١١‏/٩‏/٢٠٠٩

فرج بصلو:
بسكليتات وسينالكو.


العزى يجي على كيفه. وليش ياجدة العزى يجي مثل ما قلتِ. لأنو عزى ياولد. عزى! طيب ياجدة هاتي الحليب ونروح عالدوندرمجي. حكو يرافقنا من بعيد , والعزى مثل ما بتعرفي يخاف من حكو. حكو بذاتو عزى. تضحك تلملم أردانها الطويلة وتنادي: تعال ياحكو, تعال ياعزى. السطول بأيدينا ويالله تعين يارب...
أه النقود النقود! كأنما حرقت النقود جيبي لأفكر التخلص منها. هل أكري بسكليت لنصف الساعة؟ هل أشتري لحمة بعجين من يوسف إبن عمتي, كازوزة سينالكو, كاتو من فرحانو, كارز مشوي, كتاب أو مجلة من مكتبة أنيس حنا؟ ماذا؟ ليس لكل طفل نقود في الجيب. والنقود التي أملكها, أجري من جدي, جدتي, أو مصروف من جدو أبو والدتي. أمسك توب القماش, يكون مخمل, يكون ساتين, يكون بوبلين, يكون جوخ, يكون ما يكون. وهو يلف يملس اطراف التوب, ويعطيني لأضع على الرف. كل ثوب محله. الدكان, تقريباً لا حجم لها من كثرة الأتواب, والألوان, كل ألوان القزح. هو بصدر المكان خلف الطاولة والدخل. جاكيت, كرافتة, طربوش أحمر. وعيون تضوي تضوي. يقبل رأسي يضع في يدي, نصف الليرة. "مصروفك يا فرجو". والمصروف أحياناً هدية من جدتي على مساعدتي لها. ويالله تعين يارب...
نلعب, نلهو, نمرر الوقت, نمرر طفولتنا وولدنتنا. برّامات نلعب. كرة قدم نلعب. وألعاب أخرى في نادي الأرمن القريب من الحارة, أو في نادي السريان البعيد عن الحارة. ألعاب كمثل كرة الطاولة (بينج بونج), الدومينو وأشياء أخرى كالبيلياردو والبيبيفوت. هناك لهو يقضي على كل مصروفاتك ياولد. وهناك لهو لا يحتاج لغير إمكانياتك ومهاراتك الجسدية الشخصية. البرامة نشتريها من أحد النجارين, مرة واحدة إلى أن تنفلق. الكرة هدية عمي حنون من الشام. أما الأفلام او البلورات, يعني الغارات يجب تجديدها وشرائها إما من الأولاد, إما من الأكشاك والحوانيت. ويالله تعين يارب...
أحب المشي بالخف, واللعب بالخف. لأن الركض وركل الكرة أسهل من الحذاء العادي. بلعب الكرة يشاركني جميع أطفال الحارة, وحتى من الحارات المجاورة. لأنها كرتي الخاصة. ومن العزى أن لا كل طفل يملك كرة, طابة من جلد. كرة قدم حقيقة وليس كرة من الخرق البالية. كل فريق يريد إنتمائي له, إما بسبب كرتي, إما بسبب مهارتي. خليط من أطفال كل الأجيال يشكل فرق من ثمانية أفراد, لأن الشارع ضيق ولا يطول على الستين متر من مفترق لآخر. كل طفل يطلب من أهله غلق الشبابيك اللي عالشارع. واللعب بالأهداف, ثلاثة أكوال والفرقة الخاسرة تطلع برى, لتبدلها فرقة تالية. وعلى طول تربح فرقة "قلب الأسد" لأنها فرقتي. وفرقتي تضم أحسن اللاعبين. ويالله تعين يارب...
تميل شمس النهار على لو ح المغيب الأزرق, وتلمع جدران الطين, وتشع من قش السياع. ياتي فرحانو ومعه كاتو حار من الفرن. ينفق بلحظات. يقول: قبل ذهابي لأودع الفلوس من دخل اليوم,
أريد أكري بسكليت. رأسه حار حار. ساخن من حمة الصينية التي يرفعها عليه من الفرن إلى الحارة. تعال نروح نستأجر دراجات من عند أبو طرزان كيڤو, نركبها على مدى الشارع إلى كورنيش القوتلي, ونلف إلى البلودان, حد السّراي, نلف دورة ونرجع. "بس أبو كيڤو ذاك الوديع صاحب الشنب الرفيع ما بيحكي غير اللغة الأرمنية, وإشلون راح نتفاهم معاه؟". بالمصاري. الفلوس هية أحسن لغة أهم تعبير. النقود يا فرجو النقود!. ويبتسم زميلي الوسيم, زميلي الأمي. والكرة؟ أعاود أسأله. "خليها يلعبوا فيها ولما نرجع ننضم إليهم. ويقدم لي تركي إبن عمه. تركي يتيم يقول. هل أنت تركي ياتركي؟ لا أنا محلمي!. وليش ضعيف هالقد؟ ليش حذائك بالي؟ يتداخل فرحانو: خليه, هو أكبر منك ومني. عنيد ومشاكس وقوي رغم نحافتو!. طيب! ألتفت للاعبين: ياولاد حارتنا لعبوا تركي! وبس أرجع بعد نصف الساعة يطلع وأفوت بدالو!.
ينضم إلينا يوسفو إبن خالة مامتي, وحبيب بوكان إبن الصايغ اللي باعنا خاتم الذهب المنقوش بالنسر, واللي ظل في عب الجقجق نواحي الطاحونة. طاحونة جد أبوي سابقاً. يا عيني على الإثنين, الواحد صانع عند الخضرجي في العرصة وجيبوبو مليانة مصاري وتفاح زبداني. والتاني, إبن الصايغ. حبيب يمشط بالبرلانتين. يقول, جده سوّى مسابقة بين أخوته وبين أبناء عمته, اللي يشتم ببراعة أكبر واكثر, يربح. وحسب كبر الشتيمة وقذارتها يوزع على أحفاده النقود. وحبيبب رغم هدوءه ورصانته, شتام ونص! يوسفو دائماً على عجل: ياالله نروح نكري قبل ما يدوّر علي معلمي. ركيب بسكليت عظيم يوسفو, يجوب به كل بيوت البلد ومعه خضار وفواكه, أقتنيت من معلمه. تستقبلنه النساء ببهجة وإكرام. تفرح لحمولته المبعوثة من الأزواج. لكن وين الأزواج. الأزواج مشغولون. ويوسفو غماز غماز. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى ستكون صفقة مليحة لأبو كيڤو. إستإجار أربع دراجات دفعة واحدة خير على المؤجر. الدكان والورشة على مدخل سوق الفاتورة المسمى بسوق اليهود. ويملك أبو كيڤو البيبيفوت (كرة قدم يدوية) طاولة واحدة فقط. يبيع المرطبات, وخاصة الكازوز. شراب يولع به كل مراهق. بل كل صبي. ماء, غازات وسكر. مذاق منعش وبرودة تضاهي برودة الثلج. ينتقي المعلم أفضل الدراجات, يتفاهم مع فرحانو, وهذا بدوره يفحص الدواليب إذا كانت منفوخة كما يجب. الكل يلمع. حتى الأجراس تلمع. كل شيء فضي. فقط خاتمي المفقود ذهبي. أتذكر. أعض شفاهي أعود انسى. جرسي لا يرن, الوحيد الذي لا يرن. يبرم أبو كيڤو البرغي بأنامله المطولة. ينقط الزيت على البرغي, ويا عيني عالرنين. يظبط الساعة من لحظة الركوب والإنطلاق "وديرو بالكو على حالكو يا ولاد". طبعاً ندير بالنا ولا شو. أعترف لنفسي: إن أصدقائي ابرع مني بركوب الدراجات. أنا والحديد, وإن كان لامعاً, لا نتساوى. لأسوق على مهل إذاً, تحسباً بقدراتي وتحفظاً على الدراجة. من الأربعة أنا الأقصر طولاً, أنا الأشقر الوحيد, أنا أزرق العيون. حساس حساس هذا الأنا... نركب على عرض الشارع, أو على طوله, الواحد جنب الآخر, ثم الواحد خلف الآخر, كأننا في موكب غامض. موكب بداية المراهقة. نرن بالأجراس, نمد النظر على طرفي الشارع, خاصة إلى الشبابيك ( وشافتني ولا ما شافتني ياولاد؟). ننظر في الأبواب والطاقات (الكوات) والسطوحات. هل من بنات تتطلعن فينا. وين سميرة؟ وين منى؟ وين فهيمة, وين منيرة؟ وين دنيا؟ ووين الدنيا. والله تعين يارب...
الصبايا ورود الله وجناينه. ولكن له ورود وجناين أخرى أنبتها بشتائل شتلها البشر. وشارعنا ينتهي غرباً بالكورنيش. المسمى "جادة القوتلي" الشارع يحز البيوت, بيوت الطين, ويمر إلى كورنيشه الأنيق. المشجر, المبستن, المرصوف. بيوت كانها صور من جورنالات خيالية. فتنة تأخذ القلب والذهن, تسحر العيون. مناظر يخلب لها وبها. ورود بشتى الألوان تتسلق سياجات, نباتات وأشجار لا تأتي على بال. روعة من بوابات, ومداخل, وشبابيك لم نتعود على رؤيتها. لأننا نعيش في حدود شارعنا وحارتنا وسوقنا. وها نحن في دنيا أخرى, مجاورة لنا ومختلفة عنا.
لا تذهل أيها الطفل! كمل ركوبك, فما زال أمامك مشوار. مازالت أمامك مناظر. لا تدع الخدر يتسرب إليك وأنت تسوق. جوقة أجراس تمر بالفرسان الأربعة. خيول حديدية لامعة. هذا يتسأل هل هزت رأسها الغزالة, وهذاك يقول غمزت له. كل حكة عين أسطورة. كل نظرة خرافة. هن بالمشي ونحن بالركوب. هن بالحكي ونحن بالرنين. ويارنين العمر على اول درب. وياحفيف النسيم على مطلع البرية والبراري. دخلت الغزالات بالبلودان, واللافتة تقول: "ممنوع دخول الدراجات". لن نبقى فريسة الظمأ وهنا الماء, النوافير وشذى الورد. هناك ظلال الأرز والسروات. هناك سنديان وصفصاف. وياعيني على غمز الصفصاف. إذاً لنربط الدراجات جنب البوابة وناطورها. لنتأمل عصر اليوم ونلمس خفض الحرارة. وننظر كيف إمتزجت كل ألوان الخليقة بالصورة. أحجار السّراي السوداء, خضار جنات البلودان, ورد البنات وزهر النبات. نشرب. نسترق النظرات ونستوعبها من الطرف الآخر. نخاف ولا ندري ما الذي يخيفنا. والوقت يمر لأن الوقت لم يعتاد إلاّ أن يمر. وحساب الكراية يتراكم وإبن الصائغ كفيل بالأجر...
نؤوب. نرد الدراجات. يسهل لنا أبو كيڤو رغم فوات الأوان. "عشر دقائق على حساب" يربت على صدره, يبرم شواربه . معليش معليش. الزلمة إستلم مننا ليرة ولا بأس في ذلك... نشرب قوارير السينالكو الباردة. ونمضي الى أمورنا العادية في حارتنا وشارعنا. نمضي إلى لعبتنا اللا متناهية. حيث مازال الرفاق يركضون خلف الكرة وخلف الخصم ويصخبون كانها لعبة العمر. لا أحد يحب يخسر. لكن تركي هوغير شيء. لم يعتاد الجري. لا خفة بحركته. لا تعاون. لا تجاوب مع أفراد فرقتنا. ومع ذلك يطلب الكرة. يعطوه, فيخسرها. يقف يشتم. يصرخ. يخافون منه. عبوسة وجه وخشم حاد كنصل السكين. عيون غراب ونظرة جارحة غدّارة.
يتركنا فرحانو. يروح يودع الفلوس عند أهله. ثم هو تعبان من شغل اليوم. ومن بقايا شقاوة الأمس وما قبل الأمس. الصيد. الفرن. الكاتو. العتالة. يريد يستريح يبدأ الغد عن عزم وجد. باص الشفق ينتظره. وهكذا نبقى مع تركي والمحنة اللي إسمها تركي. يترجاني خضر, يترجاني اسحاقو "إرجع للعب يافرجو". طيب! يا تركي إتفضل إطلع برّى. أنا مو برى, يقول تركينا العبوس وعيونه تتقلص حتىالغموض من شدة النفي وهزة الرأس. ياتركي الكرة كرتي, عطيتك تلعب بدالي, وهلق رجعت. يحضن تركينا الكرة, يوقف اللعب: إذا ما لعبتوني, ما في لعب بالمرة. يالله! وين حكو؟ وين داهودو؟ ياتركي بالتي هي أحسن جيب الكرة. هاتها وخلينا صحاب. لأ ما في كرة يقول المهبول العنيد. حقا ًمافي كرة؟ أسأل يقلقل رأسه قلقلة طولية, تجوتجوتجو, ما في وحياة أبوي المرحوم مافي!. طيييييييييب. إنتوا شهود ياولاد. نحنا شهود يافرجو. وأمسك حجرة قد راحة كفي... هات الطابة ياملعون! هات الطابة ياحمار! هات يا مصروع!!!. المصروع يخرج موس كباس من جيبه ويشق الكرة. تفقع الكرة وتطير الحجرة من كفي إلى وجه الغراب. يفلت الموس, تفلت الكرة, يغطي وجهه بيديه لتمتلي بالدم. أرى الدم وأهرب. لا أحد يستطيع يلحقني ما عدى الفزع. انظر خلفي. لا أحد خلفي. ألف إلى حانوت الدباغ, حوش الجيران اللي فيما خلف دارنا. أفوت الباب, أتسلق السلم قفزات قفزات. ومن سطوحهم أسير لسطوحنا وكأني بهلوان سيرك. هي خفة الفزع وإلا شو؟ سأختفي إذاً بالفرشات. تحت الألحفة... أسمع دقات الباب. صياح وتمتمات, وشتائم. العزى يجي على كيفه. والله تعين يارب!. تخمد الدنيا ومعها يخمد كل شيء. أغط بالنوم... ياتي الليل, الأهل والنجوم, وجدتي تقول: قوم قوم كسرت جبينو لهالمضروب, بس اللولاد كلهم يشهدوا لك, المضروب مزع كرتك بالموس الكباس. لا تخاف. أخذوه لدكتور بوغوص, خيط له الجرح, حط له ضمادة... لا تخاف. انت صاحب الكرة وفي شهود عاللي صار وحصل. والله تعين يارب!. أبعد عنا العزى يارب...!.
كيلوان من الرز وإثنين من السكر وعلولو لأهل المضروب. تعويض. و اللي صار بين الأولاد صار وفات. والكرة يرقعها وينفخها لقاء فرنكين ونص, أبو كيڤو كاري البسكليتات.
وتصالحنا.
يمدّكم الشّاعر فرج بصلو بأيّامه- ابقوا معه...