١٦‏/١٠‏/٢٠١٢


أيّها الأصدقاء
على الأغلب سيتم مرّة ثانية 
تجديد الموقع/ المدونة 
أهلا بكم وإلى اللقاء قريبا
--------

٤‏/١٢‏/٢٠١١

من المشقة بمكان أن يستطيع أحد تشكيل لوحة متراصة كاملة و دقيقة عن هذا البحث بسبب انقسام البلاد والضغوط الواقعة على اللغة وتوزع الكُتاب في أجزاء متفرقة من الأرض وتبعثرهم وتعذر التواصل فيما بينهم و وجود المعوقات التي تمنع اللغة من السعي نحو الأفضل. لذلك فلم تتوحد الآداب الكردية في يوم من الأيام ولم يُجمع كُتاب الكردية على كلمة واحدة أو فكرة واضحة. لأن الحدود التي مزقت وحدة الأرض هي نفسها التي مزقت أوصال الأدب الكردي ومزّقت ما بين كُتّابه، لهذا فإنني أرغب في الحديث عن الأدب الكردي تحت ثلاثة عناوين مختلفة... الأدب الذي يقيم أهله في الجزء الذي يرزخ تحت الهيمنة العراقية والإيرانية والجزء الذي يقع ضمن الحدود التركية.. والأدب الذي يمارسه أهله في سوريا والاتحاد السوفياتي.
وقد ترعرع الأدب الكردي في هذه المناطق الثلاث دون أن تتم أية رابطة أوْ وشائج بين أدباء هذه المناطق ودون أن يخرجوا من عزلتهم وكان الأدب الذي نشأ هنا وهناك ذا خصوصية لا تعُنى إلا بشؤون هؤلاء الأدباء في هذه الرقعة من الأرض أو تلك.
إلا أنه –أي الأدب- في هذه الأعوام الأخيرة ولاسيما بعد عام 1970م استطاع إزالة الحواجز وخرج من عزلته، وتحرر من طوق الأسر اذ استطاع الرواد من الكُتّاب والأدباء في كل هذه الأجزاء المختلفة أن يقيموا بينهم جسوراً للتواصل وتبادل الأفكار والآراء وجلب ما لدى الآخرين من الأعمال الأدبية ونشرها والانتفاع بقراءتها. وحتى أوقات قريبة كانت مناطق العراق وإيران تمتلك من طاقات الطباعة ووسائل النشر أكثر مما تمتلكه الجهات الأخرى. والأدباء في العراق و إيران يستطيعون الاطلاع على الأعمال الأدبية التي تنشر في البلاد وفي كل أرض من العالم.. إنهم يجلبون تلك الأعمال ويقدمونها إلى قرائهم... وأكراد الاتحاد السوفياتي لهم دور كبير في تنشيط الحركة الأدبية ولهم اهتمام بطباعة الكتب ونشرها ولا يتذمرون من متاعب. أما الأدباء الذين يعانون حرماناً فهم الذين يقيمون ضمن الدولة التركية وفي سورية لأن طبع الكتب باللغة الكردية غير مباح، لذلك –في أحيان كثيرة يصدر الكتاب في هاتين الدولتين أعمالهم الأدبية في دول خارجية.
ونعتقد أن هذا التقارب والتواصل بين الكتاب في عهد غير بعيد سارا خطوات جادة لتوحيد اللهجات ودمج الآداب وهذا التطور الحديث يكسر صمت السنوات المنصرمة، وينعش الحياة الثقافية والأدبية ويضيف إليها ثراء ونشاطاً وحركة.
ولا بد لنا هنا أيضاً من أن نتحدث عن أحوال بلاد الاغتراب أو بكلمة أكثر وضوحاً وصراحة عن للاد المنفى التي غدت موئلاً وملاذاً للأدب الكردي. وينبغي لنا أن نتذكر صحيفة "كردستان" وهي صحيفة كردية صدرت في القاهرة عام 1898م. وبعد هذه الصحيفة صدرت صحف أخرى في أعوام 1910-1920م في استانبول. ونشرت الأعمال الكردية "الكلاسيكية" أول مرة في المنفى. وقد كانت المراكز والعواصم الكبيرة مثل دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد والمدن الكبيرة في أوروبا- مقراً وملجأً دائمين لنشاط الكتاب والمثقفين الأكراد مع أنهم كانوا راغبين عن هذه الحياة الكئيبة المترعة بالتفجع والتحسر والآلام... هل كان في وسع الأدب أن يتنفس ويطمئن إلا في خارج البلاد. لأن الأدب وأهل الأدب يعيشان في كردستان في حالة من القمع والإرهاب. وحسب البحث الذي أجريته قبل بضعة من الوقت، فقد تجلى لي أن قرابة /32/ اثنتين وثلاثين صحيفة ومجلة كردية تصدر" في أنحاء متفرقة" ترى كم من هذه الصحف والمجلات تصدر في بلاد كردستان؟ وهذا برهان آخر على أن بلاد الغربة قد صارت مقاماً ومستقراً للنشاط الأدبي والثقافي والتنويري ولاسيما لللهجة "الكرمانجية" الكردية الشمالية.
منذ عام 1970م وحتى الآن نجد نشاطاً هائلاً من الهجرة إلى خارج كردستان بسبب الأوضاع الاجتماعية والسياسية. ولهذه الهجرة حسنات وجوانب إيجابية... حيث يلتقي الأدباء وتتقارب اللهجات وتتجه نحو التفرد والتوحد. كما أنشئت في خارج كردستان مراكز للقاء الكُتّاب ومؤسسات ومعاهد علمية كردية. وعلى الرغم من أن هذه الجمعيات والمراكز والمؤسسات والمعاهد لا تستطيع ان تمثل آداب ولهجات عموم كردستان إلا أنها تمضي بخطوات حثيثة نحو الرقي والسمو.
وهنا أرغب في الإشارة إلى نقطة أخرى وأن ألج عوالم الأدب في كردستان... وأريد أن انظر ملياً إلى الأدب في سوريا وتركيا وإيران والعراق دفعة واحدة لأن الأعمال الأدبية في هذه الأمكنة تكتب بأبجدية واحدة (تستخدم الحروف العربية في كردستان إيران والعراق –اللهجة الصورانية- وفي تركيا وسوريا الأحرف اللاتينية).
وهكذا فإن الروابط الأدبية بين الأدباء والكتاب في إيران والعراق أكثر متانة مما بين الأدباء والكتاب في تركيا وسوريا. والتحول الذي طرأ على الكتابة الكردية في سوريا كان بتأثير أولئك الأكراد الذين هاجروا من تركيا ولاذوا بسوريا فكان أن بدأت الكتابة بالحروف اللاتينية.
الأدب الكردي في كردستان العراق وإيران
من الملاحظ أن الأدب الكردي في هذين القسمين نال حظه الأوفر من التقدم.. لأن محاربة ومنع اللغة والأدب كانت أقل من الأجزاء الأخرى. ولا سيما أن الأكراد كانوا دائماً أصحاب حق في القراءة والكتابة في القسم الكردي من العراق في فترة الاحتلال البريطاني وبعد جلاء الاحتلال.. وكانت لهم مجلات وإذاعة ومطابع وصحف. ولئن لم يكن الأكراد في القسم الإيراني يحصلون على هذه الحقوق والامتيازات على قدم المساواة مع القسم العراقي، إلا أنهم لم يكونوا محرومين –في أي وقت من الأوقات- من الصحف والمجلات والمطابع.  وعلى سبيل المثال كانت هذه الأجزاء والأجزاء التي تقع في وسط كردستان تعتبر أسرة واحدة. لذلك وجد الأدب في هذه المناطق طريقة نحو الترقي.
عند البحث في شأن كردستان العراق علينا أول وهلة أن نتذكر قرار هيئة الأمم عام 1925م الذي يعلن عن كردستان واللغة الكردية بشكل رسمي...
منذ عام 1932م وحتى عام 1960م كانت إدارتان مستقلتان تديران شؤون العراق تحت الانتداب البريطاني(53) وفي هذه الظروف اختار الأكراد لأنفسهم حكماً ذاتياً داخل العراق فأصبح العراق في هذا الوضع مركزاً هاماً و وسطاً صالحاً أساسياً للنشاط الأدبي الكردي. وحتى ذلك التاريخ لم يكن للعراق أي شأن ذي بال. وكانت استانبول عاصمة الدولة العثمانية مركزاً لطباعة الأعمال الكردية ونشرها. إلا أنه بعد قيام الجمهورية التركية الحديثة 1923م هاجر بعض المثقفين والمتنورين من الأكراد من استانبول إلى العراق مثل: توفيق سليماني،(بيرميرد) ورفيق حلمي ومصطفى باشا ياملكي، وتوفيق وهبي، ومحمد أمين زكي وغيرهم من المثقفين والأدباء واستقروا هناك واستتب بهم المقام، وأصحاب هذه الأسماء كانوا موظفين كباراً في الحكومة العثمانية وفي سلكها العسكري، على جانب كبير من الوعي والعلم والتجربة. وعلى هذا المنوال وصل قدر كبير من المعرفة الأدبية الكردية إلى داخل العراق. وبعون من الوجود الإنكليزي تقدم الأدب الكردي وتطورت اللغة إلى الأفضل وبإشراف الانكليز صدرت بعض المجلات الكردية مثل: مجلة "بيشكوتين Pêşkewtin" عام (1920-1922)م، ومجلة "زيانوى Jiyanewe " عام (1923-1936)م وجذبت إليها كثيراً من الأدباء والكتاب والمثقفين. وكان لهذه المجلات تأثير واضح في اللغة والأدب. وبعد صدور هذه المجلات بدأت مجلات ثقافية وأدبية وعلمية بالصدور مثل: "دياري كردستان Diyarî Kurdistan" عام (1925)م ومجلة "زاري كردستان Zarî Kurdistan" عام (1926-1932)م ومجلة " روناك Ronak" عام (1925-1935)م ومجلة "زين Jîn" عام ( 1964-1936)م ومجلات وصحف أخرى.
وهذه المجلات والصحف الصادرة في العراق وصلت إلى الذروة من مراتبها بعد صدور مجلة "كلاويز Gelawêj" عام (1939-1946)م.
وبفضل الحرية السائدة في كردستان العراق، افتتحت مدارس وجامعات كردية هناك وصدرت مجلات مثل "كلاويز" استمرت في الصدور أعواماً. وتأسست جامعات وظهرت جمعيات ثقافية وأدبية ومعاهد علمية. ففي عام 1926م  تأسست في مدينة السليمانية جمعية "جمعية علماء الأكراد" و وضعت هذه المسألة ضمن برنامجها:
1-إصدار المجلات والصحف لنشر الثقافة والمعرفة لدى الأفراد في البلاد.
2-تأليف وترجمة الكتب التي تعنى بالتعليم والتدريس.
3-افتتاح المعاهد والمدارس حتى يتسنى للناس التعلّم ليلاً نهاراً.
4-التحضير للأمسيات والاجتماعات والمؤتمرات.
5-إنشاء المكتبات العامة وافتتاح مكتبات وحوانيت لبيع الكتب وتوزيعها.
6-إيفاد البعثات العلمية إلى خارج البلاد للتخصص في أصول التدريس ومعرفة "الانثولوجيا- علم الأجناس" والجغرافيا.(54)
وقد تحققت هذه الأهداف إبان الحكم  الذاتي، عام (1970-1974)م لاتحاد الكتاب الأكراد وتمت الموافقة بالإجماع على القرار التالي:
"العمل على تطوير وتحسين الأدب الكردي الموحد، وصيانة خزانة اللغة الكردية والأدب الكردي، وحيازة الوسائل والأسباب لتنشيط البحوث والحركة الأدبية".(55)
ولدى هذا الانتعاش الأدبي والعلمي في هذا الجزء من كردستان تحسن الأسلوب النثري أكثر مما في الأجزاء الأخرى.
وتوجد في العراق وإيران نماذج من النصوص الدينية المكتوبة نثراً أول مرة.
وأولئك الذين اشتغلوا بفن الكتابة النثرية في العلوم العقائدية والشريعة الإسلامية والتصوف، هم:
الشيخ حسيني غازي (1790-1870)م مستهل القرن الثامن عشر، ومولانا خالد النقشبندي عام 1826م كتب "العقيدة" الكردية، وكانت كتاباتهم باللهجة الكرمانجية الشمالية وبعد هذه الأعمال ترسخ فن الكتابة النثرية واتخذ لنفسه مكانة مرموقة. وظل هذا العمل الكتابي الأدبي[1] يتطور حتى عام 1920م ويسير على الطريقة التقليدية كالأعمال الأدبية الأخرى وعلى نهجها وإن لاحظنا بعض الفوارق الضعيفة بين اللونين.
إلا أن صدور المجلات والصحف التي أومأت إليها وهبت للأدب الكردي زخماً آخر وانبعاثاً جديداً.. وظهرت الأعمال والكتابات الحديثة على صفحات هذه المنشورات.
وفي مستهل عام 1920م شرع الأكراد يكتبون القصة القصيرة ضمن الأساليب الحديثة... وقد أغنت محاولة كتابة النثر القصصي بالطريقة المبتكرة الجديدة- الأدب الكردي. (56)
نشرت القصة الكردية القصيرة عام 1913م أول مرة. (سأتحدث عن ذلك حين العودة إلى الأدب الكردي في تركيا وسوريا). وأول قصة تمثل اللون الحديث للقصة القصيرة نشرت في مدينة "السليمانية" عام 1925م تحت عنوان "le xewma" كتبها جميل صائب. في هذه القصة القصيرة الطويلة التي نشرت متفرقة على صفحات "Jiyanewe" ابتداء من العدد /28/ الثامن والعشرين في 26/6/1925م. والكاتب في هذه القصة يلجأ إلى أحلامه متحدثاً بلغة سهلة ومبسطة ليرسم لنا لوحة معبرة عن الأحوال الاجتماعية والأوضاع السياسية في أيام انتفاضة الشيخ محمود برزنجي عام 1922م ثم يعرضها للقراء. وفي عام 1926م صدر للكاتب: أحمد مختار جاف كتاب تحت عنوان "قضية الضمير" وكان هذا العمل أكثر أهمية من العمل الذي قدمه جميل صائب. فهو ينظر إلى الأمور بتأمل أدق وتمعن أعمق وأوسع وأشمل.. وقد اقتبس موضوع قصته "قضية الضمير" من واقع المدينة وساكنيها ويضع تلك الأحوال بدقة وتأنٍ بين أيدي القراء، كما تبرز وتطفو على سطح العبارات والكلمات الأوضاع السياسية والدعوات القومية الكردية(57)- يتحدث "هوسمند أوصمان" في أطروحته الأكاديمية عن ذوي الخبرة والمراس من الأكراد واتجاهاتهم وآرائهم ونظرياتهم من أمثال: حسين عارف و مصطفى خزندار وسواهما، ويلقى عليها نظرة فاحصة ومدققة قائلاً:"إن القصص التي صدرت في أعوام 1920-1940م واهية وضعيفة من حيث البنية الأدبية". ثم يستأنف حديثه:"إن القصص التي صدرت في البداية كانت –كما يمكن للمرء أن يقول- بعيدة عن الأدب الشفهي، تنطوي على مضامين نقدية للأوضاع الاجتماعية والسياسية. فهي من هذه الناحية قوية ومتينة. وإزاء هذا الأمر صدرت قصص أعوام /30/ الثلاثين القصيرة على أسس وقواعد الأدب الشفهي وينبوعه ثم استطاعت الوصول إلى كافة الينابيع الأخرى.(58)
في كردستان العراق وإيران كانت مجلة "كلاويز" أعظم وأجل محرّضٍ لللغة والأدب للسير إلى الأمام.(59) وكان القائمون على تحرير مجلة "كلاويز" التي صدرت وواظبت على الصدور في أعوام 1939-1949م هم: إبراهيم أحمد وعلاء الدين سجادي، وشاكر فتاح. وعند صدور العدد الأول كان إبراهيم أحمد وهو المسؤول والمدير في المجلة قد كتب مقالاً باسمه المستعار "بله" شرح فيه غاية المجلة وأهدافها وَرَدَ فيها:
 "تقويم اللغة الكردية وجعلها ضمن المعايير والمقاييس، حماية الأدب القديم، وبناء أدب كردي حديث، وترجمة كتب قيمة من الآداب الأجنبية إلى اللغة الكردية ونشرها. فإذا لم يكن لدينا حتى الآن أسلوب واضح في المنحى الأدبي فهذا يقع على عاتق المجلة دعوة الكتاب والأدباء لإبداء آرائهم في ماهية هذا التخلف عن الركب".(60)
إضافة إلى البحوث التاريخية والاجتماعية والأدبية والثقافية ساهمت المجلة في الإرتقاء بفن القصة القصيرة مساهمة لا حدود لها... ساعدت المجلة الكتّاب، وخرّجت كتاباً في إنشاء القصة القصيرة الحديثة.. وترجمت أعمال كتاب أوروبيين.. وعلى صفحاتها ظهرت أفانين جديدة من الأدب، وأثيرت المحاورات.. وهكذا انتصب صرح جديد للكتابة النثرية. وبرزت أساليب متطورة. لقد أهدت مجلة "كلاويز" أدباء كباراً وأعمالاً أدبية باهرة ومدرسة أدبية غنية إلى الثقافة والآداب الكردية.
وبعض الكتاب العظام المرموقين الذين يكتبون لغتهم الكردية باللهجة "الصورانية" ينتمون إلى مدرسة مجلة "كلاويز".
كان جمع الكتاب في مجلة "كلاويز" غفيراً. من هؤلاء محررون ومسؤولون في المجلة مثل: إبراهيم أحمد وعلاء الدين سجادي. وتوفي علاء الدين سجادي في تاريخ 13/12/1984م في بغداد (1905)م، وكان معروفاً بأنه أعظم ناقد وأكبر خبير في اللغة وفن القصة في أرجاء الوطن كله. له من الآثار المنشورة التي تركها علاء الدين سجادي كتابه (تاريخ الأدب الكردي) الذي صدر عام 1952م في مجلدين وما يزال معيناً غزيراً للأدب الكردي حتى الآن. ومختاراته الفولكلورية في كتاب "Riseyî Mirwarî" من الكتب القيمة في هذا المضمار.
وله بحوث في القصة والروايات والملاحم الكردية جمعها في كتابه "Hemîşe Bihar"[2] المكتوب نثراً وعلينا ان لا ننسى كتابه النثري "Geşt li Kurdistanê". في هذا الكتاب يتناول الكاتب مواضيعه بأسلوب أدبي متحدثاً عن البنية التاريخية الاجتماعية والسياسية والثقافية في مدن كردستان. وكتابه "الثورة الكردية-الكرد- الكرد والجمهورية العراقية" من أهم وأنفس الكتب التي تبحث في تاريخ كردستان، باللغة الكردية.
"كان علاء الدين سجادي محاضراً استاذاً في اللغة والأدب- في جامعة بغداد- قسم اللغة الكردية منذ عام 1960م إلى حين وفاته".
وإبراهيم أحمد أيضاً لم يكن مهتماً باللغة والأدب وحسب مثل زميله بل مارس السياسة وناضل وكافح في ميدانها وصار شخصية سياسية ذات شأن. تسلم وظائف ومهمات جسيمة في حركة الدعوة إلى التحرر الكردي ولاسيما بعد أعوام 1940م. ساهم في تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وبعد فترة وجيزة ترقى إلى وظيفة الأمين العام للحزب.
وفي تلك الأعوام الساخنة 1960م-1970م التي وصل فيها قمع الحريات في كردستان العراق إلى الذروة شارك زعيم الحركة والحزب مصطفى البارزاني-الخالد وأوقد نار الحرب وقاد المعارك. إنه يقيم الآن في "لندن" موظفاً مسؤولاً عن المجلة الأدبية الثقافية الفصلية (تصدر في كل فصل).. (Çirîka Kurdistanê).
إننا كما نرى في بلاد أخرى من العالم الثالث أن الأمر الذي يريد إبراهيم أحمد أن يبلغه- على غرار زعماء البلدان الأخرى- هو الكفاح في سبيل عمل أدبي وثقافي وسياسي موحد ودمجه في شخصية قوية من كل أطرافها.. ويمكن لنا ان نقول إن هذه الرغبة وهذا الهدف موجودان لدى جميع المتنورين الأكراد، منذ القديم.
في كردستان-في أحيان كثيرة- قد يكون أصحاب الحركات الثقافية والمتنورون والأدباء رؤساء وزعماء منظمات سياسية وقادة أحزاب... وهكذا تجتمع شخصيات متعددة في شخصية واحدة تحمل صفة الأدب والثقافة والقيادة والسياسة والوطنية. ربما اختار المتنورين هذا النهج لأنهم أرغموا وساروا عليه وعاشوا هكذا.
في أكثر جلساتنا كان إبراهيم أحمد يلقى على مسامعي هذا الحديث:
"في الحقيقة أنا لم أنخرط في العمل السياسي من تلقاء نفسي أو برغبة فيه... فإن التجربة والحقيقة وأحداث البلاد، بلادنا تؤكد أن الأمور لا تسير ولا يمكن أن تعمل ولن نفلح ما لم نخلط السياسة بالأدب".(62)
كتب إبراهيم أحمد روايته الأولى عام 1956م، إلا أنها لم تنشر إلا بعد أمد طويل عام 1972م تحت عنوان "زانا كل Jana Gel"، ويسعنا القول إن "زانا كل Jana Gel" هي أول رواية تصدر باللهجة الصورانية. لذلك فهي تُقرأ حتى الآن ويجرى الحديث عنها في كردستان كلها. ومما لا ريب فيه أن رواية "زانا كل Jana Gel" مثل أية رواية تصدر أول مرة لا تخلو من هناتٍ ونواقص فنية أدبية. وهي متوفرة في كثير من اللغات بعد أن ترجمت.
تتحدث الرواية عن بلد ممزق مسحوق بائس محتل لا حيلة له وعن أسرة صغيرة في ذلك البلد "يطلق الكاتب على هذا البلد اسم "الجزائر" وأحياناً اسم "كردستان"... الأسرة مشتتة... عائل الأسرة (الأب) يقع في الأسر فهو رهين السجن لسبب ما منذ عشرة أعوام ونيف مات أولاده وزوجته في مدة غيابه عنهم.. لم يعد الوطن إلا أطلالاً وخرائب... لم يبق فيه حجر على حجر... القرى جميعها مهجورة خاوية... تستمر حرب ضروس ومعارك طاحنة بين المقاتلين المسلحين وبين الغزاة الغرباء.. ما أكثر ويلات هذه الحرب ومصائبها... أثخنت الحرب جروح الأبرياء.. البؤساء المظلومون يحاولون الدفاع عن حياتهم، ويقاومون... الأسر مقطعة الأوصال.. الناس متفرقون مبددون.. ومشردون.. الوطن الذي احتله الطغاة يتقيأ دماً... النضال قائم على قدم وساق لطرد الغزاة وبناء مجتمع آمن سعيد رخي، رضي البال وخلاصة القول فإن الرواية منسوجة لتؤدي هذه المعاني باللغة الدارجة اليومية وأسلوب أدبي سهل.. إن الوطن الذي يصوره إبراهيم أحمد هو نسخة عن وطنه بالذات في أيسر الحالات.(63) ومع أن الرواية ليست كاملة من حيث الفن الأدبي ولم تستوف الشروط لبناء رواية جيدة إلا أنها تلفت انتباهنا إلى معلومات جمة لها وزنها.. والرواية رغم كل الملاحظات جنس من أجناس الكتابة، وقد الممنا آنفاً بأن الكاتب إبراهيم أحمد رجل كتابة وسياسي محترف.
ولكي لا يسيطر الجانب السياسي ويطغى على الجانب الروائي يمضي إبراهيم أحمد بروايته مع كل ما تحمل من تبعات وأحداث إلى رقعة أخرى من الأرض... وبهذه الخطة يضع مسافة بينه بصفته كاتباً وبين ما يجري في الرواية. وأحياناً يمكن للمرء وصف أحداث بعيدة عنه بسهولة أكبر مما لو كانت قريبة منه.
يعتقد إبراهيم أحمد أنه إذا أراد أن تنجح روايته وتنال قسطها من فن الرواية فعليه أن يبقيها في عزلة وفي منأى عنه.
وللحديث عن الشعر الذي قيل باللهجة الصورانية لا بد لنا من العودة إلى عصر حديث يبدأ بنوري شيخ صالح عام (1906-1958)م إننا نجد شخصيات متنورة ومثقفة تعنى بالسياسة أيضاً... وكذلك نوري شيخ صالح اهتم بالسياسة منذ عهد قريب وهو مواظب على نظم شعر حديث أنيق وعلى كتابة النقد الأدبي. وتجربته الأدبية تستحق الذكر. فقد استطاع بفضل ما يكتب من الشعر الحديث الجيد أن يكون رائداً لأدب جديد قائم بذاته ويصنع لوناً من الكتابة الشعرية لم يتطرق إليها أحد قبله. وهذا اللون الجديد سار بالشعر الكردي إلى مراحل متقدمة. من زعماء هذه النهضة وروادها "بيره ميرد" (1867-1950)م ودلدار (1918-1948)، و "زَوَر أحمد هردي" و "فائق بيكس" و "كوران".. ولا بد هنا من التحدث عن كوران (1904-1962)م اسمه الحقيقي هو: عبدالله سليمان.. وهو ولا شك المعلم الأكبر في الشعر الكردي المعاصر... إنه يطعم شعره الحديث بشيء من الأساليب التقليدية فيتولد لديه لون ثالث من صناعته... لقد مارس جميع ضروب الشعر وأنتج جنساً فريداً ليس له مثيل... وساعدت أعماله الشعرية القصيدة الكردية على أن تتبوأ مكانة قريبة من الشعر العالمي وأن تكون على صلة به وترفع الشعر الكردي إلى درجة عالية من الجودة فانساب هيناً ليناً حراً طليقاً.(64) كان لكوران نشاط في السياسة فُسجن مراراً ولبث في السجون.. وبالتغيير اللطيف الجذري الذي أحدثه في صياغة شعره حرر الشعر الكردي من تأثير الشعر العربي والفارسي "الكلاسيكي". كان يسعى إلى إنشاء لغة كردية نقية خالية من مفردات أجنبية وأدب مطلق النقاء. إن كوران الذي كان ملماً بالأدب الأوروبي الحديث كتب شعراً كردياً راقياً ونظم قصائد رائعة.. وبكل وضوح وجلاء نستشف من شعره البليغ الحالة الروحية للإنسان الكردي، لطافة وعذوبة الطبيعة في بلاد الأكراد.. في كلمات رقيقة معبرة وعبارات منمقة.. كان لكوران أثر عميق في رعيله وفي الرعيل الذي جاء من بعده.
ويتجلى أثر كوران جلياً في قصائد شعراء مثل: "هاوار" و"دلزار" وكاكاي فلاح" و"ديلان" وكان " كاميران مُكري" سواهم.(65)
لقد انتشر الشعراء الذين ينظمون الشعر على منوال "كوران" ويسيرون على نهجه في كل أطراف الدنيا ويمضون بالشعر الكردي إلى آفاق مشرقة وعوالم مضيئة.. ولاسيما بعد الثورة (الانقلاب العسكري- برئاسة عبدالكريم قاسم) عام 1958م الذي تحسنت فيه أحوال الكرد في العراق.. فتحقق تقدم اقتصادي واجتماعي... وبفضل هذه الكتابات والأعمال الأدبية الحديثة تحسنت أحوال الفنون والابتكارات.
في عام 1961م بدأت الثورة والحركة المسلحة اللتان ما تزالان مستمرتين حتى الآن.. إن الجيل الذي نشأ بعد "كوران" في أيام الثورة وترعرع يعرفون باسم "جيل الثورة" أو "Post Goran". سار هذا الجيل على خطوات "كوران" في خطوة جديدة.
وصبّ في شرايين الشعر الكردي دماً جديداً فازداد تألقاً وانتعاشاً، وبهذا الرعيل أو الجيل بلغ الشعر الكردي "الصوراني" مرحلة جديدة فقويت بنيته وتعمقت معانيه وأصبح أكثر ثراءً وظهرت فيه المقاصد القومية وتجدد أسلوبه وأهتم بأمور شتى ودخلته مواضيع من الدراما والتراجيديا "المأساة" والسيرة الذاتية. وتغيّر فيه مفهوم الـ"Kurdayetî" "أي كون المرء كردياً" واكتسب معنى آخر... وتحرر الشعر الكردي من عزلته القديمة وحدد العلاقات القومية... وقد ترجمت أعمال ممثلي هذه المرحلة إلى لغات أجنبية. نذكر منهم :"شيركو بيكس" و "لطيف هلمت" و"عبدالله بيشو" و"أنور قادر محمد" و"فرهاد شاكلي" و"رفيق صبري"... ونشرت. واستطاع هؤلاء جميعاً بجهودهم أن يسيروا بالشعر الكردي إلى العالمية وتعريفه إلى كتاب العالم وكل منهم حسب مقدرته يحاول تدوين تاريخ الأدب الكردي.
وعند البحث عن الأدب الكردي (في اللهجة الصورانية) يقفز إلى الذهن ولا شك في ذلك- الأدب الكردي في كردستان إيران ولاسيما مدرسة جمهورية مهاباد الكردية (جمهورية كردستان). ففي عهد الجمهورية نشأ أدب كامل النضوج أي في حضور هذه المدرسة جعل الأدب الكردي بكل لهجاته شامخ الرأس. ليس منا من يجهل مأساة جمهورية مهاباد (جمهورية كردستان). أسست الجمهورية تكتنفها آمال جسام في عام 1946م. ولكن مصير الجمهورية بدأ واضحاً عندما اتفقت واجتمعت الدول المنتصرة في الحرب الكونية الثانية على كلمة واحدة وأشاحت بوجهها عن الجمهورية الفتية وآزرت النظام الإيراني وقدمت له العون. وهكذا انهارت الجمهورية وتبخرت الأحلام والآمال. واعتقل مؤسسو الجمهورية وزعماؤها وأعدم الجميع مع رئيسها الشهيد قاضي محمد... وفي أيام الجمهورية القصيرة قامت نهضة ثقافية لا حد لها. وصدرت مجلات وصحف مثل: "كردستان" و "نشتمان" و "هالالا" و "هاوار"(66) وكتبت المسرحيات وألفت التمثيليات وعرضت وأقيمت المسارح والأمسيات الثقافية ومؤتمرات المتنورين والمثقفين وهيمن على الناس جوٌ حيوي واسع من الثقافة، وكان رواد هذه الحركة فئة من المتنورين المتمكنين مثل: عبدالرحمن زبيحي" و"هيمين" و"هزار" و"رحيمي قاضي" وكانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة. وبعد إخفاق الجمهورية ساءت أحوالهم فتفرقوا في بلادٍ غريبة وأقاموا فيها في أحوال بائسة وعيش ضنك واستأنفوا نشاطهم الأدبي وثابروا على العمل السياسي. من هؤلاء المكافحين نتذكر: "هزار" (1921-1991) و"هيمين" (1921-1987) و"حسن قزلجي (1914-1985)م ورحيمي قاضي (1922-1991م.
رحيمي قاضي كاتب الرواية الراقية. من أمهات الكتب الروائية التي صدرت في إيران والعراق رواية "بيشمركه" .. كتب هذه الرواية في المنفى عام 1961م.
إن الكاتب "رحيمي قاضي" هو أحد أقرباء رئيس جمهورية مهاباد (جمهورية كردستان) قاضي محمد(67) كما مرّ بنا آنفاً وقد أخفقت المساعي التي كان "رحيمي قاضي" شريكاً فيها في الحفاظ على الجمهورية ومنعها من التداعي والانهيار... بعد عام تلاشت الآمال المعقودة على قيام هذه الجمهورية التي لم تستمر في البقاء سوى عام واحد فوقعت البلاد تحت نير الظلم والاضطهاد. والقادة والزعماء والمسؤولون الذين استطاعوا الهجرة غادروا البلاد بحثاً عن حريتهم في بلاد غريبة.. وبشتى ألوان المشقة وصل بعض منهم إلى أراضي الاتحاد السوفياتي وسلموا أمرهم للشيوعيين. وكان بين هذه الكوكبة من المهاجرين رحيمي قاضي... ابتعد عن أهله وأقربائه متشوقاً إليهم يهدُّهُ الحنين إلى خلانه مفعماً بأحاسيس الغربة... وهناك كتب متأثراً باللغة الروسية وغزارتها روايته عن أيام الجمهورية الكردية (جمهورية كردستان) فلما أنجز الكتابة وانتهى من سردها أطلق عليها اسم "بيشمركه" الذي يقدسه الأكراد. الاسم الذي يعني الشخص الفدائي المضحي المحامي عن وطنه منذ مئات السنين الذي كرّس كل حياته لأجل قضية بلاده...
من أساتذة الكتابة النثرية الذين ظهروا في كردستان هو حسن قزلجي.. حسن قزلجي محترف صناع في فن القصة القصيرة الكردية... ولمجموعته القصصية "Pêkenînên Geda" "بيكنينين كدا" شهرة واسعة، وقد ترجمت إلى لغات أخرى وهو أيضاً أي الكاتب من طبقة رحيمي قاضي.. كان مثله بكل معنى الكلمة عاش فترة قصيرة من الرخاء والسعادة وأمضى سائر حياته الطويلة في نكد وبؤس وشقاء. بعد إخفاق جمهورية مهاباد اختار بلغاريا مقراً لإقامته وهناك ألقى عصا الترحال واستقر. وعندما تبدلت الأوضاع في إيران عاد أدراجه فتجسمت آماله، وكبرت أحلامه وسَمَتْ أمنياته ودعواته وبسبب هذا كله اعتقلته السلطات الإيرانية بعد فترة وجيزة وظل معتقلاً رهين السجن حتى عام 1984م في سجن إيران الشهير "أفين" وفي العام نفسه قضى نحبه تحت التعذيب في السجن. وعلم الرغم من إقامة الكاتب أمداً بعيداً.. بعيداً عن وطنه فإن جميع شخصيات مجموعته القصصية من الأكراد. الأكراد الذين يحيون حياة قسوة وتشرد في عمق الوديان أو على التلال أو في أكواخ صغيرة أو الكهوف والمغاور حياة شديدة البؤس لا يملكون إزاءها حيلة. فهم معزولون عن العالم يعيشون على هامش الإنسان والإنسانية.(68) والكاتب يرسم بقلمه وفنه صورة واضحة عن حياة أولئك البؤساء ويضعها نصب أعين القراء.
أما "هزار" و "هيمين" فهما فارسان من فرسان الشعر لا يشق لهما غبار... وبدل أن يهاجرا إلى دول نائية أسوة بزملائهما ورفاقهما توجها إلى العراق وإلى كردستان العراق، ومكث الاثنان هناك حتى أواخر عام 1970م... استلم "هزار" مراكز ووظائف كبيرة في حركة تحرير كردستان العراق، وظل صديقاً حميماً للزعيم الخالد ملا مصطفى البارزاني... وما زلت أذكر ذلك اللقاء الذي جرى بيني وبينه في باريس عام 1985م وكأنه كان يوم أمس (كان قد حضر إلى باريس للاستشفاء). قال في أثناء الجلسة:
"إنني أنظم كل سنة قصيدة بمناسبة رحيل الملا مصطفى البارزاني أكتب شعراً كل عام لصديق راحل... تأثرت بكلامه وهذا الشعر- بعيداً عن السياسة والاستعراض السياسي- مليء بالدفء والحرارة، زاخر بالعواطف الجياشة تجاه صديق مات، كتب إحياء لذكراه... فيه تتجلى شخصية "هزار" ودفق إنسانيته وعذوبة معانيه وطلاوة ألفاظه وعباراته.
لقد ألف الشاعر "هزار" علاوة على ديوانه الرائع معجماً كبيراً في اللغة "الكردية- الفارسية" وطبعه وأخرجه في مجلدين كبيرين. كما أنه أعاد النظر-على غرار الشرفنامه- إلى "مم وزين" وديوان "ملا أحمد الجزيري" وقدم لهما تعريفاً، وكتب لهما شرحاً وافياً موسعاً ونقلهما إلى كردستان وقبل رحيله ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الكردية... لقد كان "هزار" في عطائه يضاهي عطاء مؤسسة وأكاديمية للثقافة رغم قسوة الحياة ورغم أحواله البائسة.
والشاعر "هيمين" أصبح صانع شعر رقيق مبتكراً فنوناً في نظم القصيدة الإنسانية ورائداً لها.
وفي وسعنا أن نقول: إن "هيمين" رائد القصيدة الرومانسية الكردية. في عام 1979م عندما حرر الأكراد كردستان إيران التقيت بهذا الشاعر في مهاباد فكان يتحدث دائماً عن مسؤوليته تجاه اللغة الكردية وأنه يكتب انطلاقاً من هذا الإحساس بالمسؤولية وقد أصدر ديوانين ضمنّهما شعره الخالد المبتكر، ولا نعتقد أن شاعراً من الشعراء أجاد وصف التشرد والحرمان في ديار الاغتراب كما أجاده "هيمين" وأبدع في تصوير الحياة فيها. وفيما يلي رباعيته التي أودع فيها تجاربه:
Derdî dûrî, derdî dûrî kuştimî
Derdî wişyarî sebûrî kuştimî
Yadî yaran û wilatim roj û şew
Lê heram kirim qerar û xurd û xew.
قتلني هم الغربة
أماه- لقد حرّم عليّ الأحبة والوطن
الراحة والمطعم والرقاد.
وأريد هنا أن أختتم الحديث عن الأدب والثقافة في هذين القسمين من كردستان- وقد سبق لي أن تحدثت عنهما بإيجاز- بأحداث عام 1970م. ففي عام 1970م حصلت كردستان العراق على حكم ذاتي رصين، متوازن، يحمل كل الشروط والمواصفات، في السياسة والإدارة. فاستغل الكتاب ورواد الأدب وكبار المثقفين الفرصة في هذا الوضع الجديد القائم فانكبوا على التأليف والنشر وترجموا آداب الدول المجاورة: العربية والفارسية والتركية إلى اللغة الكردية ونشروها في كردستان العراق... فعرف الناس لوناً جديداً من الآداب لم يكونوا يلمون بها من ذي قبل وجرى الجدل والنقد وإبداء الآراء في موضوعها بين الكتاب والقرار... فنشأ في كل مدينة جمعيات ومجالس أدبية وثقافية ونهض الكتاب والمؤلفون بأعمال جليلة في هذا الميدان. ونشأ جيل جديد من الأدباء والشعراء والمثقفين والمتنورين وتفتحت آفاق رحيبة بين جميع المفكرين والسياسيين والوطنيين وكان لذلك أثر كبير جداً في مجال التعليم والتاريخ الكردي وأضاف هذا الأثر رونقاً وصفاء وجلاء على الحياة العلمية الجديدة. سبق لي أن نوهت بأسماء الشعراء البارزين الرواد من هذا الجيل، أما ممثلو الكتابة النثرية (في الرواية والقصة القصيرة) من هذا الجيل وروّاد الحركة النثرية الجديدة ورموزها فهم:
حسين عارف و رؤوف بيكرد وأحمد محمد إسماعيل ومحمد صالح سعيد ولطيف حميد وأحلام منسير، ومعروف خزنه دار. ولكي لا نسهب كثيراً ونطيل هذا البحث المقتضب فقد اكتفيت بذكر أسمائهم ولن أتطرق إلى أعمالهم وكتاباتهم. وهؤلاء على الرغم من كل شيء وعلى الرغم من ضعف النثر الكردي و وهنه و وجود كثير من الهنات فيه فقد ساروا على نهج قويم وقطعوا أشواطاً يُحمدون عليها. وجدير بنا أن نخوض في البحث عن أعمال وآثار حسين عارف من بين هؤلاء الكتاب جميعاً. لأنه لم يجتزئ بكتابة القصة والرواية فكتب في النقد الأدبي وكتابه "فن القصة الكردية" 1925-1960م.  كتاب جوهري وأساسي في موضوعه. وروايته الأخيرة "Şaar" يعتبر من الروايات التي تتبوأ القمة في الأدب الكردي الروائي، وهي التي تصور مدينة "السليمانية" تصويراً فنياً معبراً بأسلوب الحداثة الأدبية، هذه المدينة التي كانت دائماً وسطاً رحيباً للثقافة الكردية.
(يتبع)

[1] - كجنس نثري.
[2] - لعل المعنى هو فاكهة الربيع.

مقالات: بداية الأدب الكردي (بحث) (الحلقة الثالثة)
تأليف: محمد أوزون.
ترجمة: دلاور زنكي.
الأدب الكردي الحديث
عن موقع ولاته مه

٢٠‏/١١‏/٢٠١١

في أعوام العشرينيات كانت "عاموده" بلدة أو مدينة صغيرة، وُجِدت في أقصى الجنوب منها حيث تنتهي المساكن والبيوت فسحة من الأرض الخلاء ابتاعها أحد الوافدين من مالكها وأقام فيها منزلاً لسكناه، وقريباً منه ابتنى حانوتاً ليكون "مقهى" يُقدّم فيه الشاي والقهوة وبعض الأشربة الساخنة، لرواده الذين يقتعدون الكراسي الخشبية، وهذه البدعة بحذافيرها لم يكن للناس في عاموده بها معرفة. وكانت بعض الألعاب الهادئة تمارس في هذا المنتدى الجديد، كالنرد "الزهر" والـ"دومينو" و "الورق". أما "الشطرنج" فلم يكن معروفاً لدى سواد الناس، وكانت مقصوراً على العلماء ورجال الدين يتعاطون لعبه كلما أتيح لهم ذلك في أوقات فراغهم.وبعد مرور أعوام لا ندري كم هي على وجه الدقة والتحديد آل "المقهى" والأرض المحيطة بها –بيعاً- إلى أحد أفراد أسرة "مرشو" الذي أسس فيها داراً "للسينما"[1] تقبلها البعض باندهاش وإعجاب كبيرين وترحيب لا حدّ له، وقابلها البعض الآخر بالاستهجان والاستنكار والرفض وزعموا أنها بلية للفساد، ودعوة إلى المجون وسبب لتشويه الأخلاق الكريمة والإزراء بالعقائد الراسخة والعادات والتقاليد النبيلة، وقال المحبذون: إنها بوابة إلى الحضارة وإطلالة على المدنية ومسعى إلى التنور والمعرفة وشحذ العقول والاتصال بالعالم. وكان هذه "المؤسسة" تقدم عروضها في الفصول التي تكف فيها الأمطار عن الهطول، لأن العرض كان يجري ضمن "سور" خلا من السقف باستثناء غرفة المحرك وعمليات التشغيل... وكانت إدارة "المحرك" تتلقى الطاقة الكهربائية من محرك كهربائي آخر إذ لم تكن "عاموده" تعرف شيئاً اسمه "الكهرباء" ثم ما لبثت هذه "المؤسسة" بعد سنوات أن انتقلت إلى "فهمي حشيش" فقد عنّ لصاحبها أن يهاجر إلى بلد آخر. ولكن الأمد لم يطل بـ "فهمي حشيش" فقد هاجر مع أسرته وشقيقه إلى الولايات المتحدة، ونعتقد أنّ علة هجرته إلى تلك الأصقاع النائية هي كثرة مشاهدته تلك الأفلام التي كشفت له أسراراً جديدة، ووجهاً آخر للحياة في تلك البلاد وأغرته بالرحيل إليها دون التفكير في العودة، ولكنه لم يقطع رسائله عن أصحابه وأصدقائه، تلك الرسائل التي كان يعبّر فيها عن أشواقه لمعارفه وخلانه ولواعج حنينه إلى "سورية" ولاسيما "عاموده" التي أمضى فيها ردحاً من الزمن ملؤه المحبة والألفة والوئام مع الجميع.وقبل أن يغادر هذا الرجل "عاموده" إلى ديار الاغتراب كانت "دار السينما" قد آلت إلى ملكية "تاجو إبراهيم" بموجب عقد أُبرم بين الطرفين البائع والمشترى.وكأنما استشرت عدوى "السينما" في الناس فأنشأ "خضر عزيز معكو" داراً لهذا الغرض مصاقبة لمنزله الواقع على الجهة الجنوبية من شارع "البلدية" وأطلق عليها إسم "شهرزاد" وبنيت في الشارع نفسه دار أخرى للسينما بعد أعوام قليلة ثم دار رابعة بعد فترة وجيزة في وسط المدينة..وفي تلك الحقبة لم تكن الدور والمباني تشيّد على قوانين هندسية أو قواعد علمية مدروسة، بل كانت تبنى اعتباطاً وحسب أمزجة أصحابها وفي نطاق قدراته وملكاته المادية غير أنّ مادة البناء كانت واحدة حيث تتُخذ الجدران من اللبن الترابي والأسقف من جذوع الأشجار وأغصانها التي تفرش بالقش، ولم يكن الناس قد عرفوا شيئاً اسمه "الاسمنت". ولكنهم كانوا يألفون بعض الأبنية المشيدة من الحجارة. من هذه الأبنية "دار البلدية" المشيدة في أعوام العشرينيات، ومبنى مستودع الوقود الذي عُرف فيما بعد باسم "كازخانا شوتي" Gazxana Şewitî بعدما شبت فيه النار. وكان للأهالي عدة بيوت بنيت من الحجر وهي الدور الثلاث التي بناها أصحابها المهاجرون النازحون من أقصى الأراضي الشمالية التركية- الروسية فراراً من بطش القوات القيصرية التي كانت تجتاح الأرض التركية بين حين وآخر جراء الحروب المحتدمة بين الدولتين الجارتين في القرن الثامن عشر[2]، بناها أصحابها بأيديهم إذ لم يكن في المنطقة بناؤون يمتلكون خبرة أو دراية بالبناء الحجري.ولكن بأية صورة وهيئة شيدت دار "سينما شهرزاد" في تلك الأيام الخوالي؟بنيت جدران هذه الدار من اللبن الترابي المألوف آنذاك بطول عشرين /20/ متراً شرقاً وغرباً وعرض /6/ستة أمتار شمالاً وجنوباً، ولما بلغ ارتفاع الجدران /3،5/ثلاثة ونصفاً من الأمتار مُدت عليها قضبان حديدية "من قضبان السكك الحديدية التي تسير عليها القطارات" ثم وضعت عليها عمد خشبية ضخمة ثم غطيت بأغصان وسيقان الأشجار الصغيرة وسترت بعد ذلك بكميات كبيرة من القش والحشائش ثم فرشت بالطين....  . وفي الداخل اتخذت غرفة "محرك الأفلام" من الخشب في أقصى الشرق تقابلها الشاشة البيضاء في أقصى الغرب أي على الجدار الغربي من البناء وكان الباب أيضاً مصنوعاً من الخشب يطل على الشارع ينفتح إلى الداخل ويهبط منه درجتين إلى أرضية الدار المنخفضة ولم يكن عرض الباب يتجاوز متراً، هذا الباب الذي أُعِدَّ لدخول وخروج العشرات والمئات أحياناً من الزوّار الذين لا يجدون مشقة أو عناءً لأنهم يلجون وحداناً متمهلين، أما الخروج فيكون سريعاً متدفقاً، ومثل هذا الباب الضيق لم يكن في وسعه تلبية حاجة هذا التزاحم بالمناكب والتهافت على الخروج، وهو من الأخطاء الكثيرة الفادحة التي ارتكبت في تشييد بناء هذه الدار، دار النكبة العمياء والفاجعة الكبرى في عامودا الصغيرة الهادئة الوادعة، دار "سينما شهرزاد". والكراسي والمقاعد المتلاصقة لم تكن مصنوعة من حجر أو حديد، لا سلطان للنيران عليهما بل كانت من الخشب والقش والألياف النباتية اليابسة. وكأنما أراد المشرفون على عمليات تأسيس هذه الدار السينمائية أن يضفوا عليها من الداخل مسحة من الجمال زيادة في ترفيه النظارة "المتفرجين" وإمتاعهم واجتذابهم يوماً بعد يوم فأسدلوا عليها الستائر وكسوها بقماش منسوج من خيوط القنب "جوّال- خيش" وزوّقوها بطلاء مزاجه "النفط" السائل الشفاف.ولم تكن في البناء شبابيك أو نوافذ سوى بعض الثغور والفتحات والكوى في أعلى الجدران القريبة من السقف من باب الاحتراز فلا يطمع أحد من السابلة في محاولة لمشاهدة ما يجري من عروض سينمائية. ولم توجد فيه أبواب سوى الباب الرئيسي الوحيد المعد للدخول والخروج الذي سبق القول عنه وباب صغير في الجنوب من البناء موصد في اكثر الأوقات، يفضي إلى "فناء" واسع خالٍ إلا من بعض الأشجار وبئر يستسقى منها للشرب والري. أما باب المقصورة "غرفة المحرك" الخشبية فكان موقعه في الشارع العام يُصعد إليه على عدة درجات لدخول المقصورة التي نصب فيها "المحرك" وفيها تتراكم صناديق لحفظ "الأفلام" التي كانت تصنع من مادة "بلاستيكية" سريعة الالتهاب اذا مستها النار تأججت وانفجرت كما ينفجر "البارود" ولا يكاد يتخلف عن اشتعالها أيّ أثر. ومما يلفت النظر أن بعض الصبيان كانوا قد اكتشفوا هذه الطاقة الهائلة في "الشريط السينمائي" فيحصلون على "عبوة" معدنية من الصفيح الرقيق وكانت هذه العبوة مصنوعة من الألمنيوم الخفيف، تحفظ فيها أنماط من الأدوية والحبوب الصيدلانية الطبية، ثم يدسون فيها قطعة "تالفة" من الشريط ويثقبون إحدى نهاتي العبوة الاسطوانية ثم يشعلون طرف الشريط البارز من خلال الثقب بواسطة عود ثقاب ملتهب فتنطلق كقذيفة صاروخية نفاثة وتحلق هنيهة في الفضاء ثم تغيب عن الأنظار. ولكن ألا تقع الطامة لو أن شرارة نار سقطت على "الشريط" المرهف الحساسية شرارة من القوس الكهربائية التي تسلط الضوء الباهر على الشريط لتكبير الصورة وإرسالها إلى الشاشة البيضاء؟ ألم يتطارح صناع الأفلام ومبتكرو أجهزة التشغيل المعقدة هذه المسألة؟ ألم يتساءلوا فيما بينهم عن الإجراءات الوقائية إذا شبت النار في "الشريط المتأهب للاحتراق تحت وطأة الحرارة الشديدة العالية وكيفية قطع الطريق أمام الخطر؟ بلى.. وجواباً عن هذا التساؤل زوّد جهاز التشغيل بأداة باترة ذاتية الحركة تفصل الجزء المشتعل عن الشريط وتصونه من مس النار وحمايته من الأذى. ولكن أي ويْلٍ يمكن أن ينجم إذا تعطلت تلك الأداة وعجزت عن أداء دورها وأخفقت في إنجاز وظيفتها عند اللحظة الحرجة والضرورة القصوى؟ ولم نستطع السيطرة على الموقف القاتل؟ لعل هذا السؤال لم يخطر لهم على بال ولم يفكروا في مغبة ذلك الخلل الذي لا يبدو مستحيلاً أو غير قابل للحدوث، الخلل الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير في "سينما شهرزاد" بعد أعوام من إنشائها.بعد الوصف الذي عرضنا به أحوال "سينما شهرزاد بإيجاز قدر المستطاع، يتضح للمتأمل مدى فداحة الأخطاء والنواقص التي ارتكبت في تأسيس دارها، وأنها أشبه بأتون مشحون بالوقود لا يفتقر إلا إلى قبس ضئيل أو شرارة مستصغره، لتغدو في طرفة عين جحيماً مستعراً، ويغدو كل ما فيه رماداً.بالقرب من "سينما شهرزاد" عن كثب كان "إسماعيل عمي" هو امرؤ في شرخ الشباب قد ابتنى داراً لسكناه تشاركه الإقامة فيها زوجته الشابة "فريدة علي" وابنه فرحان من زوجته الراحلة التي كان قد تأهل بها إبان إقامته في مدينة حلب وقد أنجبت له هذا الصبي وماتت عنه بعد أيام معدودات.كان محمد عمي "والد إسماعيل عمي" سيد قومه في إحدى مناطق سرحدان من أراضي الإمبراطورية العثمانية المتاخمة للأراضي الروسية القيصرية، فلما احتدمت المعارك وتأججت نيران الحرب بين الإمبراطوريتين الجارتين ودامت كثرت الشائعات عن زحف القوات الروسية المحاربة باتجاه الجنوب نحو مناطق سرحدان خشي الناس على أرواحهم وأموالهم من بطش الجحافل الغازية فحملوا ما خف حملهُ وهاجروا إلى أصقاعٍ مجهولة وتبعثروا في طول الأرض وعرضها. وكان محمد عمي "والد إسماعيل عمي" آخر الناس الذين فكروا في النزوح وهجرة مواطنهم لأنه كان يعتقد أن الجبال الوعرة ومواقعه المحصنة وبنادق رجاله وبسالتهم ستدرأ الأخطار وتصد الطامعين، ثم بان له بعد أن خوت أكثر البيوت في قرى كثيرة من قاطنيها أن وعورة الجبال وبنادق الرجال وبسالة الأبطال لا تقدم ولا تؤخر نفعاً ولا تجدي شروى نقير في مواجهة جيشٍ لجبٍ جرّار مدجج بالمدافع والأسلحة الثقيلة فجمع أهليه وذويه ورجاله واستشارهم ثم أعلن عليهم القرار بالرحيل. وفي غضون يومين كانت القافلة وفيها /14/ أربع عشرة راحلة من رواحل "محمد عمي" و ولداه الصبيان البكر "إسماعيل" والصغير "عمي" وعقيلته تغذ الخطا في الشعاب في الجبال ثم على الدروب في السهول باتجاه الغرب حتى وصلت مساءً بعد مسيرة أيام إلى ضفة نهر "دجلة" الشرقية فتوقفت عن السير وعرّست وباتت تلك الليلة حتى إذا بزغ ضوء النهار بحث الرجال عن معبر ضحل للمياه للعبور إلى ما وراء الضفة الغربية فلما عثروا عليه سارت عله الرواحل والدواب والرجال وبعض النساء والأطفال، وبينهم الصبيان الشقيقان "إسماعيل" و "عمي". وكان "محمد عمي" والد الشقيقين وأمهما قد تخلفا عن العبور واللحاق بسائر أفراد القافلة، فلما خوّضا في النهر ووصلا إلى منتصف المعبر هبت عليهما موجة عارمة طوّحت بهما إلى عمق النهر... حاولا الصمود... ولكنّ التيار كان عاتياً فجرف صاحبته وغيبها في دوّامة سحيقة الغور ولم يفلح "محمد عمي" في إنقاذها من براثن الدوّامة رغم كل ما بذله من جهد ورغم ما أبلاه من بلاء حسن يعجز عنه صناديد الرجال وعظماء الأبطال، وخرج من النهر مقهوراً مدحوراً وهو الذي لم يهزم في معركة، ولم ترهبه كثرة الخصوم.. خرج صارخاً نادباً زوجته البارة الصالحة أُمّ ولديه الوحيدين "إسماعيل" و "عمي".  إسماعيل الذي كان قد تجاوز السنة الثانية عشرة و "عمي" الذي كان دون السنة العاشرة آنذاك. فأية لوعة ولواعج وبلوى وألام سيتجرع هذا الطفلان في غياب أمهما العطوف الرؤوم التي وهبت لهما كل عواطف الحب والرحمة؟  دبّ هرْجٌ ومرْج في القافلة وعلا صوت النواح والنحيب، وفي لحظة تحول المكان إلى مناحة.. لم تهدأ إلا بعد يوم.. كان الجميع يحاولون تهدئة الصبيين ومواساة الأب وتعزيته.. وطلبوا إليه متابعة الرحلة، لكنه تشبث بالمكان وأبى أن يبرح حافة النهر وكأنه يرجو أن تعود المرأة الشهيدة إلى ابنيها المنكوبين وزوجها الملتاع الفؤاد. وفي تلك الأيام كانت الأوبئة والأمراض والمجاعات قد تفشت في الناس ونخر الفساد في كثير من النفوس، فلما يئسوا من إقناعه بالرحيل دعوه وشأنه وتفرقوا عنه إلى حيث لا يدري ولا يدرون.مكث "محمد عمي" مع ولديه لا يريم الضفة التي وقعت عندها الفاجعة الأليمة أياماً ثم بدا له أن المكوث في هذا المكان لا يرد عليه فائتاً ولا يداوي الجراحات التي تركها رحيل زوجته في نفوسهم. فأعد العدة واستأنف السير باتجاه الغرب الجنوبي الموازي للأراضي السورية وبعد مسيرة أيام وصل برواحله وولديه إلى منطقة قريبة من "ويران شهر" وتوقف للاستجمام والتخفيف من وعثاء السفر الطويل، وفي الليل بينما كان مستغرقاً في النوم دهمه رجال مسلحون، وساقوا أمامهم جميع الدواب مع أحمالها ولما استفاق من النوم وأدرك ماذا حل بأمواله سار في إثر القوم وأطلق عليهم الرصاص في جنح الليل ولكنهم كانوا قد غادروا وأمعنوا في الابتعاد.فهل من جائحة ومصيبة ماحقة أشد هولاً وفتكاً مما ألمّ بهذا الرجل النبيل، سليل المجد والكرم والمروءة-ابن الأمجاد وحفيد الأكرمين الآمر الناهي في أرضه بين قومه، صاحب الكلمة المسموعة والأمر المطاع.. بالأمس القريب رحلت عنه أقرب الناس إليه الزوجة الشريفة الطاهرة وتركته نهباً للهموم والأتراح، وتفرق عنه الأهل والأصحاب فلا لقاء بينه وبينهم بعد اليوم..وها هو ذا الرجل الثري، الواسع الثراء، صاحب الأنعام والخيول، مالك الأراضي والبساتين يغدو بين عشية وضحاها من أكثر الناس فاقة وفقراً وعوزاً وحاجة.لم تغمض له عين في تلك الليلة، وظل مسهداً قلقاً مضطرباً حائراً وفي الغداة تناول يدي "إسماعيل" و "عمي" وسار قاصداً المدينة القريبة من مكانه ذاك فلما دنا منها شاهد على مشارفها رقعة من الأرض يحوّطها سور خفيض وحين أمعن فيها النظر رأى دوابه المسلوبة بين بغال وخيول ودواب أخرى، فاطمأن باله قليلاً وعاوده الأمل فلعله يستطيع استرجاعها بوسيلة من الوسائل.وفي مدينة "ويران شهر" Wêran şehir  اهتدى إلى إيوان " الحاكم المتصرف الفرد" فوضع القضية بين يديه بكل حذافيرها ولكنه لم يجد آذانا ٌ صاغية فخرج مهزوما ٌ مدحورا ٌ كما خرج من النهر بائساٌٌ لا حول له ولا قوة. وبعد أيام غير كثيرة استبدت به الأحزان وتراكمت على قلبه الأشجان فمات شهيد غربة ودفن في إحدى القرى المتاخمة للمدينة التي سلبته كل ما كان قد حمله من ارث أبيه. وترك طفليه شريدين في عالم محفوف بكل أنواع الفساد والشرور, والظلم والآثام.لم يعد للطفلين في هذا العالم الواسع الشاسع بعد رحيل والدهما وسندهما من ملاذ أو مأوى وقد كانا قبل عهد قريب في أحسن حال, يعيشان في بلهنية, ورغد وبنعمان بكل الطيبات من طعام وشراب في رعاية أب شفيق وأم حنون, فضربا في الأرض وتحملا قسوة الجوع والظمأ واويا إلى البيوت المهجورة ونالهما من الخوف والرهبة في الليالي, ما هو فوق كل جلد أو اصطبار واحتمال كانت الوحوش والسباع والحيوانات الضارية مصدر هلعهما وخوفهما, كذلك الأفاعي والحشرات السامة... أكلا أوراق الشجر واقتاتا ببقايا الثمار اليابسة درأ للجوع وسداٌ للرمق... بليت ثيابهما وتمزقت نعالهما فكانا يسيران حافيين كاسيين شبه عاريين. طال بهما الأمر كذلك حتى قادتهما أقدامهما إلى قرية زعيم إحدى العشائر (الأغا) فضمهما إلى حاشيته.كان "إسماعيل" منذ نعومة أظفاره يخرج في رفقة والده إلى الصيد فتعلم أمورا كثيرة عن طبائع الخيول وكيفية ترويضها واستئناسها, وإذ اكتشف الأغا هذه الميزة في الفتى اسند إليه أمر سياسة جواده والاعتناء به وقد كبر في عينه فأدناه من مجلسه وأدخله بين جلاسه... أما الصبي "عمي" فقد أوكل إليه أداء بعض الأعمال المنزلية الخفيفة التي لا تتطلب عناءً ولا ترهق الصبي.أمضى "إسماعيل" وشقيقه "عمي" أعواماً في هذه القرية حيث ناهز إسماعيل الثامنة عشرة من العمر وهو يؤدي عمله بجد وإخلاص ويزداد خبرة ودراية بأمور الخيل حائزا يوما بعد يوم مزيداً من إعجاب الأغا واهتمامه. ومن كمال وعي إسماعيل وتمام نضج عقله وفكره انه وقع على أسرار في نفسية "الأغا" وخصال في شخصيته فهو نزق أرعن شديد النزق والرعونة حيناً وهادئ ساكن حيناً آخر دون سبب لهذه الرعونة وذاك السكون. وهو أهوج شديد  الحمق والفهاهة مرة ومتزن وقور مرة أخرى دون سبب لهذه الفهاهة والوقار. قد يقدم على قتل اقرب الناس إليه وأوفى أصدقائه و محبيه في لحظة من لحظات تبدل مزاجه أو نزوة من نزواته. لذلك كان هذا الفتى دائم الحذر يترصد أحواله ويسعى جاهداً أن لا يثير حنقه أو يغيظه خشية أن يناله عقاب من هذا الأهوج على جريرة لم يقترفها.وفي هذه الأعوام الأخيرة كان "إسماعيل" لا يكاد يغيب عن مجلس الأغا فيزداد معرفة بأحوال الناس ويسمع من أفواه التجار القادمين من "حلب" إنباء "شديدة الغرابة" عن هذه المدينة العجيبة " لا يكاد يصدقها" ورفاهية  أهلها ورخاء العيش فيها  وكثرة أسواقها وفخامة بيوتها. فكان يزداد كل يوماً شوقاً من هذا المضيف المتعسف الذي لا يؤمن جانبه, وتخشى  بوادره ويتمنى أن يفعل ذلك متى واتته الفرصة السانحة, وأخفى هذه الرغبة من الناس وكتمها في نفسه ولكنه أسرها إلى شقيقه "عمي"  ونصحه أن لا يبوح بهذا السر وحذره  من مغبة الإفضاء به إلى أي كائن.وفي سَحرِ من الأسحار كان "إسماعيل" و "عمي" يختلطان بأفراد قافلة قاصدة المدينة التي يحلمان بها.سارت القافلة تغذ السير أسابيع في حلٍ و ترحال حتى بلغت مشارف حلب ذات مساءً فكفت عن السير وتوقفت وباتت تلك الليلة في العراء  وما أن ذرّ قرن الشمس حتى تأهبت لدخول المدينة الكبيرة.لقد كانت "حلب" أعظم و أجلّ مما توهمه "إسماعيل" وكانت اكبر وأوسع من تلك النعوت والأوصاف التي كان يتلقاها من أفواه الزائرين العائدين من حلب.  كان كل شيء يبدو له غريباً ومذهلاَ الحوانيت التي لا تعد ولا تحصى.. الشوارع والطرقات المعبدة بالأحجار المسنونة .... البيوت.. الساحات العامة والأشجار المزروعة على جانبي الطرق والحدائق الأنيقة و وسائل المواصلات والمساجد والكنائس والمدارس والتكايا وغيرها... وفي كل يوم  كان يكتشف أشياء جديدة لم يكن قد سمع بها أو رآها أو خطرت له على بال.كان عليهما أن يبحثا عن عمل فوجداه في نقل مياه الشرب إلى البيوت والمنازل ودأبا على ذلك أعواما وهما يشعران بالحرية والأمان على الرغم من مشقة العمل, لقد ولت حياة الشظف والخشونة والجوع.. حياة الخوف.. كلاهما سيد نفسه يكتسي وينتعل  كما يشاء ... يأكل ويشرب كما يشتهي .. ينام  ويستيقظ كما يريد, لا يخشى سطوة " الأغا" ولا يحذر بوادره فقد انفتح أمامهما باب حياة جديدة على مصراعين.. وجدا فيها طعم الكرامة والسعادة للمرة الأولى منذ أن نزحا عن أرضهما .. ورغم تحسن أحوالهما فقد كانا يطمحان إلى عمل أفضل ثم عثرا عليه بهدى من معارفهما في "المحلج"  الذي كان سخيا في أداء الأجور وساعات العمل والجهد المبذول أدنى واقل.وفي غضون سنوات ليست طويلة كان الفقر قد ولى وأصبح "إسماعيل" من الأثرياء, وأحس بحاجة إلى امرأة تشاركه في بناء أسرة, فخطب له أصدقاؤه فتاة وتزوجها وبعد أن حال الحول رزقا  مولدا أسمياه "فرحاناً" ولكن السعادة التي هبطت على هذه الأسرة لم يطل بها الأمور, ولم تكتمل فرحة الأم بوليدها ولا فرحة الوليد بأمه  فقد لبت الأم نداء ربها وصعدت روحها إلى باريها. وكان الطفل آنذاك قد بلغ من العمر /4/ أربعة أعوام فأسكنه مأوى أو داراً  للحضانة في حلب.. وقد ألمته الحادثة امضّ الألم وجددت شجونه وأعادت إليه ذكريات الأيام العصيبة أيام البؤس والقهر والشقاء. وكانت أنباء ترد إلى حلب وتقرع سمعه عن مهاجرين لاذوا بأكناف عامودا وضواحيها وما حولها من القرى القريبة  والبعيدة, فيشتد حنينه إلى الأهل و الأقرباء الذين افتقدهم فعزم على الانتقال إلى عامودا بأمواله وممتلكاته وابنه "فرحان" الصبي الصغير مصطحبا شقيقه الأصغر "عمي" وهكذا فعل. بُعيد وصول هذه الأسرة المنكوبة أقامت أول وهلة في منزل قريب من دار الرجل التقي, الورع العلامة الصالح الشيخ "محمد صدقة" الحسني المديني (رضي الله عنه)  الذي كان يعقد مجالس للعلم ويقيم حلقات الذكر في "التكية" الملحقة بداره يحضرها العلماء وأهل التصوف, ولعل هذا القرب أو هذا  الجوار كان ذريعة لتردد "إسماعيل عمي" إلى مجلس الشيخ والإصغاء إلى أحاديث العلماء والانتفاع بحوارهم وجدلهم واكتساب المعارف والحكمة حينا بعد حين.لم يتقاعس "إسماعيل عمي" منذ هجرته إلى عامودا وما توانى عن زيارة أولئك المهاجرين الذين سبقوه في اللجوء إلى عامودا. وبحث عنهم في مظان وجودهم وأماكن إقامتهم في القرى والأرياف وألح وألحف في السؤال عن أهله وأقاربه الذين افتقدهم ولكنه لم يقع على جواب ولم يخرج من عندهم بطائل. كان كمن يبحث عن خاتم سليمان في قاع اليمّ.. أو نجمة في المجرة."إسماعيل عمي" الرجل النشيط، والكادح المثابر الذي أمضى جل أيامه في الجد والعمل استاء من حياة الكسل والخمول وسئم الفراغ الذي يعانيه ويتألم منه فوطّن النفس على العزف على وتر وحيد يصدر لحنين أو نغمين مختلفين متفاوتين: اللحن الأول، أن يبتاع عروضاً للتجارة يسافر ويحملها معه إلى العراق وتركيا واللحن الثاني: تفقد الأهل والأقارب والبحث عنهم في هاتين الدولتين. وهكذا قصد العراق وزار مدينة الموصل وسافر إلى تركيا فما كان حظه أوفر من حظه في عاموده بحث عنهم في دياربكر وماردين ووفي مدن وقرى كثيرة فما أثمر سعيه ولم يلق نُجحاً.وفي إحدى جولاته ساقته قدماه إلى قرية الرجل الذائع الصيت المعروف بشجاعته وسخائه وكرمه "علي حسكي" وحدثه ببعض حديث قومه وما جرى لهم فتأثر الرجل وأبدى عن حزنه لما حلّ بهم.. ثم كثر اللقاء بينهما ونشأت بينهما علاقة حميمة من الصداقة، وكان لعلي حسكي فتاة حسنة الخلق والخلق.. مهذبة... طيبة القلب... نزيهة النفس بارة بوالديها محبة للصغار فعنّ لإسماعيل أن يطلب يدها فلم يتردد والدها في الموافقة على هذا الزواج.. الزواج من ابنته "فريدة" .وإذ جُلبت هذه الفتاة إلى دار "إسماعيل عمي" أحس أن السعادة تنهمر على هذه الأسرة الصغيرة بعد تلك السنين العجاف المفعمة بالترح والشجن والحزن. وأول ما فعلته "فريدة" انها التفتت إلى الصبي "فرحان" وأحسنت تربيته ورعته كما ترعى فلذة كبدها وأنشأته على الأخلاق الكريمة والخصال القويمة... وأدارت شؤون منزلها كامرأة لها خبرة وتجربة وفعلت كل ما يرضي زوجها "إسماعيل عمي" الذي كان يحترمها ويقدرها حق قدرها. كانت هذه "العروس" الجديدة رغم صغر سنها مفعمة بالصدق والصراحة والجرأة والحكمة إلى جانب عواطفها المرهفة تجاه الضعفاء والعاجزين... وهي الصفات التي ورثتها عن والدها "علي حسكي" الذي تروى عنه قصص وحكايات عن البطولة والجود والسخاء.كان رجل ارمني صناع حاذقا ًفي صناعة الخناجر يقيم في مدينة /ماردين/ وكان "علي حسكي" بهوى اقتناء الأسلحة النادرة الفخمة فأوصاه أن يصنع له خنجرا مموها بالذهب والفضة مرصعاً بالأحجار الكريمة, وقد استغرق صنع هذا الخنجر بتلك المواصفات جهداً كبيراً عدة أيام وأنباه أن الصائغ أنجز وعده في صنع الخنجر فأمر أن يُدفع للبشير وسقٌ من الزبيب على بشارته.لعل منزل "إسماعيل عمي" ضاق به وبأفراد أسرته وكثرة الزوّار والزائرات فابتاع أرضاً واسعة ابتنى عليها داراً فسيحة في الشارع المعروف اليوم باسم "شارع البلدية" وانتقل إليها. والى جانبها –بعد سنوات – انشأ المواطن الثري خضر عزيز معكو مؤسسة سينمائية عرفت باسم "سينما شهرزاد" والتي كتب عليها أن تمسي مسرحا لأبشع وأشنع مأساة إنسانية لا سابقة لها في تاريخ البشرية.كانت "فريدة" الرقيقة الأحاسيس, الكبيرة القلب مفطورة على عاطفة هادئة متزنة تجاه الأطفال, وكانت محبتها لهم غريزة  متأصلة بين جوانحها وفي أغوار نفسها ولكنها بعد أن رزقت أطفالا رفدتها الأمومة بمعانٍ جديدة مقدسة من الرحمة والرأفة  والحنان, وعلمتها أن تكون مشبوبة المشاعر إزاء جميع الأطفال. ومسحت من خلجات نفسها كل أثر للأنانية والأثرة وحب الذات. ولما تشبّع كيانها بهذه الرموز السامية لم تعد هادئة البال أو مرتاحة النفس إذا سمعت صوت طفل ينتحب أو صغير يبكي مهما كان مصدر ذاك البكاء والنحيب. سواء أكان أتيا من الشارع أو من بيوت الجيران. وما كانت تطيق سماع مواء قطة أو هر يعبث بهما الصبيان فكانت تذهب إليهم وتحثهم بكلام رقيق يحمل معنى الحديث الشريف ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها ترعى خشاش الأرض) وتحذرهم من مغبة  هذا السلوك الذي سينتهي باصحابه إلى العقاب يوم الآخرة...أو إذا شاهدت احد أولئك قد اقتنص طائرا وربط إحدى قائمتيه برمة لا يبغي من وراء ذلك سوى التسلية واللهو غير مبالٍ بعذاب الطائر البريء الضعيف, حاورته وحاولت إقناعه بتسريح الطائر وترك العنان له, فإذا لم يجد الحوار نفعا ابتاعته بمبلغ من المال وأطلقت سراحه.هكذا كانت حياة هذه المرأة الفاضلة وهكذا عُرفت في بيئتها وبين جيرانها، تحاذر من الوقوع في الشبهات، إذ لمست خيراً صنعته أو شراً تجنبته وتنحتْ عنه، وسعت إلى اجتراح البر والحسنات ما وسعها ذلك. لا تريد جزاءً ولا شكوراً. لا تستطيع أن تفعل غير ذلك.انصرمت الأيام والأعوام، وتبدلت الأحوال وتغيرت نظرة الناس إلى الأشياء، وفترت همة أولئك المتزمتين في محاربة "السينما" وغدت أمراً مألوفاً. لا يلام مرتادوها ولا يُعاتبون ولا يُذمون على حضورها. وبدأوا يرسلون أطفالهم إلى المدارس بعد أن كانوا يصدون الناس عنها ويحذرونهم من إرسالهم إليها.في أواخر خريف عام 1960م ستين وتسعمائة ألف ميلادية، كان الصبيان: أحمد ومحمد قد أُميطت عنهما التمائم وشبا عن الطوق فإذا هما ذاهبان إلى المدرسة في الغداة أيبان في العشي بعيني أبيهما وأمهما اللذين يفيضان عليهما حنانهما في ذهابهما وإيابهما.وفي غضون هذا العام كانت "الجزائر" لا تزال رازحة تحت عبء الاحتلال الفرنسي مطوقة بنيره الثقيل، مكبّلة بأغلاله الباهظة. من قتل وتشريد وتجويع. وكان الشعب السوري لا ينقطع عن نجدة الجزائر ومد يدّ العون والمؤازرة للشعب الجزائري، وكان كل فرد سوري يؤمن بعدالة القضية الجزائرية في التحرير ورفع الحيف عن أخيه الجزائري، ويعتقد أن الواجب القومي والإنساني يدعوه إلى نصرته حسب جهده ومقدرته. وتلبية لهذا الواجب بدأت دار "سينما شهرزاد" في الساعة ....صباحاً من يوم الأحد من شهر تشرين الثاني عام 1960م ستين وتسعمائة وألف ميلادية، تستقبل أفواج تلاميذ المدارس الذين جاءوا بدراهم- وإن كانت بخسة أو زهيدة- معبرين عن أريحيتهم في نصرة الثوار، يشاركون الكبار في حمل جزء من العبء الي يقع على كاهلهم.وفي الحفلة المسائية كانت زمر من التلاميذ بينهم الصبيان: محمد وأحمد، تحتشد أمام باب دار السينما الضيق.. كانوا متهافتين على الدخول، يتدافعون ويتزاحمون بالمناكب ثم يتدفقون إلى الداخل يتنافسون في الحصول على مكان للجلوس على كرسي أو مقعد خشبي، إذ كانت المقاعد والكراسي تضيق بكثرة الزائرين الداخلين جُزافاً، فمن لم يعثر على مكان لجلوسه ظل قائماً أو افترش الأرض، ولما اكتظت "الصالة" بالنظارة ولم يبق فيها موطئ لقدم أُوصِدَ الباب، وبدأت الصور تتحرك على "الشاشة" الكبيرة. ران صمت مطبق على الجميع ورنت العيون بلهفة وشوق.كان "الفلم" يحكي قصة معركة طاحنة بين دولتين متحاربتين. تتابعت مشاهد القتال ولكن الزمن لم يطل، وسرعان ما ظهرت على "الشاشة" أضواء حمراء. قال الذين نجوا من سعير السينما وكانت نجاتهم أشبه بمعجزة. حسبنا تلك الأضواء أحد مشاهد المعركة ثم أحسسنا بلفحات تسفح وجوهنا وشعر رؤوسنا ثم اكتنفتنا النيران من كل جانب ولم نعد ندري ماذا جرى وكيف أُنقذنا.قال أحد الناجين: شعرت أنني أحلق في الفضاء ثم وجدتُني على قارعة الطريق ولم أُصب إلا بحروق ورضوض سطحية. وقال آخر: تراءى لي أن طائراً أبيض ناصع البياض حملني بين جناحيه وطار بي بعيداً عن النيران، ما أصابني منها شيء قليل أو كثير.في ذلك المساء... في تلك الحفلة، وفي تلك الساعة كان قد ألمّ به خلل فخان عهده، وهو الأداة الفاصمة الوحيدة لمنع تسرّب النار وانتشارها في سائر الشريط... فلما تفاقمت الحرارة واشتدت وطأتها التهب طرف الشريط أخفق المقص في فصم الجزء المشتعل عن بكرة شريط الفيلم وإبعاده وفي خلال ثوان معدودات حدث الانفجار الرهيب في غرفة المحرك، وفي لحظات معدودات كانت الدار قد تحول ما فيها إلى كتلة من اللهيب المتأجج. بدت النار وكأن بعضها يأكل البعض الآخر.كانت أجساد الأطفال تشوى لحظات ثم تصير رمماً وهياكل متفحمة ورماداً في وسط نار لا نعتقد أنها كانت أقل ضراوة من النار التي احترقت بها "هيروشيما" و "ناغازاكي".لم تكن –آنذاك- في عامودا سيارة إطفاء ولا أية وسائل أخرى لإطفاء الحرائق... وهل كانت- إن وجدت- سنجدي نفعاً أمام هذا البركان الأهوج- وصلت سيارة إطفاء من مدينة "القامشلي" بعد أن احترق كل شيء وانصهرت القضبان الحديدية وانهار السقف ولم يبق أي شيء تأكله النار. وغير رائحة الشواء والأدخنة الثقيلة المنبعثة من العظام المتفحمة... وهل في وسع كل سيارات الإطفاء ووسائل إخماد الحرائق أن تقدم أو تؤخر في مجابهة مستودع للبارود وقد انفجر وانتهى أمره.انهار السقف وسوّي بالأرض وخمدت النار وعندئذ انطفأت البقية الباقية من جذوة الأمل في العثور على طفل لم يحترق بعد. في ذلك الأصيل أو في ذلك المساء من يوم الأحد من خريف عام 1960م ستين وتسعمائة وألف ميلادية. كان الصبيان الوسيمان محمد وأحمد (فلذتا كبدا السيدة فريدة علي) بين الداخلين الذين كانوا يصلوْن النار في ذاك التنور المسجور . كان صراخهم وعويلهم وأصوات الاستغاثة تتصاعد مع السنة اللهيب من الكوى والنوافذ... هرع الناس وجاءوا من كل حدب وصوب يملأ قلوبهم الهلع والذعر... ولما رأوا أن الشرّ مستطير وأدركوا أن لا طاقة لهم على درئه وأنهم عاجزون عن دفعه بكوا وأعولوا ملتاعين وكأنّ مهجهم وأرواحهم هي التي تحترق لا أجساد أطفال غضة.كان وقع النبأ صاعقاً وثقيلاً وأليماً فها هما نجلاها بكرها "محمد" وشقيقه الصغير "أحمد" في أسر نار لا عقل لها ولا قلب. ولكنها لم تصرف الوقت في الندب والنواح... ولم يثنها هول المشهد من اقتحام النار. قال بعض الذين كانوا شاهدي عيان: كنا ننظر إلى امرأة تنطلق كالسهم، تتسرب بين الجموع وتندس بين اللهب واللهب في أوج توقده وذروة اشتعاله كلبؤة أحست بالشر يحدق بأشبالها فاندفعت ساعية إلى إنقاذهم غير مبالية بشيء ظلت تفعل ذلك مراراً حتى أنقذت عدداً كبيراً. وقال آخرون: رأينا امرأة لم نر مثلها في النساء بدت لنا كبازيّ أبيض ينقضُّ على عدوٍّ قاتلٍ يريد افتراس فراخه.  لقد أنقذت في تلك الساعة الرهيبة خمسة عشر طفلاً أو يزيدون.نجا "محمد" من سطوة النيران التي حمّلت جسده حروقاً شفي منها فيما بعد وحمّلت نفسه آثاراً عميقة لم يشفَ منها طيلة حياته أسىً وحزناً على شقيقه الصغير "أحمد" الذي حلقت روحه الزكية إلى أقنوم الشهداء في الملكوت الأعلى. وخرجت فريدة علي السيدة الفاضلة "أم الشهيدين" بعد أن سفعت النار وجهها وأحرقت أهدابها وجفنيها فعانت من جراء ذلك آلاماً وتباريح ممضة طوال حياتها.في ذلك المساء من خريف عام 1960م وستين وتسعمائة وألف ميلادية استشهد /300/ثلاثمائة طفل قبل أوان الشهادة وقبل أن يكلفوا بها، لحكمة إلهية تعجز عن إدراكها عقولنا وسر لا تحيط به ألبابنا. ومهما يكن من أمر فقد كان استشهادهم من أجل حرية الشعب الجزائري واستقلال أرضه، واستعادة كرامته. إننا مهما تجاهلنا او تغافلنا عن الحقائق و أنكرناها ينبغي لنا ولكل جزائري أن نقر ونعترف بان لأولئك الشهداء الصغار منة جليلة وديناً أخلاقياً مقدساً في عنق كل فرد جزائري. لماذا لا يوجد في وهران او غيرها تمثال أو نصب تذكاري تمجيدا لأرواحهم الطاهرة؟والسيدة الفاضلة, التقية, الورعة الم يكن من حقها ومن الواجب الأخلاقي الملقى على عاتقنا أن يُصنع لها تمثال على غرار التمثال الذي نحته الفنان السوري "محمود جلال" للشهداء الصغار في أثناء إقامته في ايطاليا, عرفاناً بفضلهما الجم واعترافاًبنبلها و إنسانيتها وبسالتها النادرة... في بطون الكتب أسماء لامعة وسطور ناصعة عن نساء أجترحن  المعجزات في الشجاعة والتضحية والفداء وفي ميادين العلم مثل الخنساء وخوله بنت الأزور وجان دارك ومدام كوردي والمتصوفة التقية رابعة العدوية.فلماذا لم يرد لهذه البطلة اسمٌ في صحيفة أو كتاب على الرغم من الكثير الذي كتب عن فاجعة "السينما" ؟ ومما بسريّ بعض همومنا ويؤاسينا ويطامن لأْواء أسفنا لهذا الإهمال الذريع أن الأطفال الذين أنقذتهم السيدة "فريدة علي" لم ينسوها.  لم ينسوا أمهم المعنوية الأم الثانية, الأم التي لم تلدهم ولكنها وهبت لهم حياة جديدة....  وخلصتهم من براثن العدم.. أنهم ينظرون إليها وكأنها أمهم الحقيقة, وهم واثقون ومتيقنون من أنّ امهاتن لو كنّ حاضرات المشهد لما وضعن أرواحهنّ على اكفهنّ وتقحمنّ غمرات السعير مجازفات  بحياتهن كما فعلت "فريدة علي"  من اجل خلاصهم.كانوا يزورونها بين الفينة والفينة يحمدون صنيعها ويقدمون لها آيات الأمتنان ويشكرون لها. ولا تكون مناداتهم لها إلا بكلمة : يا أمي أو يا أماه... فتستقبلهم بلطفها المعهود وبشاشتها المعهودة ترحب بهم وتمسح برؤوسهم ... وتدعو لهم بالفلاح في حياتهم والعمر المديد... وربما تذكرت وليدها  الصغير الشهيد, فذرفت عبرة أو عبرتين ثم تحاول إخفاء ذلك عن أعين الزائرين الذين يفهمون عمق هذا الشجن فيتألمون ويصمتون على مضض لا يدركون كيف يخففون عنها ألمها ثم يمضون عنها وفي نفوسهم عزم على العودة كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.وهكذا كان دأبُ الصغار ... كانوا أوفياء بالعهد فإذا التقوا بها طاروا بها فرحا ومسرة وإذا خاطبوها هتفوا بكلمة "يادي Yadê  " أي يا اماه تضاهيها في العربية كلمة "أم" ثم غلبت عليها هذه الكلمة فصارت تعرف باسم (يادي  Yadê ). ولكن أي وفاء الكبار لهذه الأم المضحية المباركة؟. وأين إجلالهم لوقفتها الشريفة الرائعة تلك؟بعد نكبة "السينما " الرعناء رزقت "فريدة علي" بوليد, إذ أكرمها الله بصبي سُمي "إبراهيم" تيمنا باسم أبي الأنبياء لرؤيا رأتها إحدى قريباتها, وأحست أنها عُوِضت بهذا الوليد عن فقد شهيدها الصغير :"احمد" ولكنها لم تستطع أن تنساه وتمحو ذكره عن عقلها وفكرها.كان "إبراهيم" قدا غدا فتى يافعاً عندما لبى والده "إسماعيل عمي" نداء ربه, وكانت شقيقاته الأربع قد تزوجن فخوى البيت من قاطنيها ولم يمكث فيها سوى الأم التي كانت قد طعنت في السن و "محمد" الذي كان مدنفاً سقيماً بسبب ما لقيه من هول السينما, فوطّن النفس على الهجرة إلى دمشق حيث وافتهما المنية وماتا شهيدي غربة بعيداً عن الأهل والأصحاب .لقد ماتت المرأة العظيمة في دمشق و نقل جثمانها الطاهر الى مدينة الحسكة بجانب ضريح "فرحان" ابن زوجها ولكن هل علمت الحسكة أية آية إنسانية ترقد وتثوي في ثراها؟إنها "فريدة" بنت "علي حسكي" الرجل الكامل الرجولة, وزوجة "إسماعيل عمي" سليل مجدٍ عتيد وإباء كرام, الملازم لمجالس العلماء والمتصوفين, المحب لوطنه العاشق لأرضه, فريدة التي تشبعت بكل الحسنات  والفضائل التي الفتها عند هذين الرجلين النبيلين: فهل بعد فضلها زيادة لمستزيد؟إن السيدة الفاضل "فريدة علي حسكي" لم تلق في حياتها تكريماً يضاهي مآثرها ولم تلق اهتماما لائقا بها أفليسَ من حقها ومن الواجب علينا أن تكرّم بعد رحيلها لتكون نبراساً يستضيء به الأجيال ويتعلمون درساً في الإيثار والفداء وتنتعش النفوس بذكراها العابقة بالمودة والحب والحنان. ألا تستحق أن ينحت لها تمثال ينصب في الحديقة التي ينصب فيها تمثال الشهداء الصغار؟.
[1] - هذه الدار هي أقدم دار للسينما في المحافظة.[2] - كان البيت الأول ملكاً لصاحبه رشيد مهاجر، والثاني لـ محمد مهاجر والثالث لـ إيبو مهاجر.
سيدة فريدة علي (أم الشهداء) "قصة امرأة فاضلة" بقلم: الشيخ توفيق الحسيني
عن سما كورد
اصدقاء الحجحجيك

في أعوام العشرينيات كانت "عاموده" بلدة أو مدينة صغيرة، وُجِدت في أقصى الجنوب منها حيث تنتهي المساكن والبيوت فسحة من الأرض الخلاء ابتاعها أحد الوافدين من مالكها وأقام فيها منزلاً لسكناه، وقريباً منه ابتنى حانوتاً ليكون "مقهى" يُقدّم فيه الشاي والقهوة وبعض الأشربة الساخنة، لرواده الذين يقتعدون الكراسي الخشبية، وهذه البدعة بحذافيرها لم يكن للناس في عاموده بها معرفة. وكانت بعض الألعاب الهادئة تمارس في هذا المنتدى الجديد، كالنرد "الزهر" والـ"دومينو" و "الورق". أما "الشطرنج" فلم يكن معروفاً لدى سواد الناس، وكانت مقصوراً على العلماء ورجال الدين يتعاطون لعبه كلما أتيح لهم ذلك في أوقات فراغهم.وبعد مرور أعوام لا ندري كم هي على وجه الدقة والتحديد آل "المقهى" والأرض المحيطة بها –بيعاً- إلى أحد أفراد أسرة "مرشو" الذي أسس فيها داراً "للسينما"[1] تقبلها البعض باندهاش وإعجاب كبيرين وترحيب لا حدّ له، وقابلها البعض الآخر بالاستهجان والاستنكار والرفض وزعموا أنها بلية للفساد، ودعوة إلى المجون وسبب لتشويه الأخلاق الكريمة والإزراء بالعقائد الراسخة والعادات والتقاليد النبيلة، وقال المحبذون: إنها بوابة إلى الحضارة وإطلالة على المدنية ومسعى إلى التنور والمعرفة وشحذ العقول والاتصال بالعالم. وكان هذه "المؤسسة" تقدم عروضها في الفصول التي تكف فيها الأمطار عن الهطول، لأن العرض كان يجري ضمن "سور" خلا من السقف باستثناء غرفة المحرك وعمليات التشغيل... وكانت إدارة "المحرك" تتلقى الطاقة الكهربائية من محرك كهربائي آخر إذ لم تكن "عاموده" تعرف شيئاً اسمه "الكهرباء" ثم ما لبثت هذه "المؤسسة" بعد سنوات أن انتقلت إلى "فهمي حشيش" فقد عنّ لصاحبها أن يهاجر إلى بلد آخر. ولكن الأمد لم يطل بـ "فهمي حشيش" فقد هاجر مع أسرته وشقيقه إلى الولايات المتحدة، ونعتقد أنّ علة هجرته إلى تلك الأصقاع النائية هي كثرة مشاهدته تلك الأفلام التي كشفت له أسراراً جديدة، ووجهاً آخر للحياة في تلك البلاد وأغرته بالرحيل إليها دون التفكير في العودة، ولكنه لم يقطع رسائله عن أصحابه وأصدقائه، تلك الرسائل التي كان يعبّر فيها عن أشواقه لمعارفه وخلانه ولواعج حنينه إلى "سورية" ولاسيما "عاموده" التي أمضى فيها ردحاً من الزمن ملؤه المحبة والألفة والوئام مع الجميع.وقبل أن يغادر هذا الرجل "عاموده" إلى ديار الاغتراب كانت "دار السينما" قد آلت إلى ملكية "تاجو إبراهيم" بموجب عقد أُبرم بين الطرفين البائع والمشترى.وكأنما استشرت عدوى "السينما" في الناس فأنشأ "خضر عزيز معكو" داراً لهذا الغرض مصاقبة لمنزله الواقع على الجهة الجنوبية من شارع "البلدية" وأطلق عليها إسم "شهرزاد" وبنيت في الشارع نفسه دار أخرى للسينما بعد أعوام قليلة ثم دار رابعة بعد فترة وجيزة في وسط المدينة..وفي تلك الحقبة لم تكن الدور والمباني تشيّد على قوانين هندسية أو قواعد علمية مدروسة، بل كانت تبنى اعتباطاً وحسب أمزجة أصحابها وفي نطاق قدراته وملكاته المادية غير أنّ مادة البناء كانت واحدة حيث تتُخذ الجدران من اللبن الترابي والأسقف من جذوع الأشجار وأغصانها التي تفرش بالقش، ولم يكن الناس قد عرفوا شيئاً اسمه "الاسمنت". ولكنهم كانوا يألفون بعض الأبنية المشيدة من الحجارة. من هذه الأبنية "دار البلدية" المشيدة في أعوام العشرينيات، ومبنى مستودع الوقود الذي عُرف فيما بعد باسم "كازخانا شوتي" Gazxana Şewitî بعدما شبت فيه النار. وكان للأهالي عدة بيوت بنيت من الحجر وهي الدور الثلاث التي بناها أصحابها المهاجرون النازحون من أقصى الأراضي الشمالية التركية- الروسية فراراً من بطش القوات القيصرية التي كانت تجتاح الأرض التركية بين حين وآخر جراء الحروب المحتدمة بين الدولتين الجارتين في القرن الثامن عشر[2]، بناها أصحابها بأيديهم إذ لم يكن في المنطقة بناؤون يمتلكون خبرة أو دراية بالبناء الحجري.ولكن بأية صورة وهيئة شيدت دار "سينما شهرزاد" في تلك الأيام الخوالي؟بنيت جدران هذه الدار من اللبن الترابي المألوف آنذاك بطول عشرين /20/ متراً شرقاً وغرباً وعرض /6/ستة أمتار شمالاً وجنوباً، ولما بلغ ارتفاع الجدران /3،5/ثلاثة ونصفاً من الأمتار مُدت عليها قضبان حديدية "من قضبان السكك الحديدية التي تسير عليها القطارات" ثم وضعت عليها عمد خشبية ضخمة ثم غطيت بأغصان وسيقان الأشجار الصغيرة وسترت بعد ذلك بكميات كبيرة من القش والحشائش ثم فرشت بالطين....  . وفي الداخل اتخذت غرفة "محرك الأفلام" من الخشب في أقصى الشرق تقابلها الشاشة البيضاء في أقصى الغرب أي على الجدار الغربي من البناء وكان الباب أيضاً مصنوعاً من الخشب يطل على الشارع ينفتح إلى الداخل ويهبط منه درجتين إلى أرضية الدار المنخفضة ولم يكن عرض الباب يتجاوز متراً، هذا الباب الذي أُعِدَّ لدخول وخروج العشرات والمئات أحياناً من الزوّار الذين لا يجدون مشقة أو عناءً لأنهم يلجون وحداناً متمهلين، أما الخروج فيكون سريعاً متدفقاً، ومثل هذا الباب الضيق لم يكن في وسعه تلبية حاجة هذا التزاحم بالمناكب والتهافت على الخروج، وهو من الأخطاء الكثيرة الفادحة التي ارتكبت في تشييد بناء هذه الدار، دار النكبة العمياء والفاجعة الكبرى في عامودا الصغيرة الهادئة الوادعة، دار "سينما شهرزاد". والكراسي والمقاعد المتلاصقة لم تكن مصنوعة من حجر أو حديد، لا سلطان للنيران عليهما بل كانت من الخشب والقش والألياف النباتية اليابسة. وكأنما أراد المشرفون على عمليات تأسيس هذه الدار السينمائية أن يضفوا عليها من الداخل مسحة من الجمال زيادة في ترفيه النظارة "المتفرجين" وإمتاعهم واجتذابهم يوماً بعد يوم فأسدلوا عليها الستائر وكسوها بقماش منسوج من خيوط القنب "جوّال- خيش" وزوّقوها بطلاء مزاجه "النفط" السائل الشفاف.ولم تكن في البناء شبابيك أو نوافذ سوى بعض الثغور والفتحات والكوى في أعلى الجدران القريبة من السقف من باب الاحتراز فلا يطمع أحد من السابلة في محاولة لمشاهدة ما يجري من عروض سينمائية. ولم توجد فيه أبواب سوى الباب الرئيسي الوحيد المعد للدخول والخروج الذي سبق القول عنه وباب صغير في الجنوب من البناء موصد في اكثر الأوقات، يفضي إلى "فناء" واسع خالٍ إلا من بعض الأشجار وبئر يستسقى منها للشرب والري. أما باب المقصورة "غرفة المحرك" الخشبية فكان موقعه في الشارع العام يُصعد إليه على عدة درجات لدخول المقصورة التي نصب فيها "المحرك" وفيها تتراكم صناديق لحفظ "الأفلام" التي كانت تصنع من مادة "بلاستيكية" سريعة الالتهاب اذا مستها النار تأججت وانفجرت كما ينفجر "البارود" ولا يكاد يتخلف عن اشتعالها أيّ أثر. ومما يلفت النظر أن بعض الصبيان كانوا قد اكتشفوا هذه الطاقة الهائلة في "الشريط السينمائي" فيحصلون على "عبوة" معدنية من الصفيح الرقيق وكانت هذه العبوة مصنوعة من الألمنيوم الخفيف، تحفظ فيها أنماط من الأدوية والحبوب الصيدلانية الطبية، ثم يدسون فيها قطعة "تالفة" من الشريط ويثقبون إحدى نهاتي العبوة الاسطوانية ثم يشعلون طرف الشريط البارز من خلال الثقب بواسطة عود ثقاب ملتهب فتنطلق كقذيفة صاروخية نفاثة وتحلق هنيهة في الفضاء ثم تغيب عن الأنظار. ولكن ألا تقع الطامة لو أن شرارة نار سقطت على "الشريط" المرهف الحساسية شرارة من القوس الكهربائية التي تسلط الضوء الباهر على الشريط لتكبير الصورة وإرسالها إلى الشاشة البيضاء؟ ألم يتطارح صناع الأفلام ومبتكرو أجهزة التشغيل المعقدة هذه المسألة؟ ألم يتساءلوا فيما بينهم عن الإجراءات الوقائية إذا شبت النار في "الشريط المتأهب للاحتراق تحت وطأة الحرارة الشديدة العالية وكيفية قطع الطريق أمام الخطر؟ بلى.. وجواباً عن هذا التساؤل زوّد جهاز التشغيل بأداة باترة ذاتية الحركة تفصل الجزء المشتعل عن الشريط وتصونه من مس النار وحمايته من الأذى. ولكن أي ويْلٍ يمكن أن ينجم إذا تعطلت تلك الأداة وعجزت عن أداء دورها وأخفقت في إنجاز وظيفتها عند اللحظة الحرجة والضرورة القصوى؟ ولم نستطع السيطرة على الموقف القاتل؟ لعل هذا السؤال لم يخطر لهم على بال ولم يفكروا في مغبة ذلك الخلل الذي لا يبدو مستحيلاً أو غير قابل للحدوث، الخلل الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير في "سينما شهرزاد" بعد أعوام من إنشائها.بعد الوصف الذي عرضنا به أحوال "سينما شهرزاد بإيجاز قدر المستطاع، يتضح للمتأمل مدى فداحة الأخطاء والنواقص التي ارتكبت في تأسيس دارها، وأنها أشبه بأتون مشحون بالوقود لا يفتقر إلا إلى قبس ضئيل أو شرارة مستصغره، لتغدو في طرفة عين جحيماً مستعراً، ويغدو كل ما فيه رماداً.بالقرب من "سينما شهرزاد" عن كثب كان "إسماعيل عمي" هو امرؤ في شرخ الشباب قد ابتنى داراً لسكناه تشاركه الإقامة فيها زوجته الشابة "فريدة علي" وابنه فرحان من زوجته الراحلة التي كان قد تأهل بها إبان إقامته في مدينة حلب وقد أنجبت له هذا الصبي وماتت عنه بعد أيام معدودات.كان محمد عمي "والد إسماعيل عمي" سيد قومه في إحدى مناطق سرحدان من أراضي الإمبراطورية العثمانية المتاخمة للأراضي الروسية القيصرية، فلما احتدمت المعارك وتأججت نيران الحرب بين الإمبراطوريتين الجارتين ودامت كثرت الشائعات عن زحف القوات الروسية المحاربة باتجاه الجنوب نحو مناطق سرحدان خشي الناس على أرواحهم وأموالهم من بطش الجحافل الغازية فحملوا ما خف حملهُ وهاجروا إلى أصقاعٍ مجهولة وتبعثروا في طول الأرض وعرضها. وكان محمد عمي "والد إسماعيل عمي" آخر الناس الذين فكروا في النزوح وهجرة مواطنهم لأنه كان يعتقد أن الجبال الوعرة ومواقعه المحصنة وبنادق رجاله وبسالتهم ستدرأ الأخطار وتصد الطامعين، ثم بان له بعد أن خوت أكثر البيوت في قرى كثيرة من قاطنيها أن وعورة الجبال وبنادق الرجال وبسالة الأبطال لا تقدم ولا تؤخر نفعاً ولا تجدي شروى نقير في مواجهة جيشٍ لجبٍ جرّار مدجج بالمدافع والأسلحة الثقيلة فجمع أهليه وذويه ورجاله واستشارهم ثم أعلن عليهم القرار بالرحيل. وفي غضون يومين كانت القافلة وفيها /14/ أربع عشرة راحلة من رواحل "محمد عمي" و ولداه الصبيان البكر "إسماعيل" والصغير "عمي" وعقيلته تغذ الخطا في الشعاب في الجبال ثم على الدروب في السهول باتجاه الغرب حتى وصلت مساءً بعد مسيرة أيام إلى ضفة نهر "دجلة" الشرقية فتوقفت عن السير وعرّست وباتت تلك الليلة حتى إذا بزغ ضوء النهار بحث الرجال عن معبر ضحل للمياه للعبور إلى ما وراء الضفة الغربية فلما عثروا عليه سارت عله الرواحل والدواب والرجال وبعض النساء والأطفال، وبينهم الصبيان الشقيقان "إسماعيل" و "عمي". وكان "محمد عمي" والد الشقيقين وأمهما قد تخلفا عن العبور واللحاق بسائر أفراد القافلة، فلما خوّضا في النهر ووصلا إلى منتصف المعبر هبت عليهما موجة عارمة طوّحت بهما إلى عمق النهر... حاولا الصمود... ولكنّ التيار كان عاتياً فجرف صاحبته وغيبها في دوّامة سحيقة الغور ولم يفلح "محمد عمي" في إنقاذها من براثن الدوّامة رغم كل ما بذله من جهد ورغم ما أبلاه من بلاء حسن يعجز عنه صناديد الرجال وعظماء الأبطال، وخرج من النهر مقهوراً مدحوراً وهو الذي لم يهزم في معركة، ولم ترهبه كثرة الخصوم.. خرج صارخاً نادباً زوجته البارة الصالحة أُمّ ولديه الوحيدين "إسماعيل" و "عمي".  إسماعيل الذي كان قد تجاوز السنة الثانية عشرة و "عمي" الذي كان دون السنة العاشرة آنذاك. فأية لوعة ولواعج وبلوى وألام سيتجرع هذا الطفلان في غياب أمهما العطوف الرؤوم التي وهبت لهما كل عواطف الحب والرحمة؟  دبّ هرْجٌ ومرْج في القافلة وعلا صوت النواح والنحيب، وفي لحظة تحول المكان إلى مناحة.. لم تهدأ إلا بعد يوم.. كان الجميع يحاولون تهدئة الصبيين ومواساة الأب وتعزيته.. وطلبوا إليه متابعة الرحلة، لكنه تشبث بالمكان وأبى أن يبرح حافة النهر وكأنه يرجو أن تعود المرأة الشهيدة إلى ابنيها المنكوبين وزوجها الملتاع الفؤاد. وفي تلك الأيام كانت الأوبئة والأمراض والمجاعات قد تفشت في الناس ونخر الفساد في كثير من النفوس، فلما يئسوا من إقناعه بالرحيل دعوه وشأنه وتفرقوا عنه إلى حيث لا يدري ولا يدرون.مكث "محمد عمي" مع ولديه لا يريم الضفة التي وقعت عندها الفاجعة الأليمة أياماً ثم بدا له أن المكوث في هذا المكان لا يرد عليه فائتاً ولا يداوي الجراحات التي تركها رحيل زوجته في نفوسهم. فأعد العدة واستأنف السير باتجاه الغرب الجنوبي الموازي للأراضي السورية وبعد مسيرة أيام وصل برواحله وولديه إلى منطقة قريبة من "ويران شهر" وتوقف للاستجمام والتخفيف من وعثاء السفر الطويل، وفي الليل بينما كان مستغرقاً في النوم دهمه رجال مسلحون، وساقوا أمامهم جميع الدواب مع أحمالها ولما استفاق من النوم وأدرك ماذا حل بأمواله سار في إثر القوم وأطلق عليهم الرصاص في جنح الليل ولكنهم كانوا قد غادروا وأمعنوا في الابتعاد.فهل من جائحة ومصيبة ماحقة أشد هولاً وفتكاً مما ألمّ بهذا الرجل النبيل، سليل المجد والكرم والمروءة-ابن الأمجاد وحفيد الأكرمين الآمر الناهي في أرضه بين قومه، صاحب الكلمة المسموعة والأمر المطاع.. بالأمس القريب رحلت عنه أقرب الناس إليه الزوجة الشريفة الطاهرة وتركته نهباً للهموم والأتراح، وتفرق عنه الأهل والأصحاب فلا لقاء بينه وبينهم بعد اليوم..وها هو ذا الرجل الثري، الواسع الثراء، صاحب الأنعام والخيول، مالك الأراضي والبساتين يغدو بين عشية وضحاها من أكثر الناس فاقة وفقراً وعوزاً وحاجة.لم تغمض له عين في تلك الليلة، وظل مسهداً قلقاً مضطرباً حائراً وفي الغداة تناول يدي "إسماعيل" و "عمي" وسار قاصداً المدينة القريبة من مكانه ذاك فلما دنا منها شاهد على مشارفها رقعة من الأرض يحوّطها سور خفيض وحين أمعن فيها النظر رأى دوابه المسلوبة بين بغال وخيول ودواب أخرى، فاطمأن باله قليلاً وعاوده الأمل فلعله يستطيع استرجاعها بوسيلة من الوسائل.وفي مدينة "ويران شهر" Wêran şehir  اهتدى إلى إيوان " الحاكم المتصرف الفرد" فوضع القضية بين يديه بكل حذافيرها ولكنه لم يجد آذانا ٌ صاغية فخرج مهزوما ٌ مدحورا ٌ كما خرج من النهر بائساٌٌ لا حول له ولا قوة. وبعد أيام غير كثيرة استبدت به الأحزان وتراكمت على قلبه الأشجان فمات شهيد غربة ودفن في إحدى القرى المتاخمة للمدينة التي سلبته كل ما كان قد حمله من ارث أبيه. وترك طفليه شريدين في عالم محفوف بكل أنواع الفساد والشرور, والظلم والآثام.لم يعد للطفلين في هذا العالم الواسع الشاسع بعد رحيل والدهما وسندهما من ملاذ أو مأوى وقد كانا قبل عهد قريب في أحسن حال, يعيشان في بلهنية, ورغد وبنعمان بكل الطيبات من طعام وشراب في رعاية أب شفيق وأم حنون, فضربا في الأرض وتحملا قسوة الجوع والظمأ واويا إلى البيوت المهجورة ونالهما من الخوف والرهبة في الليالي, ما هو فوق كل جلد أو اصطبار واحتمال كانت الوحوش والسباع والحيوانات الضارية مصدر هلعهما وخوفهما, كذلك الأفاعي والحشرات السامة... أكلا أوراق الشجر واقتاتا ببقايا الثمار اليابسة درأ للجوع وسداٌ للرمق... بليت ثيابهما وتمزقت نعالهما فكانا يسيران حافيين كاسيين شبه عاريين. طال بهما الأمر كذلك حتى قادتهما أقدامهما إلى قرية زعيم إحدى العشائر (الأغا) فضمهما إلى حاشيته.كان "إسماعيل" منذ نعومة أظفاره يخرج في رفقة والده إلى الصيد فتعلم أمورا كثيرة عن طبائع الخيول وكيفية ترويضها واستئناسها, وإذ اكتشف الأغا هذه الميزة في الفتى اسند إليه أمر سياسة جواده والاعتناء به وقد كبر في عينه فأدناه من مجلسه وأدخله بين جلاسه... أما الصبي "عمي" فقد أوكل إليه أداء بعض الأعمال المنزلية الخفيفة التي لا تتطلب عناءً ولا ترهق الصبي.أمضى "إسماعيل" وشقيقه "عمي" أعواماً في هذه القرية حيث ناهز إسماعيل الثامنة عشرة من العمر وهو يؤدي عمله بجد وإخلاص ويزداد خبرة ودراية بأمور الخيل حائزا يوما بعد يوم مزيداً من إعجاب الأغا واهتمامه. ومن كمال وعي إسماعيل وتمام نضج عقله وفكره انه وقع على أسرار في نفسية "الأغا" وخصال في شخصيته فهو نزق أرعن شديد النزق والرعونة حيناً وهادئ ساكن حيناً آخر دون سبب لهذه الرعونة وذاك السكون. وهو أهوج شديد  الحمق والفهاهة مرة ومتزن وقور مرة أخرى دون سبب لهذه الفهاهة والوقار. قد يقدم على قتل اقرب الناس إليه وأوفى أصدقائه و محبيه في لحظة من لحظات تبدل مزاجه أو نزوة من نزواته. لذلك كان هذا الفتى دائم الحذر يترصد أحواله ويسعى جاهداً أن لا يثير حنقه أو يغيظه خشية أن يناله عقاب من هذا الأهوج على جريرة لم يقترفها.وفي هذه الأعوام الأخيرة كان "إسماعيل" لا يكاد يغيب عن مجلس الأغا فيزداد معرفة بأحوال الناس ويسمع من أفواه التجار القادمين من "حلب" إنباء "شديدة الغرابة" عن هذه المدينة العجيبة " لا يكاد يصدقها" ورفاهية  أهلها ورخاء العيش فيها  وكثرة أسواقها وفخامة بيوتها. فكان يزداد كل يوماً شوقاً من هذا المضيف المتعسف الذي لا يؤمن جانبه, وتخشى  بوادره ويتمنى أن يفعل ذلك متى واتته الفرصة السانحة, وأخفى هذه الرغبة من الناس وكتمها في نفسه ولكنه أسرها إلى شقيقه "عمي"  ونصحه أن لا يبوح بهذا السر وحذره  من مغبة الإفضاء به إلى أي كائن.وفي سَحرِ من الأسحار كان "إسماعيل" و "عمي" يختلطان بأفراد قافلة قاصدة المدينة التي يحلمان بها.سارت القافلة تغذ السير أسابيع في حلٍ و ترحال حتى بلغت مشارف حلب ذات مساءً فكفت عن السير وتوقفت وباتت تلك الليلة في العراء  وما أن ذرّ قرن الشمس حتى تأهبت لدخول المدينة الكبيرة.لقد كانت "حلب" أعظم و أجلّ مما توهمه "إسماعيل" وكانت اكبر وأوسع من تلك النعوت والأوصاف التي كان يتلقاها من أفواه الزائرين العائدين من حلب.  كان كل شيء يبدو له غريباً ومذهلاَ الحوانيت التي لا تعد ولا تحصى.. الشوارع والطرقات المعبدة بالأحجار المسنونة .... البيوت.. الساحات العامة والأشجار المزروعة على جانبي الطرق والحدائق الأنيقة و وسائل المواصلات والمساجد والكنائس والمدارس والتكايا وغيرها... وفي كل يوم  كان يكتشف أشياء جديدة لم يكن قد سمع بها أو رآها أو خطرت له على بال.كان عليهما أن يبحثا عن عمل فوجداه في نقل مياه الشرب إلى البيوت والمنازل ودأبا على ذلك أعواما وهما يشعران بالحرية والأمان على الرغم من مشقة العمل, لقد ولت حياة الشظف والخشونة والجوع.. حياة الخوف.. كلاهما سيد نفسه يكتسي وينتعل  كما يشاء ... يأكل ويشرب كما يشتهي .. ينام  ويستيقظ كما يريد, لا يخشى سطوة " الأغا" ولا يحذر بوادره فقد انفتح أمامهما باب حياة جديدة على مصراعين.. وجدا فيها طعم الكرامة والسعادة للمرة الأولى منذ أن نزحا عن أرضهما .. ورغم تحسن أحوالهما فقد كانا يطمحان إلى عمل أفضل ثم عثرا عليه بهدى من معارفهما في "المحلج"  الذي كان سخيا في أداء الأجور وساعات العمل والجهد المبذول أدنى واقل.وفي غضون سنوات ليست طويلة كان الفقر قد ولى وأصبح "إسماعيل" من الأثرياء, وأحس بحاجة إلى امرأة تشاركه في بناء أسرة, فخطب له أصدقاؤه فتاة وتزوجها وبعد أن حال الحول رزقا  مولدا أسمياه "فرحاناً" ولكن السعادة التي هبطت على هذه الأسرة لم يطل بها الأمور, ولم تكتمل فرحة الأم بوليدها ولا فرحة الوليد بأمه  فقد لبت الأم نداء ربها وصعدت روحها إلى باريها. وكان الطفل آنذاك قد بلغ من العمر /4/ أربعة أعوام فأسكنه مأوى أو داراً  للحضانة في حلب.. وقد ألمته الحادثة امضّ الألم وجددت شجونه وأعادت إليه ذكريات الأيام العصيبة أيام البؤس والقهر والشقاء. وكانت أنباء ترد إلى حلب وتقرع سمعه عن مهاجرين لاذوا بأكناف عامودا وضواحيها وما حولها من القرى القريبة  والبعيدة, فيشتد حنينه إلى الأهل و الأقرباء الذين افتقدهم فعزم على الانتقال إلى عامودا بأمواله وممتلكاته وابنه "فرحان" الصبي الصغير مصطحبا شقيقه الأصغر "عمي" وهكذا فعل. بُعيد وصول هذه الأسرة المنكوبة أقامت أول وهلة في منزل قريب من دار الرجل التقي, الورع العلامة الصالح الشيخ "محمد صدقة" الحسني المديني (رضي الله عنه)  الذي كان يعقد مجالس للعلم ويقيم حلقات الذكر في "التكية" الملحقة بداره يحضرها العلماء وأهل التصوف, ولعل هذا القرب أو هذا  الجوار كان ذريعة لتردد "إسماعيل عمي" إلى مجلس الشيخ والإصغاء إلى أحاديث العلماء والانتفاع بحوارهم وجدلهم واكتساب المعارف والحكمة حينا بعد حين.لم يتقاعس "إسماعيل عمي" منذ هجرته إلى عامودا وما توانى عن زيارة أولئك المهاجرين الذين سبقوه في اللجوء إلى عامودا. وبحث عنهم في مظان وجودهم وأماكن إقامتهم في القرى والأرياف وألح وألحف في السؤال عن أهله وأقاربه الذين افتقدهم ولكنه لم يقع على جواب ولم يخرج من عندهم بطائل. كان كمن يبحث عن خاتم سليمان في قاع اليمّ.. أو نجمة في المجرة."إسماعيل عمي" الرجل النشيط، والكادح المثابر الذي أمضى جل أيامه في الجد والعمل استاء من حياة الكسل والخمول وسئم الفراغ الذي يعانيه ويتألم منه فوطّن النفس على العزف على وتر وحيد يصدر لحنين أو نغمين مختلفين متفاوتين: اللحن الأول، أن يبتاع عروضاً للتجارة يسافر ويحملها معه إلى العراق وتركيا واللحن الثاني: تفقد الأهل والأقارب والبحث عنهم في هاتين الدولتين. وهكذا قصد العراق وزار مدينة الموصل وسافر إلى تركيا فما كان حظه أوفر من حظه في عاموده بحث عنهم في دياربكر وماردين ووفي مدن وقرى كثيرة فما أثمر سعيه ولم يلق نُجحاً.وفي إحدى جولاته ساقته قدماه إلى قرية الرجل الذائع الصيت المعروف بشجاعته وسخائه وكرمه "علي حسكي" وحدثه ببعض حديث قومه وما جرى لهم فتأثر الرجل وأبدى عن حزنه لما حلّ بهم.. ثم كثر اللقاء بينهما ونشأت بينهما علاقة حميمة من الصداقة، وكان لعلي حسكي فتاة حسنة الخلق والخلق.. مهذبة... طيبة القلب... نزيهة النفس بارة بوالديها محبة للصغار فعنّ لإسماعيل أن يطلب يدها فلم يتردد والدها في الموافقة على هذا الزواج.. الزواج من ابنته "فريدة" .وإذ جُلبت هذه الفتاة إلى دار "إسماعيل عمي" أحس أن السعادة تنهمر على هذه الأسرة الصغيرة بعد تلك السنين العجاف المفعمة بالترح والشجن والحزن. وأول ما فعلته "فريدة" انها التفتت إلى الصبي "فرحان" وأحسنت تربيته ورعته كما ترعى فلذة كبدها وأنشأته على الأخلاق الكريمة والخصال القويمة... وأدارت شؤون منزلها كامرأة لها خبرة وتجربة وفعلت كل ما يرضي زوجها "إسماعيل عمي" الذي كان يحترمها ويقدرها حق قدرها. كانت هذه "العروس" الجديدة رغم صغر سنها مفعمة بالصدق والصراحة والجرأة والحكمة إلى جانب عواطفها المرهفة تجاه الضعفاء والعاجزين... وهي الصفات التي ورثتها عن والدها "علي حسكي" الذي تروى عنه قصص وحكايات عن البطولة والجود والسخاء.كان رجل ارمني صناع حاذقا ًفي صناعة الخناجر يقيم في مدينة /ماردين/ وكان "علي حسكي" بهوى اقتناء الأسلحة النادرة الفخمة فأوصاه أن يصنع له خنجرا مموها بالذهب والفضة مرصعاً بالأحجار الكريمة, وقد استغرق صنع هذا الخنجر بتلك المواصفات جهداً كبيراً عدة أيام وأنباه أن الصائغ أنجز وعده في صنع الخنجر فأمر أن يُدفع للبشير وسقٌ من الزبيب على بشارته.لعل منزل "إسماعيل عمي" ضاق به وبأفراد أسرته وكثرة الزوّار والزائرات فابتاع أرضاً واسعة ابتنى عليها داراً فسيحة في الشارع المعروف اليوم باسم "شارع البلدية" وانتقل إليها. والى جانبها –بعد سنوات – انشأ المواطن الثري خضر عزيز معكو مؤسسة سينمائية عرفت باسم "سينما شهرزاد" والتي كتب عليها أن تمسي مسرحا لأبشع وأشنع مأساة إنسانية لا سابقة لها في تاريخ البشرية.كانت "فريدة" الرقيقة الأحاسيس, الكبيرة القلب مفطورة على عاطفة هادئة متزنة تجاه الأطفال, وكانت محبتها لهم غريزة  متأصلة بين جوانحها وفي أغوار نفسها ولكنها بعد أن رزقت أطفالا رفدتها الأمومة بمعانٍ جديدة مقدسة من الرحمة والرأفة  والحنان, وعلمتها أن تكون مشبوبة المشاعر إزاء جميع الأطفال. ومسحت من خلجات نفسها كل أثر للأنانية والأثرة وحب الذات. ولما تشبّع كيانها بهذه الرموز السامية لم تعد هادئة البال أو مرتاحة النفس إذا سمعت صوت طفل ينتحب أو صغير يبكي مهما كان مصدر ذاك البكاء والنحيب. سواء أكان أتيا من الشارع أو من بيوت الجيران. وما كانت تطيق سماع مواء قطة أو هر يعبث بهما الصبيان فكانت تذهب إليهم وتحثهم بكلام رقيق يحمل معنى الحديث الشريف ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها ترعى خشاش الأرض) وتحذرهم من مغبة  هذا السلوك الذي سينتهي باصحابه إلى العقاب يوم الآخرة...أو إذا شاهدت احد أولئك قد اقتنص طائرا وربط إحدى قائمتيه برمة لا يبغي من وراء ذلك سوى التسلية واللهو غير مبالٍ بعذاب الطائر البريء الضعيف, حاورته وحاولت إقناعه بتسريح الطائر وترك العنان له, فإذا لم يجد الحوار نفعا ابتاعته بمبلغ من المال وأطلقت سراحه.هكذا كانت حياة هذه المرأة الفاضلة وهكذا عُرفت في بيئتها وبين جيرانها، تحاذر من الوقوع في الشبهات، إذ لمست خيراً صنعته أو شراً تجنبته وتنحتْ عنه، وسعت إلى اجتراح البر والحسنات ما وسعها ذلك. لا تريد جزاءً ولا شكوراً. لا تستطيع أن تفعل غير ذلك.انصرمت الأيام والأعوام، وتبدلت الأحوال وتغيرت نظرة الناس إلى الأشياء، وفترت همة أولئك المتزمتين في محاربة "السينما" وغدت أمراً مألوفاً. لا يلام مرتادوها ولا يُعاتبون ولا يُذمون على حضورها. وبدأوا يرسلون أطفالهم إلى المدارس بعد أن كانوا يصدون الناس عنها ويحذرونهم من إرسالهم إليها.في أواخر خريف عام 1960م ستين وتسعمائة ألف ميلادية، كان الصبيان: أحمد ومحمد قد أُميطت عنهما التمائم وشبا عن الطوق فإذا هما ذاهبان إلى المدرسة في الغداة أيبان في العشي بعيني أبيهما وأمهما اللذين يفيضان عليهما حنانهما في ذهابهما وإيابهما.وفي غضون هذا العام كانت "الجزائر" لا تزال رازحة تحت عبء الاحتلال الفرنسي مطوقة بنيره الثقيل، مكبّلة بأغلاله الباهظة. من قتل وتشريد وتجويع. وكان الشعب السوري لا ينقطع عن نجدة الجزائر ومد يدّ العون والمؤازرة للشعب الجزائري، وكان كل فرد سوري يؤمن بعدالة القضية الجزائرية في التحرير ورفع الحيف عن أخيه الجزائري، ويعتقد أن الواجب القومي والإنساني يدعوه إلى نصرته حسب جهده ومقدرته. وتلبية لهذا الواجب بدأت دار "سينما شهرزاد" في الساعة ....صباحاً من يوم الأحد من شهر تشرين الثاني عام 1960م ستين وتسعمائة وألف ميلادية، تستقبل أفواج تلاميذ المدارس الذين جاءوا بدراهم- وإن كانت بخسة أو زهيدة- معبرين عن أريحيتهم في نصرة الثوار، يشاركون الكبار في حمل جزء من العبء الي يقع على كاهلهم.وفي الحفلة المسائية كانت زمر من التلاميذ بينهم الصبيان: محمد وأحمد، تحتشد أمام باب دار السينما الضيق.. كانوا متهافتين على الدخول، يتدافعون ويتزاحمون بالمناكب ثم يتدفقون إلى الداخل يتنافسون في الحصول على مكان للجلوس على كرسي أو مقعد خشبي، إذ كانت المقاعد والكراسي تضيق بكثرة الزائرين الداخلين جُزافاً، فمن لم يعثر على مكان لجلوسه ظل قائماً أو افترش الأرض، ولما اكتظت "الصالة" بالنظارة ولم يبق فيها موطئ لقدم أُوصِدَ الباب، وبدأت الصور تتحرك على "الشاشة" الكبيرة. ران صمت مطبق على الجميع ورنت العيون بلهفة وشوق.كان "الفلم" يحكي قصة معركة طاحنة بين دولتين متحاربتين. تتابعت مشاهد القتال ولكن الزمن لم يطل، وسرعان ما ظهرت على "الشاشة" أضواء حمراء. قال الذين نجوا من سعير السينما وكانت نجاتهم أشبه بمعجزة. حسبنا تلك الأضواء أحد مشاهد المعركة ثم أحسسنا بلفحات تسفح وجوهنا وشعر رؤوسنا ثم اكتنفتنا النيران من كل جانب ولم نعد ندري ماذا جرى وكيف أُنقذنا.قال أحد الناجين: شعرت أنني أحلق في الفضاء ثم وجدتُني على قارعة الطريق ولم أُصب إلا بحروق ورضوض سطحية. وقال آخر: تراءى لي أن طائراً أبيض ناصع البياض حملني بين جناحيه وطار بي بعيداً عن النيران، ما أصابني منها شيء قليل أو كثير.في ذلك المساء... في تلك الحفلة، وفي تلك الساعة كان قد ألمّ به خلل فخان عهده، وهو الأداة الفاصمة الوحيدة لمنع تسرّب النار وانتشارها في سائر الشريط... فلما تفاقمت الحرارة واشتدت وطأتها التهب طرف الشريط أخفق المقص في فصم الجزء المشتعل عن بكرة شريط الفيلم وإبعاده وفي خلال ثوان معدودات حدث الانفجار الرهيب في غرفة المحرك، وفي لحظات معدودات كانت الدار قد تحول ما فيها إلى كتلة من اللهيب المتأجج. بدت النار وكأن بعضها يأكل البعض الآخر.كانت أجساد الأطفال تشوى لحظات ثم تصير رمماً وهياكل متفحمة ورماداً في وسط نار لا نعتقد أنها كانت أقل ضراوة من النار التي احترقت بها "هيروشيما" و "ناغازاكي".لم تكن –آنذاك- في عامودا سيارة إطفاء ولا أية وسائل أخرى لإطفاء الحرائق... وهل كانت- إن وجدت- سنجدي نفعاً أمام هذا البركان الأهوج- وصلت سيارة إطفاء من مدينة "القامشلي" بعد أن احترق كل شيء وانصهرت القضبان الحديدية وانهار السقف ولم يبق أي شيء تأكله النار. وغير رائحة الشواء والأدخنة الثقيلة المنبعثة من العظام المتفحمة... وهل في وسع كل سيارات الإطفاء ووسائل إخماد الحرائق أن تقدم أو تؤخر في مجابهة مستودع للبارود وقد انفجر وانتهى أمره.انهار السقف وسوّي بالأرض وخمدت النار وعندئذ انطفأت البقية الباقية من جذوة الأمل في العثور على طفل لم يحترق بعد. في ذلك الأصيل أو في ذلك المساء من يوم الأحد من خريف عام 1960م ستين وتسعمائة وألف ميلادية. كان الصبيان الوسيمان محمد وأحمد (فلذتا كبدا السيدة فريدة علي) بين الداخلين الذين كانوا يصلوْن النار في ذاك التنور المسجور . كان صراخهم وعويلهم وأصوات الاستغاثة تتصاعد مع السنة اللهيب من الكوى والنوافذ... هرع الناس وجاءوا من كل حدب وصوب يملأ قلوبهم الهلع والذعر... ولما رأوا أن الشرّ مستطير وأدركوا أن لا طاقة لهم على درئه وأنهم عاجزون عن دفعه بكوا وأعولوا ملتاعين وكأنّ مهجهم وأرواحهم هي التي تحترق لا أجساد أطفال غضة.كان وقع النبأ صاعقاً وثقيلاً وأليماً فها هما نجلاها بكرها "محمد" وشقيقه الصغير "أحمد" في أسر نار لا عقل لها ولا قلب. ولكنها لم تصرف الوقت في الندب والنواح... ولم يثنها هول المشهد من اقتحام النار. قال بعض الذين كانوا شاهدي عيان: كنا ننظر إلى امرأة تنطلق كالسهم، تتسرب بين الجموع وتندس بين اللهب واللهب في أوج توقده وذروة اشتعاله كلبؤة أحست بالشر يحدق بأشبالها فاندفعت ساعية إلى إنقاذهم غير مبالية بشيء ظلت تفعل ذلك مراراً حتى أنقذت عدداً كبيراً. وقال آخرون: رأينا امرأة لم نر مثلها في النساء بدت لنا كبازيّ أبيض ينقضُّ على عدوٍّ قاتلٍ يريد افتراس فراخه.  لقد أنقذت في تلك الساعة الرهيبة خمسة عشر طفلاً أو يزيدون.نجا "محمد" من سطوة النيران التي حمّلت جسده حروقاً شفي منها فيما بعد وحمّلت نفسه آثاراً عميقة لم يشفَ منها طيلة حياته أسىً وحزناً على شقيقه الصغير "أحمد" الذي حلقت روحه الزكية إلى أقنوم الشهداء في الملكوت الأعلى. وخرجت فريدة علي السيدة الفاضلة "أم الشهيدين" بعد أن سفعت النار وجهها وأحرقت أهدابها وجفنيها فعانت من جراء ذلك آلاماً وتباريح ممضة طوال حياتها.في ذلك المساء من خريف عام 1960م وستين وتسعمائة وألف ميلادية استشهد /300/ثلاثمائة طفل قبل أوان الشهادة وقبل أن يكلفوا بها، لحكمة إلهية تعجز عن إدراكها عقولنا وسر لا تحيط به ألبابنا. ومهما يكن من أمر فقد كان استشهادهم من أجل حرية الشعب الجزائري واستقلال أرضه، واستعادة كرامته. إننا مهما تجاهلنا او تغافلنا عن الحقائق و أنكرناها ينبغي لنا ولكل جزائري أن نقر ونعترف بان لأولئك الشهداء الصغار منة جليلة وديناً أخلاقياً مقدساً في عنق كل فرد جزائري. لماذا لا يوجد في وهران او غيرها تمثال أو نصب تذكاري تمجيدا لأرواحهم الطاهرة؟والسيدة الفاضلة, التقية, الورعة الم يكن من حقها ومن الواجب الأخلاقي الملقى على عاتقنا أن يُصنع لها تمثال على غرار التمثال الذي نحته الفنان السوري "محمود جلال" للشهداء الصغار في أثناء إقامته في ايطاليا, عرفاناً بفضلهما الجم واعترافاًبنبلها و إنسانيتها وبسالتها النادرة... في بطون الكتب أسماء لامعة وسطور ناصعة عن نساء أجترحن  المعجزات في الشجاعة والتضحية والفداء وفي ميادين العلم مثل الخنساء وخوله بنت الأزور وجان دارك ومدام كوردي والمتصوفة التقية رابعة العدوية.فلماذا لم يرد لهذه البطلة اسمٌ في صحيفة أو كتاب على الرغم من الكثير الذي كتب عن فاجعة "السينما" ؟ ومما بسريّ بعض همومنا ويؤاسينا ويطامن لأْواء أسفنا لهذا الإهمال الذريع أن الأطفال الذين أنقذتهم السيدة "فريدة علي" لم ينسوها.  لم ينسوا أمهم المعنوية الأم الثانية, الأم التي لم تلدهم ولكنها وهبت لهم حياة جديدة....  وخلصتهم من براثن العدم.. أنهم ينظرون إليها وكأنها أمهم الحقيقة, وهم واثقون ومتيقنون من أنّ امهاتن لو كنّ حاضرات المشهد لما وضعن أرواحهنّ على اكفهنّ وتقحمنّ غمرات السعير مجازفات  بحياتهن كما فعلت "فريدة علي"  من اجل خلاصهم.كانوا يزورونها بين الفينة والفينة يحمدون صنيعها ويقدمون لها آيات الأمتنان ويشكرون لها. ولا تكون مناداتهم لها إلا بكلمة : يا أمي أو يا أماه... فتستقبلهم بلطفها المعهود وبشاشتها المعهودة ترحب بهم وتمسح برؤوسهم ... وتدعو لهم بالفلاح في حياتهم والعمر المديد... وربما تذكرت وليدها  الصغير الشهيد, فذرفت عبرة أو عبرتين ثم تحاول إخفاء ذلك عن أعين الزائرين الذين يفهمون عمق هذا الشجن فيتألمون ويصمتون على مضض لا يدركون كيف يخففون عنها ألمها ثم يمضون عنها وفي نفوسهم عزم على العودة كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.وهكذا كان دأبُ الصغار ... كانوا أوفياء بالعهد فإذا التقوا بها طاروا بها فرحا ومسرة وإذا خاطبوها هتفوا بكلمة "يادي Yadê  " أي يا اماه تضاهيها في العربية كلمة "أم" ثم غلبت عليها هذه الكلمة فصارت تعرف باسم (يادي  Yadê ). ولكن أي وفاء الكبار لهذه الأم المضحية المباركة؟. وأين إجلالهم لوقفتها الشريفة الرائعة تلك؟بعد نكبة "السينما " الرعناء رزقت "فريدة علي" بوليد, إذ أكرمها الله بصبي سُمي "إبراهيم" تيمنا باسم أبي الأنبياء لرؤيا رأتها إحدى قريباتها, وأحست أنها عُوِضت بهذا الوليد عن فقد شهيدها الصغير :"احمد" ولكنها لم تستطع أن تنساه وتمحو ذكره عن عقلها وفكرها.كان "إبراهيم" قدا غدا فتى يافعاً عندما لبى والده "إسماعيل عمي" نداء ربه, وكانت شقيقاته الأربع قد تزوجن فخوى البيت من قاطنيها ولم يمكث فيها سوى الأم التي كانت قد طعنت في السن و "محمد" الذي كان مدنفاً سقيماً بسبب ما لقيه من هول السينما, فوطّن النفس على الهجرة إلى دمشق حيث وافتهما المنية وماتا شهيدي غربة بعيداً عن الأهل والأصحاب .لقد ماتت المرأة العظيمة في دمشق و نقل جثمانها الطاهر الى مدينة الحسكة بجانب ضريح "فرحان" ابن زوجها ولكن هل علمت الحسكة أية آية إنسانية ترقد وتثوي في ثراها؟إنها "فريدة" بنت "علي حسكي" الرجل الكامل الرجولة, وزوجة "إسماعيل عمي" سليل مجدٍ عتيد وإباء كرام, الملازم لمجالس العلماء والمتصوفين, المحب لوطنه العاشق لأرضه, فريدة التي تشبعت بكل الحسنات  والفضائل التي الفتها عند هذين الرجلين النبيلين: فهل بعد فضلها زيادة لمستزيد؟إن السيدة الفاضل "فريدة علي حسكي" لم تلق في حياتها تكريماً يضاهي مآثرها ولم تلق اهتماما لائقا بها أفليسَ من حقها ومن الواجب علينا أن تكرّم بعد رحيلها لتكون نبراساً يستضيء به الأجيال ويتعلمون درساً في الإيثار والفداء وتنتعش النفوس بذكراها العابقة بالمودة والحب والحنان. ألا تستحق أن ينحت لها تمثال ينصب في الحديقة التي ينصب فيها تمثال الشهداء الصغار؟.
[1] - هذه الدار هي أقدم دار للسينما في المحافظة.[2] - كان البيت الأول ملكاً لصاحبه رشيد مهاجر، والثاني لـ محمد مهاجر والثالث لـ إيبو مهاجر.
سيدة فريدة علي (أم الشهداء) "قصة امرأة فاضلة" بقلم: الشيخ توفيق الحسيني
عن سما كورد

٩‏/١١‏/٢٠١١

يا الله
**يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ**
إذا اضطرب البحرُ ،

وهاج الموجُ ،
وهبَّتِ الريحُ ،
نادى أصحابُ السفينةِ :
يا الله.
إذا ضلَّ الحادي في الصحراءِ ..
ومال الركبُ عن الطريقِ ..
وحارتِ القافلةُ في السيرِ ..
نادوا :
يا الله.
إذا وقعت المصيبةُ ،
وحلّتِ النكبةُ ،
وجثمتِ الكارثةُ ،
نادى المصابُ المنكوبُ :
يا الله.
إذا أُوصدتِ الأبوابُ أمام الطالبين ،
وأُسدِلتِ الستورُ في وجوهِ السائلين ،
صاحوا :
يا الله .
إذا بارتِ الحيلُ ..
وضاقتِ السُّبُلُ ..
وانتهتِ الآمالُ ..
وتقطَّعتِ الحبالُ ..
نادوا :
يا الله.
إذا ضاقتْ عليك الأرضُ بما رحُبتْ ..
وضاقتْ عليك نفسُك بما حملتْ ..
فاهتفْ:
يا الله.
إليه يصعدُ الكلِمُ الطيبُ ..
والدعاءُ الخالصُ ..
والهاتفُ الصَّادقُ ..
والدَّمعُ البريءُ ..
والتفجُّع الوالِهُ ..
إليه تُمدُّ الأكُفُّ في الأسْحارِ ..
والأيادي في الحاجات ..
والأعينُ في الملمَّاتِ ..
والأسئلةُ في الحوادث.
باسمهِ تشدو الألسنُ ..
وتستغيثُ وتلهجُ وتنادي..
وبذكرهِ تطمئنُّ القلوبُ ..
وتسكنُ الأرواحُ ..
باسمه تهدأُ المشاعر ..
وتبردُ الأعصابُ ..
ويثوبُ الرُّشْدُ ..
ويستقرُّ اليقينُ..
الله :
أحسنُ الأسماءِ وأجملُ الحروفِ
وأصدقُ العباراتِ
وأثمنُ الكلماتِ
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ؟
الله ..
له الغنى والبقاءُ ،
والقوةُ والنُّصرةُ ،
والعزُّ والقدرةُ والحِكْمَةُ ،
**لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار**
الله :
فإذا اللطفُ والعنايةُ ،
والغوْثُ والمددُ ،
والوُدُّ والإحسان ،
**وَمَا بكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ**
الله :
ذو الجلالِ والعظمةِ ،
والهيبةِ والجبروتِ.
اللهم فاجعلْ مكان اللوعة سلْوة ،
وجزاء الحزنِ سروراً ،
وعند الخوفِ أمنْاً.
اللهم أبردْ لاعِج القلبِ بثلجِ اليقينِ ،
وأطفئْ جمْر الأرواحِ بماءِ الإيمانِ .
يا ربُّ ،
ألق على العيونِ السَّاهرةِ نُعاساً أمنةً منك ،
وعلى النفوسِ المضْطربةِ سكينة ،
وأثبْها فتحاً قريباً.
يا ربُّ ..
اهدِ حيارى البصائرْ إلى نورِك ،
وضُلاَّل المناهجِ إلى صراطك ،
والزائغين عن السبيل إلى هداك .
اللهم أزل الوساوس بفجْر صادقٍ من النور ،
وأزهقْ باطل الضَّمائرِ بفيْلقٍ من الحقِّ ،
وردَّ كيد الشيطانِ بمددٍ من جنودِ عوْنِك مُسوِّمين.
يا ربْ.
اللهم أذهبْ عنَّا الحزن ،
وأزلْ عنا الهمَّ ،
واطرد من نفوسنِا القلق.
نعوذُ بك من الخوْفِ إلا منْك ،
والركونِ إلا إليك ،
والتوكلِ إلا عليك ،
والسؤالِ إلا منك ،
والاستعانِة إلا بك ،
أنت وليُّنا ،
نعم المولى ونعم النصير.