١‏/٩‏/٢٠٠٩

فرج بصلو: ذهب، وراح إلى الأبد... خوفاً من وصول الخبر لوالدي، لم أخبر والدتي عن ضياع الخاتم. لثقتي بأنه سيحول الأمر إلى كابوس. وأنا لا أطيق الكوابيس. فطالما غاب عن إصبعي شعرت فقدان وبتر عضو من جسدي. ولأني كنت مضطراً للغوص في الروتين لأمرر ما تبقى من الأيام لحين عودتي للمدرسة. عدد آخر من مجلة "سمير" أبهجني بألوانه. بأخباره. سلسلة من غرائب الفراعنة في الإهرامات المصرية. وبقية تافهة من الأشياء، نستني كل شيء. إحساس جدي بصلو بضجري، حركه نحوي. هي خطة بسيطة وضعها لتشغيلي. مهمة أسقطها على رأسي حين دفع دفتر الديون بين يدي. قرر تحويلي لجابي. ربط حزام على خصري الرفيع، فيه جزدان لأودع فيه النقود. وهكذا رحت أجول الأسواق حانوت حانوت حسب قائمة المديونين. أجمع المال، أسجل في الدفتر. أسلم فواتير للناس. أحسب الدخل. ولما أبلغ مبلغ معين، أعود للمتجر. أضع المال بين يديه المعرقتين. ليحضنني ويسلمني ورقة تدل على المبلغ. أرجع أمشط ما تبقى من الدكاكين المديونة لنا. من جميع الأيام التي أدور بها خلف الدين، أحببت يوم الجمعة. الحركة في السوق قليلة ومتمهلة. حتى حضور الباعة المتجولون قليل. تبدو الأرصفة خالية تقريباً. إلا من بائعي البوظة والشراب البارد. وبعض البشر الذين ينظرون بحر الصيف خير. كنظر الذباب، خير في كل شيء حلو... . هؤولاء يعملون، المطاعم تعج بالبشر، المخابز تضاعف أعداد أرغفتها والناس على أبوابها، طوابير تخطف الرزق من أضراس اللهيب... نعم الصيف في بلدنا لهيب! يترك بالجسد الحساس قروح وندوب. ثم يذوب ذوبان الملبس في ثغر طفل. على أغشية روحي الآسفة حفر فقدان الخاتم خاتم لا ينتسى، ليبدو عقوبة على إنجراري إثر غواية فرحانو ورفقانه الثلاثة، لأذهب معهم كي نسبح في علو النهر، بقرب الطاحونة. دائما في هذا الفصل تشح المياه، ولا تجد مياه عميقة تستطيع القفز إليها وفيها من الضفة. لا تجد بغير هذه الأنحاء. أتقبل شروح فرحانو وأقتنع. فرحانو سباح وصياد سمك. فرحانو صديقي رغم عدم تعلمه في المدرسة. رغم أميته. فرحانو يلعب معي الكرة. يشاركني لعب البيلياردو والبيبيفوت. ركوب البسكليتات المكرية. فرحانو يبيع الكاتو أمام السينمات. أحياناً يشتغل بالحمالة. أحياناً بتنزيل الحقائب من البريد (الباص). صبي صلب البنية. ضحوك. يحب الرفقة والرفاق. نجتاز الأسواق معاً، العرصات (كبيرة وصغيرة) تاركين خلفنا ضجيج ونقاش أسعار، وصياح البائعين والزبائن. ثم الجسر، المسجد الكبير يتعالى في الأفق. حارة البشيرية وشرقاٌ منها البرية تكشف لنا أحراج متراخية في لهيب الشمس. الأصفر يتلألأ في بقايا الخضار. وهاهي تتغلغل لسان النهر المخضرة. اللسان الكسولة والناعسة. وعلى صفرة الكون اللا متناهية نسير خمسة صبية مزودون بشبكة صغيرة تابعة لزميلنا المكعوك (مجعد الشعر) فرحانو. نشتهي صيد شيئاً ما بواسطتها. ولم يكن مبتغانا الحقيقي سوى تبريد وكبح لهيب الجحيم الصيفي. الطقس الحارق في بلد طفولتنا الغافلة. طفولة تتسلق ضمن حر حارق بداية صبيتها. صبيتنا. وبما أن جم أسماك وسردينات الجقجق فرت من هناك، كأنما أحد أخبرها عن المؤامرة. أو لربما أرادت الخروج من النهر في ذات اليوم الخماسيني. لتختبي من الشوب في أماكن غيبية. أماكن لا يصلها الغشيم... رحنا جميعاً نفرغ لهيبنا، ونفضي شوبنا المشترك، حيويتنا المتبقية. بقفزات رهيبة إلى الماء. إلى حوض مخضوضر ومحدود. نغوص فيه. نقفز. نسبح. باتجاه المجرى. إذا في مجرى؟ وعكسه أيضاً. كأنما كنا أسماك ذلك النهر والنهار في تلك البقعة المبللة. وفرحانو كان صياداً لا من إرادته، بل رغمها. وكان سباحاً رشيقاً. وكان صاحب فكرة الغوص تحت المياه إلى أعمق ما يمكن. لا يخرج الإنسان من النهر مثلما دخله. أسبح في النهر فترة ويسبح النهر في عمراً. يمر من عهد لأخر. يجتاز معي محيطات ومحطات. يغوص يغوص في واقعي. يطفو من باطني إلى سطح معرفتي. نهر يجف ولا يجف. نهر يغرف البيوت الطينية في سيوله الشتوية. نهر يشح كالعين من كثرة النحيب. يغوص فرحانو ونحن نتبعه. أعمق فأعمق. نقلد حركاته. نقلد تهوراتنا. صلب الفرحانو. أسمر من الشمس. بني العيون. جميل بمعنى الجمال. بطل يعرف أغوار النهر مثلما يعرف مسطحاته. طيلة الأيام يزور المكان يصطاد فيه، يبيع السمك في السوق، يساعد أهله ببعض القروش. ما أدراك أيها الطفل على حافة صباه وصباك أنت. صبي وصحبته. زملاء يريد الإفتخار أمامهم بمهارته. خمسة صبية بجوار الطاحونة. طاحونة تقول جدتي. ملك أبوي برهو سابقاً واسئل جدك بصلو. "غير مرة جدة" بس أبوكِ وين والطاحونة وين؟." "لأ فرجو ما إلك حق!". أبوي كان أفندي. مو بس طاحونة وحدة سبع طواحين، على مدى المنطقة كلها. كان ياما كان. كان كان. قرب التلال. عند حدود الشيء واللا شيء. كان. أسماء تمر في الذاكرة. أسماء. مثل ماردين. نصيبين، تل كوجك، دهوك، موصل. عين ديوار، درباسية، دير الزور. قامشلو. قامشلي. قامشلوكي. قامشلية. أسماء. أسماء هي بداية شيء. كل شيء. وضاع كل شيء. إلا من الذاكرة. ونحن نتبارى فيما بيننا على الوصول لأغوار النهر. أليست الذاكرة نهر من البدايات؟ أليس العمر جدولاً يتراخى في عب الأيام. جدولاً نفقد فيه خوصة الحياة. والحياة ما هي؟ ذاكرة؟ نسيان؟ خلق؟ وجود؟ فقدان؟ يمسك فرحانو حصاة يرميها وسط النهر. ينتظر قليلاً، ثم يقفز، يغوص (لحتى يختفى. بلعه النهر. نهر الجقجق. النهر المنهك في الصيف). يظهر فرحانو وفي يده الحصاة كأنها درة. لنتبعه إذن. لنغوص. لنستفز بعضنا ساعات. لننسى شوب نهارنا الحارق. وليبهت بنا سقف السماء بزرقته الباهتة. المتلظية. ليدوي ويصدى عياطنا. نحن الخمسة. موزو الطويل والنحيف، يعقو المكور البدين. إلييا الفزم. فرحانو السباح. وفرجو صاحب الخاتم. أغيب عن إنظباتي. انسى خاتمي. الخاتم اللي يزين إصبعي منذ مطلع الصيف. أنسى هدية جدي الفاتورجي، أبو أمي. يقول جدي تستحق هدية. علاماتك ميه بالميه. راح تصير محامي. يقبل رأسي، يضع الخوصة على إصبعي. قياسها يلائمني. تلمع. تلمع الخوصة. ذهب عيار أربعة وعشرين. وأنساها. أنسى النسر المنقوش عليها. أغوص في النهر مرة تلو المرة. هل من إهرامات في النهر؟ هل من حصى؟. ألقي الحصاة وأسرح. أٍسرح كأني على اللسان الخضراء رضيع يدلل البلل إصبعه. أحاول التأكيد لنفسي ولزملائي. ما تستطيعونه. لا يصعب علي. أستطيع، طبعاً أستطيع! ولو... بدكون أكثر وأبعد، بدكون أعود بالحصاة؟ أعود بها. وإن لا توجد... أكمش الطمي من قعر النهر. لأطفو وأطفو. علامة لذروة قدراتي. جبروت من وحل لا أكثر. لكنها جبروت، ألست الأول في الصف؟ آآآآ يعكو يعقوبو ؟ شوفني. شوفوني ياناس؟. هذا أنا على على صخور الضفة وإصبعي خالية من النسر ومن الذهب. خالية من هدية جدي الفاتورجي. ألم يتبقى من النسر ولو ريشة واحدة؟ ريشة للذاكرة. هل ذابت الخوصة في حامض النهر؟. يغوص فرحانو بمهارته الغير مجدية. فلا نسر ولا خوصة. بلع النهر خاتمي. بلع النهر كبريائي وتهوري. بلع السمك نسري المتلألئ. بلع الجقجق أغلى هدايا عمري. وما يلمع في أعماق روحي ليسه إلأ رسماً مغايراً ومصغراً لنسر الطفولة. بين الرمل والوحل. بين الطمي والمياه. خاتم ذهب... ذهب يلمع من مخابز قامشلو. وفي انحاء المخبز ترى بعض البشر على كراسي القش يلقون النرد على الطاولة، يلهون بالشِشبش. يتدحرج الزار ويدوي ضرب المرص. مرص. مرص. شذى حلاوة ونكهة بقلاوة. نكهة تراب يرش بالماء، لتبرد الأرض المحمومة... طرابيش طرابيش عكالات عكالات كفيات كفيات برنيطات برنيطات لغات لغات لغات يحكي بها البشر. يحكون الكردية، يحكون. يحكون العربية، يحكون. يحكون الفرنساوية، يحكون. يحكون التركية، يحكون. يحكون الأرمنية والسريانية، والكلدانية، والآشورية، والآرامية، والعبرانية. ويحكون بخليط كل هذه اللغات. وأنا لا أجد لغة أخبر بها عن فقدان خاتمي. لا أجد كلمة. الخوف يخرس الإنسان. الخوف يبتلع المفردات. أعود لمتجر جدي. أسلمه الجزدان. أسلمه الدفاتر. أسلمه المصاري. يضع في راحتي ربع الليرة. خمسة وعشرين قرش لا أقل. وحفنة قضامة بسكر... وفي قعر روحي بين الطمي، بين المد والجزر يلمع خاتمي المنقوش بالنسر... آسف آسف يا جدو... . وما جدوى الأسف. لا جدوى من الأسف! عدد آخر من مجلة سمير سيبهجني بألوانه المؤقتة! ذهب يلمع في مخابز قامشلو ذهب الفراعنة المحنطين يلمع في إهرامات الجيزة المصرية. وذهب ما ضاع مني وذهب. ذهب ذهب... وراح إلى الأبد.
الشاعر فرج بصلو يقعد ويحكي لكم، ابقوا مع حكيه...