكاتو. العتالة. يريد يستريح يبدأ الغد عن عزم وجد. باص الشفق ينتظره. وهكذا نبقى مع تركي والمحنة اللي إسمها تركي. يترجاني خضر, يترجاني اسحاقو "إرجع للعب يافرجو". طيب! يا تركي إتفضل إطلع برّى. أنا مو برى, يقول تركينا العبوس وعيونه تتقلص حتىالغموض من شدة النفي وهزة الرأس. ياتركي الكرة كرتي, عطيتك تلعب بدالي, وهلق رجعت. يحضن تركينا الكرة, يوقف اللعب: إذا ما لعبتوني, ما في لعب بالمرة. يالله! وين حكو؟ وين داهودو؟ ياتركي بالتي هي أحسن جيب الكرة. هاتها وخلينا صحاب. لأ ما في كرة يقول المهبول العنيد. حقا ًمافي كرة؟ أسأل يقلقل رأسه قلقلة طولية, تجوتجوتجو, ما في وحياة أبوي المرحوم مافي!. طيييييييييب. إنتوا شهود ياولاد. نحنا شهود يافرجو. وأمسك حجرة قد راحة كفي... هات الطابة ياملعون! هات الطابة ياحمار! هات يا مصروع!!!. المصروع يخرج موس كباس من جيبه ويشق الكرة. تفقع الكرة وتطير الحجرة من كفي إلى وجه الغراب. يفلت الموس, تفلت الكرة, يغطي وجهه بيديه لتمتلي بالدم. أرى الدم وأهرب. لا أحد يستطيع يلحقني ما عدى الفزع. انظر خلفي. لا أحد خلفي. ألف إلى حانوت الدباغ, حوش الجيران اللي فيما خلف دارنا. أفوت الباب, أتسلق السلم قفزات قفزات. ومن سطوحهم أسير لسطوحنا وكأني بهلوان سيرك. هي خفة الفزع وإلا شو؟ سأختفي إذاً بالفرشات. تحت الألحفة... أسمع دقات الباب. صياح وتمتمات, وشتائم. العزى يجي على كيفه. والله تعين يارب!. تخمد الدنيا ومعها يخمد كل شيء. أغط بالنوم... ياتي الليل, الأهل والنجوم, وجدتي تقول: قوم قوم كسرت جبينو لهالمضروب, بس اللولاد كلهم يشهدوا لك, المضروب مزع كرتك بالموس الكباس. لا تخاف. أخذوه لدكتور بوغوص, خيط له الجرح, حط له ضمادة... لا تخاف. انت صاحب الكرة وفي شهود عاللي صار وحصل. والله تعين يارب!. أبعد عنا العزى يارب...!.
كيلوان من الرز وإثنين من السكر وعلولو لأهل المضروب. تعويض. و اللي صار بين الأولاد صار وفات. والكرة يرقعها وينفخها لقاء فرنكين ونص, أبو كيڤو كاري البسكليتات.
وتصالحنا.
يمدّكم الشّاعر فرج بصلو بأيّامه- ابقوا معه...


٩‏/٩‏/٢٠٠٩

علي جازو: ديوان عارف حمزة.. قصائد طوع اليد.
“كَيَدَيْ محتاج” عنوان المجموعة الرابعة للشاعر السوري عارف حمزة، بعد “حياة مكشوفة للقنص” عام 2000ـ عن وزارة الثقافة السورية، “كنت صغيراً على الهجرات” 2003(ـ، دار ميريت ـ القاهرة)، قدم مبتورة (2006 ـ دمشق، الحائز، مع شعراء سوريين آخرين، هم جولان حاجي وتنام التلاوي وهنادي زركا، على جائزة محمد الماغوط الشعرية مسابقةً يتيمة رعتْها وزارة الثقافة السورية لدورة واحدة فقط). كيدي محتاج مدخلٌ ـ عنوانٌ ناقص. ألا يبنى العنوان هنا على نقص مقصود؟ ناقص لغياب المشبَّه، لكن بالآن دالٌ على غياب ما، حاسم في نقصه وغموضه. اليد التي تعمل أصبحت اليد التي تسأل، إنها محتاجة وتريد. لنفترض الآتي: حياة كيدي محتاج. قصيدة، قلب، رغبة، بكاء، غضب،حيرة، حلم طويل يمد عينه كيدي محتاج.. الخ. الاحتمالات بالطبع لا يمكن حصرها، ومع كل احتمال تتغير الدلالة وتنحرف. من هنا زوغان العنوان الناقص، خصوبته المختفية أبعد من دلالته المباشرة. العنوان محصور ومحدود وناقص، متوار ومنكمش، مقطوع داخل سؤال يتفتح ويتمدد. نقرأ في الصفحة الخامسة التمهيد التالي مأخوذاً من الشاعر الإيطالي سيزار بافيزي: (سيأتي الموت وستكون له عيناك..). أفي مجي الموت جواباً على احتمالات يدي المحتاج المفتوحة؟ لكن الموت يأتي بعينين ! هو موتٌ يرى، موتٌ موعود به، واعٍ وراءٍ، موتٌ أكيد. التمهيد بمقطع من قصيدة شاعر إيطالي لديوان عارف حمزة الجديد، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في سورية ـ ورد اسمه محمد عارف حمزة للمرة الأولى هنا ـ أيضاً مؤجل وماكر؛ فهو مسبوق بالسين (سيأتي الموت)؛ السين التي تستقبل وتسوف وتؤجل. العنوان مع التمهيد، أحدهما يزيل اللبس عن الآخر، وهي إزالة هشة وناعمة، لكن التمهيد لا يوضح العنوان تماماً ولا يقوله صريحاً.
يظهر من تأمل تواريخ كتابة القصائد، وطريقتها المتسرعة اللاهثة، أنها بنات يوميات غاضبة محتقنة وأليمة. ذلك أنها تحمل من اللغة بوحَها المتفشي، تكرارها الشفهي، وسيولتها الشفافة الواضحة. لا نحت في اللغة، ولا بريق في الصور. لكنها مع ذلك تُقرأ بيسر، وتتقدم مثل الأيام التي كتبت على وهج ثقلها المتراكم وإرباكاتها الحميمة. ثمة على العموم، في جل الشعر السوري الحديث، ميل غامر ومتسرع نحو التخفف من البلاغة، والنيل الطري من خيال غدا عبئاً على واقع يبني الشعراء لغتهم على هوانه الجارح وبؤسه المتعاظم. ثمة حرثٌ أعزلُ وأليمٌ في كيان الخيبة نفسها، ثمة هذه الحماسةُ صوتيةً تذكّر بما كانته قصائد الثمانينيات والسبعينيات من جهة جعل الشعر مطابقة لواقع كائن أو متوهم. ربما لأن الجدد لم يبدلوا من الكتب سوى أغلفتها ومن الأفكار سوى سطوحها العائمة. لم تعد اللغة قادرة على الانحناء والالتقاط، الحمل والاحتضان والتحصن. إنها تطيح وتقشر جمالها على بدْوٍ سريع وعواطف متشنجة. الشعر محاصر بما يحاصر اليوميات من رداءة شاملة، وتقهقر متلاحق في الجامعات والوظائف، في السياسة والاقتصاد. اللغة أيضاً تتراجع عن همومها الجمالية لتغدو بلا رفق وبلا أناة تجاه همها الحياتي الضارب والممزق. إنها تخسر انفعالها مرتين. مرة أمام ذاكرة الشعر، ومرة أمام طموحه الصعب. فالحاضر مرّ، معوز، غث، بلا فكر، وربما بلا جسد يمكن الاستناد إليه. إنه مصنع جهنمي لاستنزاف الخيال وتحطيم كل أمل. ذلك أنها، أي اللغة، كوعي وشعور وجسد معاً، تضحي بالصعب والصارم أمام اليومي الضاغط، تبعد الخيال وتمنحه واضحاً للفم والعين. كل شيء ممنوح حتى الحرمان نفسه الذي أتلف من العقل ذرواته النائية ومن الخيال عمقه السري وفرديته الصامتة. انتهت الطبيعة ساحرة وواهبة، تقلص الغريب الغامض، ومعها يتقيد الشاعر بحدود الممنوح قرب اليد عارية، مفتوحة، وبلا ظل.
قصائد ساهية سرحانة تتودد وتتمحور حول انفعالها وتتشتت فيه وإليه.يوحِّدُها تشتّتُها المتماسك ويرسلها وجْدٌ ساخن طليق. الوجد في الكلمة معززة بتكرارها وتوكيدها اللفظي، لا في عتمتها وجوفها المنسي. ما يبقى بعد القراءة ظلال سهو وبقايا حيرة. أن تجعلك قراءة الشعر ساهياً ـ وربما في ضجر حالم رخو ـ هو من قوة الشعر اللفظية بطريقة معاكسة، إنه امتلاء الشعرية الجديدة بالخيبة والأسى والاعتذار. الخيبة التي تعض وتطحن يد الشاعر والاعتذار الذي يجرح ويطبق عينيه. تسعى معظم القصائد إلى تكثيف بداياتها بنهاياتها محمولة عوداً على بدء لا هو بالحذر ولا المرتبك. نهايات تختم هدايا البدايات، كما عبر بول فاليري ـ بتكثيف هو ضرب من توسل الشرح والتأويل. إن كتابة ـ في الشعر ـ في داخله الذي لا يصمد طويلاً أمام الصمت؛ بل يحيله ـ عن قلة تحمل عبئه الصعب الغامض ـ إلى توضيح وعمد كان من الأجمل لو أرجئا أو سوئلا أو ألغيا بلا قيد. الكتابة ـ على وتيرة كهذه ممدوحة ومحتفى بها ـ لا تسأل نفسها ولا ترجئ بصمتها كلامها ولا تلغي وضوحها بأسرارها. ربما لأنها بلا سر وبلا صمت وبلا سؤال. إنها مقيدة وممتحنة ومطالبة بثباتها أمام واقع يكاد يخسر حتى آلامه الحميمة.
هكذا يمكننا،اعتماداً هاوياً على الشعر وبه، قول كل ما نريد ونشعر ونفكر. قوله بالمطلق مضبوطاً نظيفاً، واضحاً عارياً وبلا صاحب. الشعر ـ على ما كان ـ يتمٌ قاس ووحشة ضارية. حاجة ما عاد بوسع إمكانيات اللغة المتاحة طيعة وسلسة سوى مدها ونشرها مبسوطة وخجلة وفارغة وأليمة كيدي محتاج. لعل الشعرـ بلا قسر ماورائي ـ هبة لا تمنح بسهولة وبلا شقاء وبلا مرض كامل؛ مرض لا يستطيع حتى أن يمد لسانَ أوجاعه. أهو جواب على كل فم ورجم بكل شيء. شعرٌ جوابٌ هبةٌ، هي في الختام، قصيدة مرارة وعذر ونمو وبقاء اللاشيء محتاجاً إلى شكل أو إلى فقدان كل شكل. القصيدة ـ لدى عارف حمزة ـ تبحث عن فمها في كلماتها ذاتها بعدما خسرت يدَ وعيها بنفسها، يدَ حاجتها إلى كلماتٍ تعي أكثر مما تنفعل، وتصبر أبطأ مما تشكو، وتشهد أعمق مما تشرح وتؤول. لكنه يبقى مثلما قال يوماً جيزواف مييوش جزءاً حزيناً من (ذلك المسعى المستمر).
المستقبل
.


علي جازو: الببّغــاء حكايــةً 
ـ
«لستُ نائماً. إنني أتنفس. أتنفس، أتخيل، وأفكر». نفى الفتى تهمة النوم بنبرة حزنٍ يشبه نظرة عيني أمه؛ قلقتين تنظران إلى عينيه المغلقتين. «إلى متى ستدوم هذه الحال المجنونة؟». ردّدَتْ كلماتِ رجائها اليائس. «ها قد حلَّ الزمنُ الآتي، وهو لا يريد أن ينظر إلى حياته.. »!
(كانت غابةٌ قديمةٌ، شديدة الاتساع وعديدة التلوّن، أشجارُها كثيفة ومختلطة الأغصان. تقع وسط الغابة دائرة رمال تمتد على مساحة هائلة. تموج ألوانٌ صفراء لامعة ملساء كدهنٍ ساخن، تعلوها بقعٌ بنية خفيفة تشبه أثر رضوض سطحية! لم تكن شراسة بعد، ولم تكن ريحا ولا عويلا كالذي نسمعه اليوم. في مركز الدائرة الرملية معبَدٌ ذو واجهة زرقاء عريضة. سطح المعبد المحدب من قرميد أحمر داكن. كأن الشمس لا تضرب حمرة السطح، وكأن الغبار لا يمس لون الواجهة الزرقاء. معبد ذو أبواب لا تحصى، لكنه يحتوي على نافذتين اثنتين فقط؛ إحداهما تشرف على أرضَ الصباح، والأخرى مغلقة جهة الغروب. عرشُ الـ مَ لِ كِ – سيد المعبد الوحيد – ينبسط تحت تقعر سقف أبيض بياضاً فاتراً حيث يتقطر الضوء كل يوم على جبينه، وسريرُ الجارية المحظوظة قائمٌ في الشرق. لسوء الحظ، وكما يحدث عادة، أصيب الملكُ بالصمم في أواسط عمره. عمر الملوك لا يقدر بأي ثمن. ولأنه كان ملكاً حقيقياً فقد بادر على الفو الى طرْد كل جنوده إلى الغابة، مانعاً إياهم تجاوز خط الرمال، مهدداً بتحويلهم إلى أحجار صغيرة يلهو بها أطفال الخدم والجواري إنْ هم تجرؤوا وعبروا الخط المحرَّم. ألا يتخيل الملك نفسه أيضاً وحيدة وبلا سلطة إزاء خيالات الأطفال العابثة؟ أي ذاكرةٍ ذاكرةُ الملوك هذه؟ كذلك طُرِدَت الجواري اللطيفة الخفيفات والخدم الصبورون المطيعون. مضت الجواري إلى الأعلى حيث الورود بيضاء كآذان نجوم منكمشة، أما الخدم فسارعوا مغتبطين إلى الأعشاب القرمزية الداكنة الملتفة فوق حياة الديدان النشطة تنزلق وسط عظام راقدة! على كل حال فقد الرجل صوتَ أذنيه لكنه لم يفقد صوت قلبه الحزين. لذا فقد احتفظ بجارية واحدة – لم يرها من قبل – تسهر على حمّى أيامه وتخفف شيئاً من قسوة مصير لا يزيل ثقله سوى نسيان سريع. احتفظ الرجل الملك، سيد المعبد الكبير، بإحدى سمات الملوك الرقيقة:
(«كانت الكلمة جلداً وماءً. في ذلك الوقت، أدرك قلة من البشر الهادئين، أولئك الذين كان بإمكانهم الإحساس بضوء النهار وظلمة الليالي تنساب داخل أجسادهم، أن ما حدث منذ أول رؤية لم يكن معجزة ولا كابوساً فظيعاً كما يعتقد كثير من أبناء العصور التالية، فالرجل الذي دارت حوله الألغاز – الأحاجي المملة التي اختلقها شبيهُهُ ،وزوَّرها في ما بعد مريدوه – قاسي النظرة كئيب الطوية وكثيف شعر الصدر. رجل شهم أصيل ذو صفات واضحة: طويل قصير معاً، بدين نحيل، مهزوم، غاضبٌ مثل إله يغضبُ، قبيح بسبب النهم والحقد. تفوَّقَ، مثلما التهمت الرداءة سوق العمل والصحافة ذوق القراءة، لا كما تفوقت الموسيقى على الرسم مثلاً ولا كما يقل جمال اللغة كلما فقدت صلاتها بعالم الرسم، في تحويل أقرانه الصامتين إلى حيوانات خسرت إلى الأبد كل ألفة بشرية ممكنة. حوّلهم إلى وحوش جادين ومتحمسين ذوي نفوذ فاعلين وغير مكترثين بأي نصح. أقزام مخادعة نشطة، مرايا تظهر عفونة الموت بدل اللحم الذي يرتعش من ألم القبلات الطويلة. من أشهر أسمائه الرائجة تلك الأيام (سيد الغابات والصحارى اللانهائية)، وقد كان له اسم آخر يتذكره حفنة شعراء لاهثين مرضى وقورين، دعوهم في ما بينهم بـ «هذا هو سارق الهواء الحر الأبدي، لا يعرف شيئاً عن مذاق هواء الجبال المسافرة»! أمضى السارقُ حياة مألوفة في طفولته وصباه وبداية شبابه. مصَّ الحليب جيداً من ثدي أمه الجبلية، نام سنوات عديدة داخل بيت حجري منخفض صغير مع والديه وأخوته، رأى أزهار الجبال – هكذا يفترض الجميع – لسعتْهُ بعوض فصول الصيف الحارقة، سمع أغاني الأعراس فيما كان يتجول بعيداً عنها قرب ألسنة الكهوف الرطبة، درس وتعلم في مدرسة ريفية متواضعة، وعندما نضجت فيه بذور الرغبة اقترن من إحدى قريباته، وأنجبا على سرير الزوجية أربعة أولاد وبنتاً واحدة شقراء. غير أن الشيء الوحيد المصيري والمجهول معاً، أن السيد السارق، في وقت متأخر من إحدى ليالي الربيع الصافية، آن يكتمل القمر في استدارة منعشة ساطعة، وفي طريق العودة إلى البيت، مرَّ قريباً من البئر التي تتوسط أرض داره، نظر إلى الماء الذي كاد يلامس شفة محيط البئر الدائري؛ فرأى، ولم يحجب جسده حينها لا ضوء القمر البعيد ولا تموُّجَ سطح المياه الخفيف – كما لو في حلم خاطف صلب – لامحاً شيئاً غريباً مفزعاً، كانت الصورة مذهلة مرعبة: رأسه هو نفسه مقطوعة تتثاقل طافية على وجه الماء! لم يكن ما رآه خيالاً طارئاً من وهم منتصف الليل، ولا ظلال القمر السابحة كالأشباح على أفواه الآبار الريفية العريضة. كان حقيقة من دمٍ وعرٍ مفزعٍ امتزج ومياهٍ زرقاء ثقيلةٍ. حقيقة لا يزال أشباهه المعاصرون يخشون مجرد تذكرها ..»). كانت الجارية تسرد حكايتها الوحيدة، التي نقلنا معظمها للتو كما سمعت من بعض المتلصصين الذين نجحوا في تجاوز خط الرمال بدون عقاب حجري، بحركات من يديها وعينيها، بكلمات هي إشارات وجهها تهب لطيفة على وجه مليكها. تميزت الجارية بمهارة نادرة في عدم تكرار حركة أو إشارة أدتها من قبل، لئلا يمل الملك قط فيلجأ طرداً للملل إلى طردها حيث ترعى الجواري الحزينات بصحبة أرانب بنية مجنحة، ويجتر الجنود السائمون كوابيس أصدقائهم الجنود، وكي تتمكن هي من قول الحكاية بطرق لا يمكن حصرها فتخلق كل يوم إشارة أو حركة لا تشبه ما اصطنعته من قبل. ولأن الملك أصم بلا رجاء سوى اعتماده على عينه ليتسلى بفهم الحكايات وينجح في طرد الملل واليأس، لم يشك يوماً في صدق وغرابة حكايات سيدته الجارية. ومما لم تذكره الكتب الناقلة أن داخل المعبد ببغاء بداخل قفص كبيرة. قفص بداخله ببغاء معمرة تحت ريشها ورقة مدورة صغيرة بنية مصفرة، عليها عبارة ملغزة وحاسمة: «الجارية خرساء، ليس ثمة ملك»! غير هذا الذي خبأه أحدٌ ما تحت جناح الببغاء، كان الأخير يغني عبر مخروط منقاره الأحمر، دائماً أغنية واحدة، والأغنية لا تسمع إلى بعيون مغمضة: «لم أكن الببغاء. كنتُ طائراً عمره ألف عام. كنت اسماً من لون حزين. طائراً وحيداً كنت مثل كل طائر، وحيداً في سبعة أقفاص زرقاء». ثمة كلمات أخرى لهذه الحكاية، لفظها أحد جنود الملك قبيل رحيله، أحد جنود الملك المنفيين إلى حياة الأشجار، فكتبها فيما بعد شاعر مغمور عاش طويلاً مثل الببغاء، لكن ليس في قفص أبيض كبير، بل على خيط واهن في ظل يشبه النور، ثم ألقى بنفسه في الصحراء رغم كل التحذيرات والمخاطر التي أعقبت فعله الحماسي ذاك، لكنه كان مدفوعاً بغاية حسبها تستحق حياته كلها، وهي البحث عن ملك في الصحراء! رغم أن الهدف أحياناً لا يكون بالأهمية نفسها التي يوليها المرء عمله وكده، إلا أن مغامرة البحث تحتفظ بحرارتها طويلاً، وربما تفرح أجيالاً أخرى لن تدفعها الحماسة اليائسة إلى القتل ولا الكسل إلى عبودية عنيفة. «كانت الغابة سحر الغابة. الجارية كلمات من عشب وضوء، الملك غروبٌ طويلٌ قيده العشقُ إلى بهاء سيف ضئيل. والصحراء بلا نهاية هي الصحراء. خلف سور الأشجار الشفافة، بحبٍّ مجنون أتلفتُ عمري كله، خلف سور الأشجار». أغمض الفتى عينيه. لم ينم لكنه أغمض عينيه.) 
السفير الثقافي.


٦‏/٩‏/٢٠٠٩

رغم كآبة العالم
هاأنذا أهدي إليك
باقة من الأزهار المصبوغة
بالدم الأخضر ..
والشمس .
أنور محمد: حامد بدرخان في أعماله الكاملة.  كتب بثلاث لغات ولم يكتب بلغته كان الشاعر حامد بدرخان 1924-1996 يعتبر أنَّ النثر والشعر يمكن أن يتعايشا في قصيدة كما في رواية. وكأنَّ أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت مؤخراً بجهدٍ شخصي من (نازلي خليل) بعد أن كان قد فوَّضها بحق التصرُّف بعد موته في إنتاجه الأدبي وفي أمواله, وحتى في اختيار مكان القبر ومن يمشي في جنازته من الرفاق والأدباء والفنانين جاء تطبيقاً لرغبته وتنفيذاً لرأيه. لأنَّ شعره بالأساس هو ردُّ فعل مباشر على الأحداث السياسية التي يذهب ضحيتها الإنسان: تحت جدران حلبجة الشارع العريض الهادئ بلا صوت, ووجه ضمير البشرية المتفرِّجة بلا صوت.. هم كانوا خمسة آلاف ووراءهم عشرة آلاف حلَّت بهم ساعة النحس وجميعهم ماتوا، خمسة آلاف إنسان ونيف. لم يكونوا كلاباً بل كانوا خمسة آلاف وعشرة آلاف إنسان، لم يكونوا يحلمون بوهج المجد, كانوا حفاة الأقدام ونصف عراة.. النساء والأطفال ماتوا جميعهم. هطل المطر المسموم فوقهم ليس من ناطحات السحاب الأميركية بل من بغداد....!! أعرف الجلادين عبر التاريخ مثل نيرون وجنكيز خان وتيمورلنك ودراكولا...الخ, ولكن أحقر من هؤلاء هو صدام... صدام حسين. ص 499 وأنت تقرأ قصيدته هذه أو غيرها مما جاء في أعماله تشعر كم هو مشبعٌ بالسياسة, وكم هي ثورته عنيفة, وكم غضبه العقلي ضارٍ. لأنَّه لا يكتب بحسِّ الضحية, بل بحسِّ ومشاعر الناقد ضد وحشية الظالم مهما كانت قوميته أو ديانته أو طائفته أو حزبه: لا تسأليني عن عنواني أنا موجود في قلب الأرض ومجاري الأنهار وأمواج البحار, أسير بلا توقف لأنَّ جمجمتي مغروسة برمح الفجر. لقد ماتوا... سالازار, فرانكو, لون نول ومونتغمري. لا تسأليني عن عنواني.. أنا آتيك من الشمال, ومن الشرق, مثل الريح, مثل الرعد, مثل المطر والبرق مع غضبة الجماهير وصوت الشعب. مع ذلك فإنَّ أشعار حامد تكشف عن شاعر واسع الثقافة ذي اهتمامات فكرية وتاريخية, لكن نابضة بالحياة وليست جافة متخشِّبة, تصاحبها موسيقى إدراكية ترينا مدى تأثره وانفعاله النفسي وربَّما الجسدي, لأنَّه يكتب تعبيراً عن تجربة سياسية يومية, فنقرأ أصوات موسيقى تأثره ورؤياه التي تنساب من كلماته التي لا اصطناع فيها. بالعكس فالكلمة أو العبارة اللغوية عنده تجيء مادةً خاما فيها شيء من عامية وشيء من فصحى, لترسم الصورة النقية لرؤيته بعيداً عن الأناقة الشكلية التي لا يتقنها أو يجري وراءها. فهو بالأساس لا يُجيد اللغة العربية - تعلَّمها متأخِّراً عندما لجأ إلى سوريا وعاد إلى قريته «شيخ الحديد» فراراً من المعتقل التركي على يد معلم القرية «رشيد عبد المجيد», الذي سيصبح في ما بعد رفيقه وصديقه, وتقوم زوجته نازلي خليل، التي أصدرت أعماله الكاملة هذه على نفقتها الخاصة، بفتح دارها بحلب لحامد بدرخان وتحويلها إلى منتدى فكري وإلى مقرٍ لنشاطاته الأدبية والسياسية, بل دار ضيافة له ولأصدقائه وبعيار خمس نجوم. محكوم بالإعدام حامد بدرخان كان محكوماً عليه بالإعدام في تركيا, فقد أسَّس حسب ما جاء في مقدِّمة الأعمال الكاملة التي كتبها (محمد جزائر حمكو جرو) مع كلٍ من ناظم حكمت وعزيز نيسين وعابدبن دينو وصلاح عدولي وأستاذه ممدوح سليم الحزب الشيوعي التركي. وقد اعتُقلَ بعد أن ضيَّقت الحكومة التركية على الشيوعيين, وزجَّ به في السجن. لكنَّه وبترتيبٍ من رفاقه استطاع الهرب والعودة إلى سوريا - كان قد وُلِدَ في قرية شيخ الحديد عام 1924 إحدى قرى عفرين في الشمال السوري, لكنَّه غادرها مع أسرته وهو طفل إلى تركيا فدرس فيها إلى أن تخرَّج من كلية الآداب بجامعة استانبول - والهرب من السجن كان قد ترك آثاراً نفسية على حياته, فقد كان يتصوَّر أنَّ المخابرات تطارده, يتصوَّرهم في كل مكان, وكان يسميهم بـ(الخازوق): جاء الخازوق, ذهب الخازوق. وهم مثل الإقطاعيين ورجال العصابات: ربَّما تنام على الكوابيس المظلمة وحياتك مهدَّدة.. المافيا, أزلام الآغا, والشرطة السرية, والخونة من القوَّة السوداء, والذين يدمِّرون ثروات الشعب... معتقلات.. منفى.. وأعواد المشانق. ص 547. مع ذلك فقد اختلف عليه الأكراد؛ فمنهم من اعتبره ضدَّ كردستان - كان على خلاف كبير مع الشاعر الراحل «جيكر خوين» وقد شهدت شخصياً بعض فصوله في أكثر من لقاء جمعهما عملت على ترتيبه نازلي خليل, لتقرِّب من وجهات نظري كليهما - ذلك لأنَّه لم يكتب شعراً بالكردية, وكأنَّ الكتابة باللغة الأم هي دليل ولاء, مع أنَّه ترك عملين شعريين باللغة الكردية, صدر الأوَّل عام 2006 بعنوان (شيْيّهِ) والثاني في عام 2008 تحت عنوان (سَردورا جيْيانه), بالإضافة إلى خمسة عشر ديواناً باللغة التركية تنتظر النشر. ومنهم من اعتبره أكثرالكرد كردية - وهم الشيوعيون بسبب مواقفه الأممية /الكونية من القضايا الإنسانية: سأجمع كل مناضلي الأرض من رأس الرجاء الصالح إلى آخر ألاسكا. سأجمع كل الكوبيين والكوريين والفيتناميين وجميع الأحرار في العالم لمساندة قضيتي, وأضحي بدمي, وأقول لك وداعاً يا حبيبتي, فقير أنا.. ليس لدي ذهب ودولار, غنيٌ قلبي بعقيدتي, وأنا مؤمن...عنيد بالنصر, بالأيام الجميلة الآتية لنا وللعالم ص. 570 . مات حامد..عاش حامد, الأعمال الشعرية بالعربية - وهذا حلمه - قد صدرت, وأشعاره التي جاءت فيها وإن كانت نثراً خلا من الأناقة اللغوية, إلا أنَّها تحفر في الوجدان بسبب تلك الفرقة السيمفونية التي تستوطن شعره وتعزف موسيقا انفعالاته الميلودرامية العنيفة. الكتاب : الأعمال العربية الكاملة / شِعر المؤلف : حامد بدرخان الناشر : دار عبد المنعم ناشرون - حلب 2009 ---------------------------------------- مختارات من شِعر الراحل حامد بدرخان. جناحا جَبَل ٍأمميّ ضع رأسكَ على صدر الشعب على التراب ... ولا تستغرب . * وصيتي مكتوبة فوق يدي ليس لدى كاتب العدل . * لم أجلس مرة واحدة حول المدافىء التي وقودها دماء الأطفال ، ونارها رؤوس النسور . لم أقطف الزهور من الأغصان . أحب الحياة . والأبواب المفتوحة مُهابة . * والضوء يقصر قامات الرجال المتحركة كالديدان . قهقهات الطوابق العليا تزعجني من جميع الجهات . الريق في فمي كالمرهم . والدموع المخزونة ، المستورة تحت أجفاني كعناقيد الغضب . * لماذا لا ينصبّ دمي في أي نهر في العالم ؟ * لم أعرف المرايا قط .. سوى الينابيع الفضية . وركبت الريح ... * وفي المساء قصائد الشعراء تنساب مثل ثعبان على غرف العشيقات . * وأقضم الرخام والتاريخ ... وأكتب بيد نارية . * للبحر صدر مخيف ... الأمواج ترتفع مثل الجبال فوداعاً للأرض . * رغم كآبة العالم هاأنذا أهدي إليك باقة من الأزهار المصبوغة بالدم الأخضر .. والشمس . * أمسح خارطة الجوع من العالم وأفتح الباب وأقول لك أخيراً : في شفتي الظمأ الكوني لعصارة الثمار الجبلية ... حتى تحل عقدة الألم . * القطرات التي تتشرد من الغيوم تنزل إلى الأرض بصرخات مدوية تنقلب إلى الأنين وتدندن في أذن التراب .. والنبع . كنت كذلك .. قطرة بين البشر . * أنا " ابن الملايين " وواحد من هؤلاء الذين يمرون خمسة خمسة ، عشرة عشرة مائة مائة ... ألفاً ألفاً ... ويطلبون من الشمس عيونهم المفقودة . * الطريق التي تبدأ مني تنتهي فيك منذ قابيل وهابيل . * الذي يبدأ مني لا ينتهي في الجدار بل يمتد إلى المدن .. والبحار .. والقارات وإلى العيش ... * غازلت الفتيات في عمر الصبا عانقت الأرامل ضاجعت المتزوجات بعنف لا مثيل له ... وفتشت عن قاتل لوركا . * أرقص ... أرقص ... حتى آخر باستيل يتهدم . * أرقص ... أرقص ... للثانية الأخيرة ... المتبقية في حياتي وأعطي باقات الورود في لحظة مماتي .
المقاطع منتقاة من قصائد ديوان على دروب آسيا الصادر عن دار الحوار.
موقع ألف.

انور محمد: عشر سنوات على رحيل الشاعر حامد بدرخان. أعطى كرديته معنى ملحمياً. في مقهى <القصر> بحلب، والذي كان يجتمع فيه المثقفون اليساريون على اختلاف فرقهم، كان يجلس الشاعر حامد بدرخان شاعر كردي سُجن في تركيا بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي في العقد الخامس من عمره ذو وجه مليء بتقاطيع قاسية توحي كأنه وجه جبل، وجه قُدَّ من صخر، وذو حاجبين كثّين مبعثرين مثل أفكاره ترسل شظاياها نحونا نحن الثلة اليسارية التي كانت لا تزال في مرحلة الطفولة، فنخشى أن نجالسه، فيما هو المناضل الشيوعي الذي قضى سنوات في السجون التركية مع الشاعر ناظم حكمت مثلما أمضى بعض زمن مع الشاعر آراغون في فرنسا رفيقا وصديقا. كيف نتحرش به؟ ببراءة ليس فيها خبث ودون أن أستأذنه جلست إليه وسألته: هل صحيح أنك كنت سجينا مع ناظم حكمت ؟. لم يستغرب سؤالي كان يعرفنا، أجابني والدمع يلمع في عينيه هو دائما على بكاء، ان سمع قصيدة وأعجبته بكى، وإن رقص كان يرقص رقصة زوربا كما يرقصها أنطوني كوين ويبكي: نعم كنت سجينا مع ناظم حكمت. وكيف التقيت به؟. إنه أستاذي يقول حامد: علمني الكثير، اجتمعنا على اليسار، وعندما التقيت به كان مشروعي الشعري أمام عظمته مشروعا صغيرا، صوته وهو يلقي شعره عليّ لا تزال موسيقاه في دمي. كيف التقينا؟ أنا لا أعرف. هل نسيت أم أنك تعتبر لقاءكما لا يزال سرا؟ لم أنس وليس سرا، آسياي (نازلي خليل) المرأة التي نذرت لها حياتي لم أجبها عن هذا السؤال. ربما لم يحن الوقت. وأقول له: ماذا عن علاقة ناظم حكمت بزوجته التي كتب لها أجمل أشعاره؟ يضحك حامد: قبل أن أتعرف إلى ناظم حكمت كنت أعتبر أنه حرام على اليساري أن يحب وأن يعشق، حتى إنني كنت أعتبر أنه لا وقت لمثل هذه التفاهات. ناظم قال لي: وقود الثوري يستمده من عيني حبيبته، إذا كنت بلا امرأة تحبك فابحث عن امرأة. ثم كيف تصير شاعرا ولا تعرف امرأة تعشقها؟! اذهب.. يساري وشاعر ولا يعشق امرأة؟!! هل ننتحر وأقول لحامد بعد أن صرنا صديقين، وصارت المرأة التي عشقها تجمعنا نجتمع تحت شجرتها: تعال نذهب الى <كرديتك> فأنت متهم بقلة عشقك لها، بالبرودة. هكذا أسمع من الكرد. ويرد قائلا: وهل شقوا على قلبي؟ وأقول له إن الشاعر (جيكرخوين) وهو رمز شعري، عندما التقينا به أنا وأنت مرتين كان قد أخذ عليك نفس المأخذ، أذكر وتذكر معي أنكما عندما تصافحتما كما لو أنكما كنتما مجبرين على التصافح أياديكما كانت مترخية. ودون انفعال كان ينفعل يقول حامد: جيكر خوين واحد من أكبر الشعراء، هذه حقيقة أنا أعترف بها، لكن مشكلة جيكر خوين أنه بقي كلاسيكيا، بقي جبليا لم تشدّه التيارات الفلسفية ولا صراع الايديولوجيات رغم اعتناقه الشيوعية. وربما كان أكثر مني صوفية في حبه لشعبنا، لكن هذا لا ينفي عني أنا حامد بدرخان بأنني لست كرديا او أنني لا أحب شعبي. أنا لا أزايد على أحد. لقد تعرضت للموت، للإعدام في تركيا بسبب معتقداتي الماركسية. ألا ترى أننا نعيش في معسكر اعتقال، كأننا تحكمنا سلطة خرافية، قوى غيبية. يا صديقي يجب ان نؤسس لسلطة ثقافية، الأكراد يتضامنون ليس بشعور قومي. مرات بشعور عائلي، ومرات بشعور مهني، ومرات بشعور حزبي. أين الوطن الأمة؟ نحن جيل رضع الماركسية مع حليب أمه، لقد تمددت في دمنا، سكنت خلايا روحنا، وكان ثمن ذلك ان قامت السلطة وزجتنا في السجون بعد ان تعرضنا للموت أثناء التحقيق. اليوم صارت الماركسية زينة صار البعض يتباهى بأنه ماركسي. على ماذا؟. معظم الأكراد وجدوا في الماركسية خلاصهم، ذهبوا إليها عساهم ينجزون دولتهم. أنا لم أفكر بهذه الطريقة، أنا أردت ان أعطي كرديتي معنى ملحميا بحيث يتجاوز التاريخي الشخصي والفردي، علينا ان نعقلن الحس القومي فلا نصير (شوفينيين) هناك أقليات مثلنا تعيش فوق سطح هذه الكرة ولا تتمتع بحقوقها الإنسانية. ماذا نفعل؟ هل ننتحر؟؟ الى الآن لا نزال نفصل بين إرادتنا السياسية كأكراد وبين الضرورة التاريخية. ان دولتنا هي في المستقبل وعلينا ان نعشق المستقبل. يغتالون كيانهم يهدأ حامد، يشعل سيجارته وأقول له: سرت العادة ان يذهب المبدعون مهما كان جنس إبداعهم الى الاحزاب السياسية، هل أنت مع هذه العادة؟.. ليس كثيرا يقول حامد لكن يمكن الجمع بين المبدع والحزب شرط ألا يتدخل الحزب في نتاج المبدع، الفنان، فيربطه بحبال العقيدة. أنا من ناحيتي حاولت أن أبقى بعيدا عن الاحزاب بعد فراري من تركيا الى سوريا، ليس خوفا من الاعتقال او السجن. ولكن لأن الأحزاب التي تحكم لا تسمع إلا صوتها، وقد تسجل احزاب المعارضة إذا قررت ان ترفع صوتها عليها، هذا غير معقول. ثم إن المثقف او المبدع هو غير معني بالدفاع عن آراء حزبه إذا تعارضت مع آرائه بصفته مثقفا، وفي هذه قد تُذبح بسكين حزبك تهرب او تنجو من قضبان الحزب الحاكم لتموت بسكين حزبك المعارض!! أنت تدرس وتجتهد لتتخلص من عبادة الوثن، فجأة إذا بك أمام أوثان لا عد لها. أوثان أوثان أقول لحامد ماذا تعني لك هذه الأحزاب وخاصة اليسارية منها؟ ويرد علي وهو يشعل سيجارة من سيجارة ينفث دخانها بانفعال: اليسار العربي تسللت إليه أياد انتهازية، أياد جاءت لتصنع الفساد والهزائم، فصرت ترى يساريين ويمينيين متطرفين في أفكارهم لكثرة ما فرّط الحاكم بثروات الأمة. انظر إلى التاريخ الاسلامي.. الى حكام كانوا قلعة الأمة يحامون عنها (بشرا وحجرا) ولم يسرقوا أموالها مثل النبي محمد وعلي ابن أبي طالب. قد يكون للأول اكثر من مبرر بصفته رسولا لكن ما هو مبرر علي؟؟. معاوية سرق ووزع الدولة على أسرته. كل خلفاء بني أمية فعلوا مثله سوى عمر بن عبد العزيز، وكذلك فعل العباسيون. ونحن كأكراد في طيلة هذا التاريخ كنا وقود معارك، وأميركا في التاريخ الحديث هي أكثر دولة استفادت من الأكراد بوصفهم حطب معارك، وكأنه يستحيل على الكرد كأنهم متفقون على أن لا يصنعوا حالة كردية في الثقافة، في الفسلفة، في السياسة. شخصيتنا الكردية في المستوى الحضاري تكاد تكون غائبة إن لم تكن ضائعة. أنا وبرأيي وهذا الكلام قلته لجيكر خوين وبحضورك: فلنكتب بأي لغة، لكن ان نكتب كرديتنا ببعدها الانساني، بعذاباتها مآسيها الانسانية، ففي أي بلد نعيش لا يجوز ان نتجاوز او ان نتخطى وطنيتنا، علينا ان نشتغل شخصيتنا القومية بإحساسنا الوطني. الكرد اي مثقفوهم كأنهم يغتالون بتمزقهم الثقافي هذا كيانهم القومي.
موقع الامبراطور.


١‏/٩‏/٢٠٠٩

فرج بصلو: ذهب، وراح إلى الأبد... خوفاً من وصول الخبر لوالدي، لم أخبر والدتي عن ضياع الخاتم. لثقتي بأنه سيحول الأمر إلى كابوس. وأنا لا أطيق الكوابيس. فطالما غاب عن إصبعي شعرت فقدان وبتر عضو من جسدي. ولأني كنت مضطراً للغوص في الروتين لأمرر ما تبقى من الأيام لحين عودتي للمدرسة. عدد آخر من مجلة "سمير" أبهجني بألوانه. بأخباره. سلسلة من غرائب الفراعنة في الإهرامات المصرية. وبقية تافهة من الأشياء، نستني كل شيء. إحساس جدي بصلو بضجري، حركه نحوي. هي خطة بسيطة وضعها لتشغيلي. مهمة أسقطها على رأسي حين دفع دفتر الديون بين يدي. قرر تحويلي لجابي. ربط حزام على خصري الرفيع، فيه جزدان لأودع فيه النقود. وهكذا رحت أجول الأسواق حانوت حانوت حسب قائمة المديونين. أجمع المال، أسجل في الدفتر. أسلم فواتير للناس. أحسب الدخل. ولما أبلغ مبلغ معين، أعود للمتجر. أضع المال بين يديه المعرقتين. ليحضنني ويسلمني ورقة تدل على المبلغ. أرجع أمشط ما تبقى من الدكاكين المديونة لنا. من جميع الأيام التي أدور بها خلف الدين، أحببت يوم الجمعة. الحركة في السوق قليلة ومتمهلة. حتى حضور الباعة المتجولون قليل. تبدو الأرصفة خالية تقريباً. إلا من بائعي البوظة والشراب البارد. وبعض البشر الذين ينظرون بحر الصيف خير. كنظر الذباب، خير في كل شيء حلو... . هؤولاء يعملون، المطاعم تعج بالبشر، المخابز تضاعف أعداد أرغفتها والناس على أبوابها، طوابير تخطف الرزق من أضراس اللهيب... نعم الصيف في بلدنا لهيب! يترك بالجسد الحساس قروح وندوب. ثم يذوب ذوبان الملبس في ثغر طفل. على أغشية روحي الآسفة حفر فقدان الخاتم خاتم لا ينتسى، ليبدو عقوبة على إنجراري إثر غواية فرحانو ورفقانه الثلاثة، لأذهب معهم كي نسبح في علو النهر، بقرب الطاحونة. دائما في هذا الفصل تشح المياه، ولا تجد مياه عميقة تستطيع القفز إليها وفيها من الضفة. لا تجد بغير هذه الأنحاء. أتقبل شروح فرحانو وأقتنع. فرحانو سباح وصياد سمك. فرحانو صديقي رغم عدم تعلمه في المدرسة. رغم أميته. فرحانو يلعب معي الكرة. يشاركني لعب البيلياردو والبيبيفوت. ركوب البسكليتات المكرية. فرحانو يبيع الكاتو أمام السينمات. أحياناً يشتغل بالحمالة. أحياناً بتنزيل الحقائب من البريد (الباص). صبي صلب البنية. ضحوك. يحب الرفقة والرفاق. نجتاز الأسواق معاً، العرصات (كبيرة وصغيرة) تاركين خلفنا ضجيج ونقاش أسعار، وصياح البائعين والزبائن. ثم الجسر، المسجد الكبير يتعالى في الأفق. حارة البشيرية وشرقاٌ منها البرية تكشف لنا أحراج متراخية في لهيب الشمس. الأصفر يتلألأ في بقايا الخضار. وهاهي تتغلغل لسان النهر المخضرة. اللسان الكسولة والناعسة. وعلى صفرة الكون اللا متناهية نسير خمسة صبية مزودون بشبكة صغيرة تابعة لزميلنا المكعوك (مجعد الشعر) فرحانو. نشتهي صيد شيئاً ما بواسطتها. ولم يكن مبتغانا الحقيقي سوى تبريد وكبح لهيب الجحيم الصيفي. الطقس الحارق في بلد طفولتنا الغافلة. طفولة تتسلق ضمن حر حارق بداية صبيتها. صبيتنا. وبما أن جم أسماك وسردينات الجقجق فرت من هناك، كأنما أحد أخبرها عن المؤامرة. أو لربما أرادت الخروج من النهر في ذات اليوم الخماسيني. لتختبي من الشوب في أماكن غيبية. أماكن لا يصلها الغشيم... رحنا جميعاً نفرغ لهيبنا، ونفضي شوبنا المشترك، حيويتنا المتبقية. بقفزات رهيبة إلى الماء. إلى حوض مخضوضر ومحدود. نغوص فيه. نقفز. نسبح. باتجاه المجرى. إذا في مجرى؟ وعكسه أيضاً. كأنما كنا أسماك ذلك النهر والنهار في تلك البقعة المبللة. وفرحانو كان صياداً لا من إرادته، بل رغمها. وكان سباحاً رشيقاً. وكان صاحب فكرة الغوص تحت المياه إلى أعمق ما يمكن. لا يخرج الإنسان من النهر مثلما دخله. أسبح في النهر فترة ويسبح النهر في عمراً. يمر من عهد لأخر. يجتاز معي محيطات ومحطات. يغوص يغوص في واقعي. يطفو من باطني إلى سطح معرفتي. نهر يجف ولا يجف. نهر يغرف البيوت الطينية في سيوله الشتوية. نهر يشح كالعين من كثرة النحيب. يغوص فرحانو ونحن نتبعه. أعمق فأعمق. نقلد حركاته. نقلد تهوراتنا. صلب الفرحانو. أسمر من الشمس. بني العيون. جميل بمعنى الجمال. بطل يعرف أغوار النهر مثلما يعرف مسطحاته. طيلة الأيام يزور المكان يصطاد فيه، يبيع السمك في السوق، يساعد أهله ببعض القروش. ما أدراك أيها الطفل على حافة صباه وصباك أنت. صبي وصحبته. زملاء يريد الإفتخار أمامهم بمهارته. خمسة صبية بجوار الطاحونة. طاحونة تقول جدتي. ملك أبوي برهو سابقاً واسئل جدك بصلو. "غير مرة جدة" بس أبوكِ وين والطاحونة وين؟." "لأ فرجو ما إلك حق!". أبوي كان أفندي. مو بس طاحونة وحدة سبع طواحين، على مدى المنطقة كلها. كان ياما كان. كان كان. قرب التلال. عند حدود الشيء واللا شيء. كان. أسماء تمر في الذاكرة. أسماء. مثل ماردين. نصيبين، تل كوجك، دهوك، موصل. عين ديوار، درباسية، دير الزور. قامشلو. قامشلي. قامشلوكي. قامشلية. أسماء. أسماء هي بداية شيء. كل شيء. وضاع كل شيء. إلا من الذاكرة. ونحن نتبارى فيما بيننا على الوصول لأغوار النهر. أليست الذاكرة نهر من البدايات؟ أليس العمر جدولاً يتراخى في عب الأيام. جدولاً نفقد فيه خوصة الحياة. والحياة ما هي؟ ذاكرة؟ نسيان؟ خلق؟ وجود؟ فقدان؟ يمسك فرحانو حصاة يرميها وسط النهر. ينتظر قليلاً، ثم يقفز، يغوص (لحتى يختفى. بلعه النهر. نهر الجقجق. النهر المنهك في الصيف). يظهر فرحانو وفي يده الحصاة كأنها درة. لنتبعه إذن. لنغوص. لنستفز بعضنا ساعات. لننسى شوب نهارنا الحارق. وليبهت بنا سقف السماء بزرقته الباهتة. المتلظية. ليدوي ويصدى عياطنا. نحن الخمسة. موزو الطويل والنحيف، يعقو المكور البدين. إلييا الفزم. فرحانو السباح. وفرجو صاحب الخاتم. أغيب عن إنظباتي. انسى خاتمي. الخاتم اللي يزين إصبعي منذ مطلع الصيف. أنسى هدية جدي الفاتورجي، أبو أمي. يقول جدي تستحق هدية. علاماتك ميه بالميه. راح تصير محامي. يقبل رأسي، يضع الخوصة على إصبعي. قياسها يلائمني. تلمع. تلمع الخوصة. ذهب عيار أربعة وعشرين. وأنساها. أنسى النسر المنقوش عليها. أغوص في النهر مرة تلو المرة. هل من إهرامات في النهر؟ هل من حصى؟. ألقي الحصاة وأسرح. أٍسرح كأني على اللسان الخضراء رضيع يدلل البلل إصبعه. أحاول التأكيد لنفسي ولزملائي. ما تستطيعونه. لا يصعب علي. أستطيع، طبعاً أستطيع! ولو... بدكون أكثر وأبعد، بدكون أعود بالحصاة؟ أعود بها. وإن لا توجد... أكمش الطمي من قعر النهر. لأطفو وأطفو. علامة لذروة قدراتي. جبروت من وحل لا أكثر. لكنها جبروت، ألست الأول في الصف؟ آآآآ يعكو يعقوبو ؟ شوفني. شوفوني ياناس؟. هذا أنا على على صخور الضفة وإصبعي خالية من النسر ومن الذهب. خالية من هدية جدي الفاتورجي. ألم يتبقى من النسر ولو ريشة واحدة؟ ريشة للذاكرة. هل ذابت الخوصة في حامض النهر؟. يغوص فرحانو بمهارته الغير مجدية. فلا نسر ولا خوصة. بلع النهر خاتمي. بلع النهر كبريائي وتهوري. بلع السمك نسري المتلألئ. بلع الجقجق أغلى هدايا عمري. وما يلمع في أعماق روحي ليسه إلأ رسماً مغايراً ومصغراً لنسر الطفولة. بين الرمل والوحل. بين الطمي والمياه. خاتم ذهب... ذهب يلمع من مخابز قامشلو. وفي انحاء المخبز ترى بعض البشر على كراسي القش يلقون النرد على الطاولة، يلهون بالشِشبش. يتدحرج الزار ويدوي ضرب المرص. مرص. مرص. شذى حلاوة ونكهة بقلاوة. نكهة تراب يرش بالماء، لتبرد الأرض المحمومة... طرابيش طرابيش عكالات عكالات كفيات كفيات برنيطات برنيطات لغات لغات لغات يحكي بها البشر. يحكون الكردية، يحكون. يحكون العربية، يحكون. يحكون الفرنساوية، يحكون. يحكون التركية، يحكون. يحكون الأرمنية والسريانية، والكلدانية، والآشورية، والآرامية، والعبرانية. ويحكون بخليط كل هذه اللغات. وأنا لا أجد لغة أخبر بها عن فقدان خاتمي. لا أجد كلمة. الخوف يخرس الإنسان. الخوف يبتلع المفردات. أعود لمتجر جدي. أسلمه الجزدان. أسلمه الدفاتر. أسلمه المصاري. يضع في راحتي ربع الليرة. خمسة وعشرين قرش لا أقل. وحفنة قضامة بسكر... وفي قعر روحي بين الطمي، بين المد والجزر يلمع خاتمي المنقوش بالنسر... آسف آسف يا جدو... . وما جدوى الأسف. لا جدوى من الأسف! عدد آخر من مجلة سمير سيبهجني بألوانه المؤقتة! ذهب يلمع في مخابز قامشلو ذهب الفراعنة المحنطين يلمع في إهرامات الجيزة المصرية. وذهب ما ضاع مني وذهب. ذهب ذهب... وراح إلى الأبد.
الشاعر فرج بصلو يقعد ويحكي لكم، ابقوا مع حكيه...