٢٤‏/٩‏/٢٠٠٩

خالد عيسى: خواطر عاموديه - الحلقة -5- خامساَ : شعبة تجنيد عاموده. أمام باب التجنيد, يوم السَوق, كانت مجموعات صغيرة من العاموديين و العاموديات تطوّق رتل الباصات الطويلة والعتيقة, و كان يندمج البكاء بالغناء في أفواه وأعين الجميع. و كان بلبل عاموده رفعت داري يقول على لسانهم و بلسانهم لا تذهب! لا تذهب! لا تذهب إلى العسكرية أيها الحبيب. ذهبت لآول مرة إلى شعبة التجنيد, وأنا أحمل معي مذكرة للحضور, لاستلام دفتر الخدمة العسكرية, و لإجراء المعاينة الطبية. و كانت دورية الشرطة, في غيابي, قد سلمت المذكرة إلى أمي, و قد طلبت منها خمسة ليرات لقاء عملها, و كان قد قال لها أحد أفراد الدورية بأن المبلغ المطلوب هو مقابل تبشيرها بأن ابنها قد أصبح رجلاَ.عندما سلمتني أمي المذكرة المذكورة كان يتمالكها شعور غريب, كانت بحق سعيدة ببلوغي سن التكليف, وكانت تحلم في أن تراني مرتدياَ الزيّ العسكري, ولكنها في الوقت ذاته كانت قلقة علي المصير الذي قد ألقاه بعيداَ عنها في الخدمة العسكرية. أمام التجنيد, كنت ترى أماَ تخفي دموعها بكبرياء, وهناك كنت ترى زوجة تبكي خلف حماتها, وأطفالا لا حشمة أو خوف يمنع بكاءهم على أب يقترب رحيله في درب مجهول المآل. وكان لازال العاموديون يتذكرون أبناءهم الذين استشهدوا في ساحات القتال, وكان الشهيد نجم الدين حج أحمد الكرمي, من حي نجارێ, قد جدد مساهمة العاموديين بدمائهم في حماية حدود الدولة السورية. وكان من أولاد چتا الكبابچي (من بيت طاووس) من كان قد وقع في الأسر على جبهات القتال. كان بائع البوظة سعيداَ في يوم السَوق ذاك, إذ كان الحر قد بدا يلسع منذ ساعات الصباح الأولى, وكان الأطفال يبكون عطشاَ وقلقاَ, وكانت البوظة تسد أفواههم, وتشلّ ألسنتهم عن طرح الأسئلة المحرجة كان البيت المقابل لمقر شعبة التجنيد هو بيت أحمد (أحمێ) الخربه كاڤري. كان يرتدي أحمد شروالاً, ويضع على راسه لفة(شار) صفراء, وكان يتدلى سلسال ساعته من جيبة صدريته (يلك). وكانت تشتهر زوجته گولچين بكرمها وحسن استقبالها. وكانت تقدم المياه الباردة للمكلفين وذويهم المتجمعين أمام باب التجنيد. وكان شيخو بن أحمد الخربه كاڤري قد بقي مدة طويلة في الخدمة العسكرية, وخلال خدمته حاول التهرب مراراَ من المعاملة القاسية التي كان يتلقاه على يد رؤسائه, وفي كل مرة كان ينال العقاب ويعود لاستئناف خدمته. كان شيخو ملقباَ بغزالا أحمێ, وكان قد حاز على هذا اللقب عندما كان يعمل مع أصدقاء له في التجارة عبر الحدود السورية – التركية, ويقال أنه وأصدقاءه بعد اجتيازهم الحدود ليلاَ تبين لهم بأنهم قد نسواَ بقچة في الطرف السوري, فهمّ شيخو وتطوع باسترجاع البضاعة, ولسرعة تنفيذه لهذه المهمة الخطرة, لقبه أصدقاءه بالغزال. وكان نجيم أخو شيخو يعمل في حانوت صغير في ذلك الحي, وكان يوزع الغاز للأهالي بعربية يجرها حصان. سمعت أن رخصة توزيع الغاز كانت باسم الشيخ عبيد القادري. لأن السلطة لم تكن تمنح رخصة توزيع الغاز إلا لأصحاب الجاه والمعارف أو لقاء المال الكثير. قيل لي بأن نعمتّو, الابن الثالث لأحمد الخربه كاڤري, هو ايضاَ جرب حظه في التجارة عبر الحدود. ويقال أنه في إحدى الليالي بينما كان يريد إخفاء البضاعة المهربة في خلفية الحصادة, فاجأه عنصر المخابرات العسكرية حميد (أبو محمد) الذي كان قد اختبأ في ذات المكان, فصرخ نعمتو بالكردي وا أماه! انه العقرب! العقرب!!. كان أحمد الخربه كاڤري قد زوّج ابنته من الحاج أحمد شيخكێ (البيرتي), الذي كان من التجار المعروفين والمحترمين في عاموده. ذكر لي أحد الأصدقاء بأنه كان الحاج أحمد في إحدى المرات قد علّق جاكيته و التهى بعمله, فوجد أحمدێ دين ( المجنون) يضع يده في جيبة الجاكيت, فقال الحاج يا أحمد أهكذا يجوز منك تجاهي, وتعرف بأنني لطيف وكريم معك!!. خجل أحمد وقال يا عمي ماذا يمكن أن أقول لك ؟! طيب يا عمي انس, وافترض أن الأمر كان فيلماَ رأيته في السينما. كان الحاج كريماَ, وكان أحمد دين غير مؤذياً ويستحق كل لطف. كان الشيخ توفيق الحسيني يصنع أحياناً بعض المجسمات من مادة الجبصين, ومن هذه المجسمات, كانت لوحات دائرية الشكل وقد كتب عليها اسم الله ورسوله محمد, وكان يعطيها لأحمد كي يبيعها في شوارع عاموده. وفي المساء كان أحمد يأتي ليحاسب الشيخ فيما تمكن من بيعه. أخو أحمد الخربه كاڤري كان خليل الخربه كاڤري, وكان يسمى خليل العطار, وخليل قلبالغ(قه له بالغ) وكان بيتهما متقاربين. كان خليل قصير القامة, يضع على رأسه شماخاَ وعقالاَ, ويرتدي خفتاناَ, ويربط على خصره حزاماَ. كانت لديه دراسة قديمة لدرس القش وتحولها إلى التبن. يحكى أن خليلاً قد ذهب مع سائقه لدرس القش في إحدى القرى, وطلب من سائقه كتابة أسماء القرويين الذين يطلبون منه درس بيادرهم, فأخذا الرجل ورقة وقلماً لكتابة القائمة, وبدأ يسألهم عن أسمائهم, فكان اسم الأول مچو, والثاني چپو, والثالث شمو, والرابع جمو, والخامس شرو, والسادس تعلو, وهكذا البقية. عندما تلى السائق هذه الأسماء, أوقفه خليل في منتصف القائمة, وقال هل أنت متأكد بأننا في عالم الانس؟! ألا ترانا بأننا سنعمل للجن!!. وذكر لي أحد الشباب بأنه كان راكباً في باص أبو علي المسكني العامل على طريق عاموده-الحسكة, فوجد خليل قلبالغ يركب الباص, ولكنه لم يجد مقعداً شاغراً فبقي واقفاً في الممر الفاصل بين المقاعد. كان الطريق أقل من سبعين كيلو مترا, لكن كان وعراً, وكانت حالة باص أبو علي (على قد حالها). دون أن يفكر طويلاًاً, قام الشاب باحترام وعرض مقعده على العم خليل. قال له العم خليل أدام الله في عمرك يا ابن أخي, أشكرك ابق في مكانك! لأنني مستعجل وليس لدي الوقت للجلوس.!. كان أبو علي المسكني يعمل قبل ذلك مع فلمز بن فرج شيخو كورو, وكانا يشغّلان التوربيتو العامل على طريق الدرباسية-عاموده, كان المذكوران متفاهمين إلى حد أن البعض كان يظن أنهما إخوة. كانت عائلة علي المسكني محل احترام العاموديين بالإجماع. كان حميد (المخابرات) بالأصل من قلعة الأكراد (الحصن), وبقي مدة طويلة يبث الرعب والفساد بين العاموديين ويبتز أموالهم لحسابه وحساب رؤسائه. كان رئيس مفرزة المخابرات العسكرية في تلك الفترة يسمى أبو نضال. وكان رئيس شعبة التجنيد أيضاَ يسمى أبو نضال. كان قد تعوّد الأهالي على البحث عن واسطة(ذي سلطة) كلما اضطروا إلى مراجعة دائرة بأمر ما, وكان البعض من الفقراء يلجأون إلى السلطات الأمنية للاحتماء بها. فقد صدف عدة مرات كان المراجع لا يحتاج إلى أية وساطة, وقبل أن يتقدم بطلبه بنفسه, كان يلجأ إلى من يعرفه من السلطة ليوسطه عند الدائرة المعنية. وصدف وأن قال لي مراجع بأن أبو نضال يسلم عليّ, ولم أكن أدري أيّ أبو النضالين يقصد,!!ولم أكن قد التقيت بأيّ منهما, فقلت له أيهما وحركت رأسي يميناَ ويساراَ, لأنه جغرافياَ, كان يقع التجنيد على يمين مركز الأعلاف, وكانت مفرزة المخارات على اليسار منه. كانت تقضي اللوائح العسكرية بنقل الخدمة العسكرية لأخوة الشهداء إلى مراكز قريبة من ذويهم. وهكذا تم نقل أخو الشهيد نجم الدين, المجند محمود حج أحمد إلى شعبة تجنيد عاموده, لأداء خدمته الإلزامية. وأثبت محمود جدارة في العمل, وبعد انتهاء خدمته الإلزامية طلب أن يعمل في الشعبة كمستخدم مدني, ورغم توفر الشاغر وموافقة الرئيس المباشر, رفضت الأجهزة الأمنية طلبه, لأن حسب هذه الأجهزة, عمل محمود المدني كان سيشكل خطراَ على أمن الدولة, بينما خدمته العسكرية المجانية لم تكن تشكل أي خطر على أمن السلطة. في يوم السَوق, في ذلك الحفل القسري العظيم, في حفلة زفاف الشباب إلى جبهات القتال, إلى الحواجز الأمنية على الطرقات, إلى مقرات حراسة المنتفعين من السلطة , كانت تتوحد كل اللهجات العامودية في ألوان الألبسة الشعبية. وتندمج وتتساوى كل الانتماءات في دموع الزوجات و بكاء الأمهات. كان يتم السوق سابقاَ من الثكنة (القشلة) القديمة. وكانت تقع هذه الثكنة في الشمال الغربي من المدينة, والى الجنوب من مركز توزيع الأعلاف و الإعدادية. ثم تم بناء المقر الحالي الحديث في نهاية الستينات من القرن العشرين. كان يتم في العام الواحد تنظيم سَوقين للمكلفين بالجندية من مواليد العام نفسه. على ما يبدو كانت الباصات تأخذ سابقاَ المجندين إلى محطة القطار في الدرباسية أو في القامشلى, لأن الأغاني الشعبية توصف المكلفين عندما كان يسير بهم القطار إلى حلب, إلى مركز الفرز في ثكنة ابراهيم هنانو. بينما كان يتم سوق الرتباء والمتخلفين افرادياَ. قبل يوم السَوق بـأكثر من عام, كان يخضع المكلف للمعاينة. وكانت المعاينة ذي شقين, أحدهما صحي وآخر عقلي لمن لم يكن قد حصل على شهادات دراسية. وكان يقتصر الفحص الطبي على التأكد من أن المكلف يتمتع بيدين سليمتين,و بقدمين مقعرتين (ليس تاپاناَ) وبخصيتين غير مفتوقتين. وكان يقتصر الفحص العقلي على إجراء اختبار في تطبيق أشكال مقصوصة. كانت الفحوصات شكلية بحتة. فكان يتم سَوق الكثير من ذوي الإمكانيات العقلية أو الجسدية المحدودة. فقيل بان محمود بن رفاعي الكرمي كان ذو عاهة في ساقه, لكن مع ذلك لم يعف عن الخدمة العسكرية. كنت مرة في مقهى كوێ, فدخل أحد الشباب المقهى, وكان أحول العينين, فرحب به أصدقاءه, وسأله أحدهم عن القطعة العسكرية التي يتوجب عليه الالتحاق بها. فعرفنا بأنه كان متخلفأ عن السوق, وأنه قد سلّم نفسه طوعاَ, فتعجب أحدهم كيف لم يعف صحياَ هذا الشاب من الخدمة, فأسرع رجل خفيف الظل وتطوع للإجابة عن الشاب, وقال انه كان سلقاَ يعرف بان هذا الشاب سيتم فرزه إلى إدارة قوات القصف العشوائي. وقال آخر يبدو أن الطبيب العسكري الذي عاينه كان أحولاَ أيضاَ. وبعد ذلك أصبح كل يذكر الحالات المشابهة أو الأكثر غرابة التي رآها أو سمع بها. كان يتلقى شباب عاموده المعاملة السيئة من قبل رؤسائهم, ولذا كان البعض منهم يخالف هؤلاء الرؤساء, ويتعرضون للمحاكم العسكرية’ ويقضون مدد طويلة من العقاب في السجون العسكرية. ذكر لي مصدر كردي مطلع بأنه, في احدي الفترات, كانت كل المسؤليات الداخلية الهامة في سجن تدمر مسندة إلى مساجين من عاموده, فكان أحمد حسو مسؤولاً عن البلديات العامة, وكان حسن علي مسؤولاً عن السخرات العامة, وكان لقمان عكو مسؤولاً عن المهجع رقم 21 الشهير, بينما كان خورشيد حسن مسؤولاً عن الشؤون الكهربائية في السجن. نعم كانت لهم مواقع هامة في السجن وليس في الدولة. كان(عڤدكو) عبد الرزاق موسى يوسف معتوهاَ, لكنه كان يبيع بطاقات اليانصيب في القامشلي ليساعد والده في إعالة الأسرة. لم تعفه السلطات من الخدمة العسكرية, ونتيجة لتعرضه للمعاقبات وسوء المعاملة من قبل الرؤساء العسكريين جنّ عڤدكو أثناء الخدمة العسكرية التي طالت به سنيناَ وسنيناَ. خلف أوسێ شارو, الذي كان قصاباً في عاموده,عاقبه الرؤساء في الخدمة العسكرية, وتم سجنه في سجن تدمر الشهير,فعاد إلى أهله وبلدته مجنوناَ. وهكذا سمعت أن أحد أولاد بيت مجدو, الذي كان فناناً, قد جنّ بعد أن عاقبته السلطات أثناء الخدمة العسكرية الالزامية. قال لي أحد العاموديين المسنين بأن سكان عاموده قد ضحوا الكثير من أجل الدولة السورية. وقال آخر نعم إن السلطة السورية تقبل بالعاموديين شركاء في التضحية والعطاء والواجبات تجاه الوطن, و لا تقبل بهم هذه السلطة كأصحاب حقوق في الوطن. وهذه الأحاديث ذكرتني بالناس الذين تم تجريدهم ظلماَ من الجنسية السورية. تذكرت عبد الرحمن بكر الذي خدم في الجيش السوري, وتذكرت أنه زارنا ببذلته العسكرية عندما كان في اجازة, وكان يدخن يومها سيگارات خصوصي للجيش. التقيت به في عاموده وكان قد جردته السلطة من الجنسية السورية, ولم تسعفه خدماته أو ذكرياته في الجيش السوري. تذكرت المجرد عن الجنسية شيخموس حسن, الذي استشهد والده في تل حبش أثناء القصف الفرنسي لعاموده وقراها, وهو أيصاَ, أي شيخموس, كان يأتي لزيارتنا في إجازاته أثناء الخدمة العسكرية. أتذكره أيضاً, كيف كان فيما بعد يلتمس سماسرة كتاب النفوس, و يرشيهم لاستعادة جنسيته المسلوبة. اذا كانت مهمة مركز مؤسسة تجارة وتصنيع الحبوب(الميرا) هي وضع المحاصيل الزراعية في عاموده تحت تصرف السلطة, و أغناء مخازن الدولة و أمرائها في دمشق, فمهمة شعبة التجنيد في عاموده هو وضع شباب عاموده تحت تصرف ضباط لا يعرفون من عاموده وسكانها إلا ما طاب لهم. لا يتلقى أهالي عاموده المعاملة التي تليق بهم, و لا تتناسب حقوقهم مع تضحياتهم من أجل الوطن. وعندم قرأت مسودة هذه الحلقة لصديق من عاموده, أكد لي هذا الخير بأنه لم ينتفع أي ممن ذكر اسمهم في هذا الحلقة من الأراضي التي استولت عليها الدولة في منطقة عاموده, ووزعتها على العشائر العربية التي أتت بها من مناطق بعيدة عن عاموده. ولذلك كان بلبل عاموده رفعت داري يقول على لسانهم و بلسانهم لا تذهب! لا تذهب! لا تذهب إلى العسكرية أيها الحبيب.