٢٢‏/٩‏/٢٠٠٩

خالد عيسى: خواطر عامودية. عذراَ من سعيد آغا الدقوري ومن ابنه محمد. عذراَ من رشيد كرد وجكرخوين وعبدي تيلو وصالح حج علي ويوسف حج حرسان وغيرهم من الرعيل الأول. وعذراَ من أسر ضحايا سينما عاموده وسجن الحسكة, وعذراَ من ضحايا أمين الحافظ ومصطفى رامحمداني وأحمد عبد الكريم ومحمد طلب هلال وأمثالهم الذين شملوا عاموده بظلمهم. عذراَ من ضحايا رمضان عبيد ويوسف طحطوح ومصطفى شعبان وعلاوي السطم, وعذراَ من ضحايا من سبقهم ولحقهم من الجلادين الذين حكموا في عامودا. عذراَ من أبناء عاموده الذين شيدوا مجدها بأياديهم وأقلامهم, بانتفاضاتهم واحتفالاتهم, بزراعتهم وتجارتهم وحرفهم, ومن الذين دفعوا ضريبة انتمائهم بدمائهم وحرياتهم وأرزاقهم. عذراَ منهم جميعاَ لتقصيرنا بحقهم, لأنهم يستحقون و تستحق بلدتهم الشامخة أكثر بكثير عما كتب عنهم وعنها. ولنذكر من الأبرار زبير صوفي عمر وعصمت سيدا وغيرهم ممن لم يكفوا عن الدفاع عن أهلهم في عاموده ومثيلاتها من المناطق الكردية ولنرفع على أضرحتهم راية الوطن الذي أخلصوا له. ولتنضم أسماء أخرى إلى أسماء الشيخ توفيق والشيخ عفيف و حسن دريعي وسليم بركات وأحمد حسيني ويونس الحكيم وغيرهم من شيوخ الأدب و أعلام القلم في عاموده. خدمت في بلدة عاموده في عامي 1977 و 1978, بصفة رئيس مركز توزيع الأعلاف. و قد استطعت خلال هذه الفترة التعرف على البعض من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في هذه البلدة العريقة. كنت أثناء وجودي في عاموده أكتب أحياناَ ملاحظاتي في كراس صغير. كنت أعتمد في ذلك على ملاحظاتي وعلى أحاديثي مع بعض الأصدقاء والمعارف من هذه البلدة. وكان المرحوم فلمز بن فرج شيخو كورو يروي لي بشكل مرح الكثير من القصص التي تعكس بصدق الحياة العامة في تلك الفترة في عاموده. وكان ابن عاموده الوفي,أحمد بديع بن أمين البارافي مصدراَ لا ينضب من المعلومات عن مختلف أوجه الحياة في عاموده.و محمد علي بن عبدو كروتو كان مستودعاَ لأغلب النكت والفكاهات الشعبية العامودية. وهاني الحسيني, وغالب عبدي, وفرحان سيد علو وعبد الرزاق بن هادي أغا و عبد الفتاح عيسى (من بيت فاتمه), وغيرهم كثيرون الذين أغنوا ثقافتي العامودية خلال العامين المذكورين. وفي الفترة القصيرة التي كنت معيداَ في جامعة دمشق,توطدت علاقاتي مع الكثير من المثقفين والسياسيين من أبناء عاموده, وازدادت معرفتي عن عاموده, لكن لم أجد الوقت اللازم والمناسب لتدوين معلوماتي على شكل دراسة علمية وفيما بعد, في المهجر, لم أتمكن من الحصول على ما كنت قد كتبته عن عاموده, وللأسف لم أتمكن من أنتهاز الزيارة القصيرة التي قام بها إلى باريس صديقي الأستاذ أبو عبد الستار عبد الرحيم عبدي, الذي هو أشبه بموسوعة حية عن ماضي عاموده وحاضرها. وإذا كان قصر الوقت لم يسعفني, فأدعو المهتمين والباحثين إلى الاستفادة من معلوماته الوافرة وخبرته الغنية. ومن باريس, وفي شهر آذار عام 2007 , أي بعد مرور حوالي ثلاثين عاماَ من مغادرتها, حاولت العودة بذاكرتي إلى عاموده و إلى الحياة فيها. و الذاكرة قاصرة على إعطاء صورة دقيقة عن عاموده وعن شعبها. ورغم استعانتي ببعض الأصدقاء المهاجرين, بقي هذا العمل ناقصاَ. وأقول سلفاَ بأن اللمحة الموجزة التي أكتبها ليست إلا معلومات متفرقة لا تتناسب و المكانة الهامة التي تحتل عاموده في جغرافية وتاريخ الوطن الذي أنتمي إليه. فمن وجد فيه من خطئ فليصححه مشكوراّ, ومن وجد فيه نقصاَ فليكمله إن أراد ذلك. ومن شعر بغبن فليعذرني, لأن كل ما ذكرته لم يكن بقصد الإساءة أو الحط من قيمة أي كان. عندما أكتب هذه المعلومات اليسيرة والمتفرقة عن عاموده أراني مديناَ إلى الأبد إلى الأرض التي أنجبتني ويزداد شعوري بالتقصير تجاه الشعب الذي أنتمي إليه. و هذا الشعور هو الذي شجعني إلى التجرؤ في نشر هذه اللمحة المتواضعة ولو بصيغتها الناقصة, عسى أن أتمكن في المستقبل من القيام بدراسة أكثر جودة. أولاَ:المدخل الغربي قبل الدخول إلى عامودا مباشرة من جهة الغرب, عبر الطريق الآتي من الدرباسية, كانت ضاحية كندكى قاسو تستقبل الوافدين. ومن مشاهير هذه الضاحية ابراهيم تقليلو وخليل مشقى. فكان ابراهيم تقليلو يشتهر بقدرته على تتبع آثار السارقين (الحرامية). و كان شريكاَ للحج أورخان دباغ في الكرمة التي تقع على (القلاج) الواقعة في الجهة الشمالية من الطريق, أي باتجاه سكة الحديد التي تفصل المنطقة الكردية بين سورية وتركية. وكان لتقليلو الفخر في السمعة الطيبة والسيرة الحسنة لأولاده. أمّا خليل مشقى فقد كان مصلحاَ للساعات, وخاصة ساعات الجيب. وكان الساعاتي خليل مشقى قد أقام مزاراَ في زاوية حديقته في (كندكي قاسو),لأن عمله كساعاتي لم يعد مردوده المالي كافياَ بعد أن غزت الساعات الصينية الرخيصة الأسواق,فبحث خليل مشقى عن مورد آخر للرزق. فزعم أنه رأى في المنام الرسول محمداَ و كان وافقاَ في إحدى زوايا حديقة داره(حوش) المطلة على الطريق العام القادم من الدرباسية. فأقام في تلك الزاوية مزاراَ ليتبرك إليه الناس وليتصدقوا على راعي المزار. وكان منام صاحب المزار مشكوكاَ فيه من قبل شباب عاموده. قال لي أحد الأصدقاء مرة: بجانب الزاوية التي ظهر فيها الرسول في (كندكي قاسو) يمر كل من يدخل عاموده من جهة الغرب. وبذلك يدخل البلدة طاهراَ ومباركا, فهل سيحتاج من بعد ذلك إلى تطويف حجرات الشيوخ والتبرك بالتكيات العامودية؟ !.َ وقال لي أحدهم.تصور لو توجه نصف حجيج الجزيرة إلى كندكى قاسو بدلاَ عن التوجه إلى المكة!. ويحكى أن عبدي خلف شيخو (أبو شيخو), وهو عامل كردي, أسمر البشرة وطويل القامة, قد قال مرة عن هذا المزار, "عجباَ ألم بر محمد مكاناَ آخر أنسب له من هذه الزاوية من (حوش) حديقة خليل مشقى. ليظهر للناس في(كندكي قاسو)" ؟!. كان عبدى خلف شيخو من الأكراد المجردين من الجنسية, وكان معروفاَ بمحبته لزوجته, لأنه لم يتزوج رغم أنها لم تنجب له ولداَ. وكان بيته إلى جوار بيت أخيه القراش صالح شيخو(اسم زوجته به كى) في حي آشى علاوي(طاحونة علاوي). وكان أبو شيخو سريعاَ في مشيته, إذ كان يأتي إلى السوق ويعود منها إلى داره سيراَ على الأقدام في اليوم عدة مرات!. وكان يحكى أنه مرّة بينما كان أبو شيخو مسافراَ إلى خارج الحزيرة, فأوقفت دورية أمنية الباص لتفتيش هويات الركاب. وعندما وصل الدور إلى أبو شيخو طلب منه رجل الأمن هويته, فأبرز أبو شيخو الوثيقة الممنوحة لأكراد الجزيرة ممن سحبت منهم السلطة الجنسية السورية منذ 1962, فلم يفهم رجل الأمن الوضع القانوني الشاذ لأبو شيخو الذي بدأ يتلعثم خوفاَ, وسأله فيما إذا كان لاجئاَ سياسياَ؟ فرد عليه أبو شيخو بالإيجاب (نعم سيدي) ودون أن يفهم السؤال بشكل جيد . لكن بدأ رجل الأمن بطرح عليه المزيد من الأسئلة, فقال له أبو شيخو البريء من كل ذنب إلا من كرديته " سيدي إذا كان في زه ر ه ر والله مو أنا" أي إذا كان فيما أجبته ما يسبب المسؤولية أو الضرر فأسحب جوابي. وكان يقال بأنه عندما تشاجر أبو شيخو مع أحدهم, وأثناء الاستجواب قال بعربيته المكرّدة " والله سيدي هادا سحب عليّ شوور" فلم يفهم رجل الأمن ما قاله أبو شيخو لأن الشور كلمة كردية تعني السيف بالكردية. وسمعت أن أبو شيخو كان, لتأمين مقتضيات معيشته, يخاطر أحياناَ بحياته في التجارة (التهريب) بين عاموده والمناطق الكردية المجاورة ضمن الحدود التركية. وكان قد أصيب مرة بجراح أثناء مرافقته لفرجى شيخو كورو. كان أبو شيخو قد باع مرة مسدساَ لإبراهيم إسماعيل ايبوو, وبعد ذلك طلب من إبراهيم الخروج من الدار, ثم قال له "أترى تلك الصخرة" فأجابه ابراهيم بنعم! فقال أبو شيخو "انك لم تشتر المسدس إلا من تلك الصخرة, لا بعتك ولا أنت اشتريت مني"!. أمّا صالح شيخو فكان يعمل قراشاَ (طحاناَ) في المطحنة. وكان القراش هو الشخص الذي ينظم الدور في المطحنة فضلاَ عن عمله في تعيير آلات الجرش ومراقبة الطحن, ومحاسبة الزبائن أحياناَ. وكان القراش معروفاَ من قبل الجميع لأن كل الناس كانت تأخذ القمح إلى الطاحونة لطحنه, وكانت النساء تخبزن على الصاج أو في تنور البيت أو الحي. وفي عامي 1977 و 1978 كانت الطاقة الإنتاجية لأفران عاموده لا تسد حاجات السكان. وكانت أزمة الخبز لا تقل عن أزمة العلف في مختلف أنحاء الجزيرة. كان معروفاَ عن صالح شيخو بأنه كان يعمل في الطاحونة حتى العصريات, ومن ثم يقف بجانب الحائط يفصفص البذر(بذر الجبس أو البطيخ أو عباد الشمس). وكانت زوجة صالح هي (به كى) المعروفة بشخصيتها (الرجّالية) القوية, وشهامتها الشهيرة. ويقال أن به كى كانت ستقود بلداَ لو كانت قد ولدت في ظروف أخرى.