٢٥‏/٩‏/٢٠٠٩

فرج بصلو: على بعد قرنفلة... هي جميلة لا لأنها تسمى جميلة. ليس لأن عيناها البنيتان واسعتان. ليس لرشاقة قامتها أو ملس شعرها الأسود المشدود إلى الخلف. ليس لنعومة أناملها, ولا من أجل عنقها العاجي وجبينها المرمري. هي جميلة لأنها تبتسم لي فور دخولي للحوش, وتضيء كالنوارة. تبدو من الشباك المفتوح صورة في برواز. تبتسم لي وللشمس. تبتسم ابتسامة تليق بجميلة. يتكور وجهها ويشع. تزاح شفتاها الرقيقة لتحاكي ورود الأصص, وظلال الدالية الناعمة. هي جميلة وتستحق إسمها. على بعد قرنفلة, ريحانة, وياسمين صارخ الشَّذى, عرفتني بها والدتي من أول يوم بدينا السكن هذا الحوش الكلداني. وهو كلداني لأنه يعود لكلدانيين. ويقع وسط الجادة. امام مدرسة الكلدان. ودير الكلدان. الدير وراء جدار إسمنتي عالي. يتسلقه النبات, وتعلوه الزهور. له بوابة حديدية كبيرة مدهونة بالأسود. وكذلك المدرسة, من مطلع مفترق الشارع بناية إسمنتية. جدرانها العالية بيضاء. درج فسيح يعلو إلى بوابة من زجاج وحديد. مدرسة مزودة بالكهرباء. خلف بوابتها بهو. على طرفيه صفوف. آخرته مفتوحة على باحة وكنيسة, وصفوف أخرى. حنفيات مياه. نظام, تعليم, تربية وخِلق فضي فضي. وبوابة غربية. السيدة وسيلة كئيبة. عيونها منكمشة بين الأخضر والأزرق. تكاد تبدو مطفأة من كثرة النحيب. كل شيء نصيب. ونصيبها: تتشمس ناحية البئر. تحك منخاراها بقشة رفيعة وطويلة, يسيل منهما الدم. خشمها ينزف. تغسل وجهها بالماء. أصب على يديها مباشرة من الدلو. تسحب الهواء إلى رئتيها كأنه نشوق. تزفر. تضع يدها اليمنى على جهة صدرها الأيسر, تتحسر مطولاً. تفكر ماذا تقول: هَوْن مكسور. قلب. قلب مكسور. لا أفهم. ما أدراني بقلوب الناس؟ ثم كيف تكسر القلوب؟ تكسر ساعد, معقول. تكسر ساق. معقول. تكسر ضلع. ولكن قلب؟ كيف يكسر قلب. وسيلة نحيفة نحيفة, فستانها المترامي فضفاض على جسدها المصغر. جبينها مربوط بوثاق ناصع. لا تجيد العربية. لا تتكلم الكرمانجية. فقط الكلدانية والآرامية. ولما تتكلم ترتجف شفتاها الناعمتان. ترتجف شامتها المنقوشة كالوشم حد أقصى شفتها العلوية. تثير الإنتباه والقلق. لعبوسها وكآبتها. ما السر الذي يشغلها؟ هناك سر إذاَ. ما السر في كآبة السيدة وسيلة, ما السر ماما؟ أراها توخز مناخيرها. تنزف, تبكي. تتمتم بالكلدانية. ولا أفهم. "الدنيا كلها كئيبة". ترد علي ماما. وانت تستفسر فقط عن سيدة وسيلة؟ "طيب ليش تمنعوني أروح دكان جدي بصلو؟. خليها لغير مرة. يما! ليش الدنيا كئيبة وليش نقلتوا السكن لبيت السيدة وسيلة؟ لأي مرة أخليها؟ لا دواب في هذا الحوش. لا دواجن, لا غنم ولا بقر. لا زريدية, لا حظيرة, لا قن ولا حمّام. لمين بدكي أخليها؟ لمين تحكين, إذا ما حكيتي لي؟ "عنيد, عنيد انت ياولد". أوووووف قديش عنيد. ومع ذلك تبدأ وحسها يرتجف, وعينها تتبلل: تتذكر ماقلته لك عن خطوبتي وزفافي؟ (طبعاً أتذكر). طول نهار ما قبل العرس, راح عالمكياج والزينة, النظافة واللبس. عصر اليوم إلتمو الأهل ببيت أبوي, نستنسى العريس وأهل العريس. ومن وقع الداهولي عرفنا قدومهم. تقدمهم سيمح الحلاق وطنبورته. توقفوا ببوابة حوشنا الواسع ومن بين الزغاريد, بعثوا طلب خروج العروس وأهلها. وطلعوا أهلي إخوتي, وأولاد عمي والمعازيم, الجيران والأصحاب, ولما أرادو يطلعوني من الحوش سمعنا صرخة من السطوح. رفع الكل رؤوسهم لفوق. وعالسطوح واقف عمك حنون بإيدو جرة, وراح يهدد بكسرها على رؤوسنا إذا ما دفعنا له "حلاوة" مرور العروسة. صارت دوشة وصارت خربطة مو ببال أحد. وعمك حنون فوق رافع الجرة بالهوى, يحلف بالسموات: إذا ما بتدفعوا حلاوة مرور العروسة, الجرة بحجارها تهوي على رؤوسكون!. فوشوش أبوي عمي عزيز: روح ياأخوي ورضي هالأزعر. أول زواج من ولادي وشوف هالبهدلة! روح أخوي, روح رضيه بقرشين وسكتو! روح وعوضنا على الله... يترك عمي العزيز الحفل ويختفي بين الجموع. يلف إلى بيت المشاوي, الدار اللي ساكن فيها زميللك فرحانو وأهله. معروف إنها الدار الوحيدة اللي فيها درج طين يودي إلى السطوح, بدل سلم خشبي. يصعد, ويلف ويغافل عمك حنون ويمسكه. يرمي الجرة على طرف ويهشمها. ويضربو كفين. ويصرخ في وشو, شو إنت قرباطي, إنت قرجي. مو عرس أخوك ياحمار؟ على مين جاي تعمل عنتريات؟ إخجل يا قرجي!!! ويمر العرس المر إلى دار جدك بصلو. عبر الشوارع. الرقص والأغاني, الزغاريد ورمي الملبس, ودوسدوس الله عليه". داهولي, زرناية, طنبورة... والليل يبرد الدنيا وينهي حفل اليوم الأول تقريباً عند وش الصباح. وتفطن أختي وردة لمعطفها. جوخ إنكليزي. تفصيل خاص على مودة الجورنال. يوم يوم أجت الخياطة لعندنا وعملت قياسات. والبالطو مشرح من الخلف. مشرح بالشفرة. ممزوع من الظهر شقف شقف. ونكتم القضية من شان يمر العرس بسلام. وبعد الأيام السبعة. نذهب لقارئة فنجان لترى في قدح القهوة وجه عمك حنون. نروح على المنجمين ونفس الوش يطلع بالزيت والميه. نروح إلى السَّحرة, وما في غير وش. ونكتم القضية. ويبقى الخبر الأسود بيني وبين أختي وأبوك. ويمر الزمان. ويكبر صاحب الشفرة والتشريح. يترعرع. يتلاكم بالنوادي. يرفع الأثقال. يصير قبضاي. ولا ولم ينسى ليلة الزفاف, وكيفية كسر جرته. وأكل ضربته. ونزوله من السطوح مخذول. يترقب عمي عزيز من بعيد, يومياً يترقبه في ساعات العصر. يدري جلوسه في مقهى سيمح الحلاق. امام معبد اليهود بشارع الجامع. يلهو عمي بالنرد والطاولة, بالدومينو, بالشدة مع زملاءه... ويقبل اليوم فيه سوء الحظ يكبر الخسارة. وعمك واقف على رأسه. يتمسخر له. يستفزه طوال الوقت. إلى ان يضيق به وبكلامه, ليمد يداً طويلة ويدفعه قائلاً: روح ولاك, كلب إبن كلب! على مين بتتمسخر؟. وكانت الدفشة قوية ومفاجئة. يتقهرقر عمك الى الخلف ويقع على الأرض. والقهاوي أراضيها لا ترحم آنذاك. ينهض المضروب ليقف وقفة الملاكم ويبعث بلكمته اليمنى واليسرى مراراً في وجه ورأس عمي عزيز الجالس. ليهوي من كرسي الحصير. لتهوي أسنانه, فك بعد فك. دم بعد دم. جرح بعد جرح. كسور بعد كسور. مقتلة. أقارب من كل طرف. والشرطة قريبة. الشرطة تصل. يقبض على عمك حنون. يرسل عمي عزيز إلى المستشفى. علاج, خياط, عملية. ولازم إعداد طاقم أسنان. ما عدى الآلام كلفة باهظة. باهظة جداً وعذاب الدنيا على رأسنا. ولعمي درب مفتوح لقلوب الشرطة, وخاصة رئيس المخفر. يزوره رئيس المخفر يومياً في المستشفى. يمر وبعودته يفوت على متجر الأقمشة, ينتقي ما يريد. إكرمايات تفصل تفصيل خاص عند إبراهيمو الخياط. وأحياناً ظرف أبيض ثمين يفوته بعبه. إكرمايات. لوازم بسيطة. تخلي عمك حنون موقوف. تتهمه بالجناء. إصرار بقرار حضرة رئيس المخفر إلى إتمام القضاء. يحاول جدك بصلو الرشوة. فتأخذ منه للتسهيل فقط. لا يفرج على الجاني طالما هناك شكوى ودعوى ضده. يقول جدك لجدك: إبنك جنى على أخوي. هناك مبالغ ستدفع للمستشفى. عملية للفكين. تركيب طاقم أسنان. جروح وقروح. تعويضات. ولازم استخلاص الدرس والعبارة. يطول الكلام ويعرض. لكنهما تجار وأقارب ويفهمان. ويفهمان بوساطة المحامي أبو رامي, أن يكفل جدك بصلو بكامل المصروفات والتعويضات والإكراميات وأجر المحامي أبو رامي, بشرط واحد: تخلي عمي عزيز عن الشكوى والدعوة. يكتب محضر ويعقد عقد مكفول بسند وشهود. ولا حل يأتي لفك عقدة إلاّ وله حسابه... . ظهر اليوم أتاني جدك يطلب كل مجوهراتي. الحلي, العقد, الخواتم والأساور. كل الذهب. على شو عمو. مو شغلك أنتِ, هاتي وبس!. طيب ليش أعطيك مهري كله. ذهب أبوي وبيت أبوي؟ يعيط علي. يرج الحوش. تفزع حتى الدواب. جدتك ساكتة, تخاف منه. يأخذ ما علي من حلي, يفتح الخزانة, يفتش, يلملم كل ثمين ونفيس. كأحد قطاع الطرق يسطو. يذهب بالنفائس يرهنها عند شيخة الطي مقابل المال. ويدفع المصروفات, والتعويضات, والإكراميات, ينفذ كل ما إتفق عليه بينه وبين المحامي. أيام ولا اجرؤ التحدث لأبوك بما جرى. ولاكن جانيت بنت عمي عزيز, ذهبت لأبوها وباحت له بالأمر. إنفضحت القضية وقامت القيامة من جديد. وأبوك يزعل إذ يرى نفسه صاحب الذهب أكثر مني ومن أهلي. ويقوم في وش أبوه, والنقاش حاد وصارخ. يعصب جدك ويرمي بقية متاعنا في الشارع. اللحف, المخاديد, الفرش في الشارع. مطرودين يصيح بنا, لا إقامة لكم عندي ....! أبوك يصادق المطارنة من زمان وخاصة قس الكلدان. يسمع منه الحديث, يأسف. يخبره بالحل: بإمكانك نقل المتاع لدار وسيلة, مقابل المدرسة الكلدانية. عندها غرفة شاغرة كلفتني أكريها لأي إبن حلال من معارفي, وأنت الأولى بذلك. يتفق معه على سعر الإيجار فوراً, يبعث بعض الرهبان والراهبات ويساعدونا في النقل لدار وسيلة. وأرسلنا حكو الدربكجي للمدرسة تايجيبك لهون. وتبكي. يذرف الدمع حتى شفتيها. "حظي وحظ يتمي ياولدي". تحضنها وسيلة: بس نعيمة بس.. الله كريم.. . وتعود وسيلة تضع يمناها على صدرها الأيسر: مكسور, قلب مكسور. ليش قلبها مكسور؟. أتسأل. أ وسيلة! ترد والدتي من بين الدموع الصامتة. هي حكتني, ما إلها غير ولد وبنت في هالدنيا. البنت عانس وطول اليوم بالدار. أما الصبي, أنهى دراسته في المدرسة الكلدانية. أحرز البكلوريا بنجاح متكامل. فأتى المطران عيسى يترجاها إرساله إلى ألمانيا ليتعلم الطب. والطبيب ينفع مجتمعه, ينفع أهله, خير له, لك وللبلد. سيعيلك, ويدعم الطائفة. ستفتخرين به. ولم يذكر الحنين بحرف. لم يتطرق لشوق الأم لوحيدها. وسيلة لا تعرف ما هذه الألمانيا. فكرتها مدينة سورية مثل, حمص وحلب. يقولون في مدن أخرى بالبلد ما عدى قامشلو. عمرها ما برحت قامشلو. لكنها تصدق وجود مدن اخرى. على بلدان أخرى لم تسمع. واخيراً تقبل نصيحة المطران, وليش لأ, أليس مطرانها, قس طائفتها, ويريد الخير لها ولإبنها وللطائفة. يسافر الشاب على حساب الكلدان مدعوماً بالألمان. وتمر الأيام بكَّرها فصولاً وفصول. تتتالى الأعوام والمواسم ولا من خبر وحيدها إلا المكاتيب. تقرأها لها إبنتها العانس, يقرأها لها المطران. يهدئها.. سيعود طبيب لمنفعة الكل. وقد أخبرها أخيراً بأنه تخرج بعد ثماني سنوات "جراح متخصص بجراحة القلب". وسوف يتزوج شابة ألملنية شقراء زميلة له في التعليم, لن يعود إلى قامشلو... لن ينام بعد في ليالي الصيف على السطوح مقابل دير الكلدان. لن يعود لمدينة تلملم قماماتها بعربيات مكشوفة تقودها الخيل. لن يعود للعجاج, ولا لعواصف الثلج القارصة, الجليد والوحل, دلف البيوت, وخرابها من السيول. يملك سيارة, يسكن دار معمرة من الإسمنت, لها مصاعد كهربائية. يسير بين بشر آدمية في شوارع معبدة, له عيشة تخيم عليها الحرية, وهو من الآن مواطن ألماني, وألمانيا بعيدة بعيدة يما. قد يركب الطيارة مرة ليزورها في زمن مجهول. قد يبعث لها تذكرة لتأتي إليه بصحبة أخته. "أختي لماذا لم تتعلم, لماذا لم تتزوج, أختي الجالسة في إطار الشباك طوال الأيام مثل صورة في برواز... . كئيبة وسيلة. تكاد تطفي عيناها من النحيب. "الدنيا كلها كئيبة" تقول ماما... راحت المجوهرات... رمانا في الشارع... بهدلنا... سوَّانا فرجة لأهل الحارة... . قلب, قلب مكسور, ترد عليها وسيلة وتحضنها. أسمع ولا أبكي... أنا لا أبكي في مجالس النسوان... . أسهو في الليالي مع النجوم والقمر... أسهو لوحدي وأبعث سهادي على طرف الهوى ليجول أساطيح الحارة, ليجول بيت بيت, وعمارة عمارة. وجميلة جميلة لا لأنها جميلة. بل لأنها فاتنة على بعد قرنفلة وريحانة وياسمين صارخ الشّذى...
تابعوا سرديّات الشّاعر فرج في التالي من الأيّام... (في رسائل الحجحجيك).