١٧‏/٢‏/٢٠١١

كنا نمشي في طرقات وعرة، ومشجرة، في وديان عميقة، على الصخور العالية، إلى الاماكن البعيدة... كنت أنا وصديقان لي، ومعنا كلابنا. حملنا بنادقنا على اكتافنا، وتخنصرنا بالزنار، ارتدينا القفازات في ايدينا وفي أقدامنا أحذية قوية متينة، وجوارب صوفية تقينا من برد الشتاء، ونرتدي الثياب الأنيقة الشتوية، وكان فصل الشتاء في الأربعينية، نقصد جبل -منجل- لصيد الخنازير. لم تكن هذه المرة الأولى التي نسافر فيها، بل سافرت عدة مرات في هذه الطريق، أصبح الصيد حاجة ملحة، ورغبة مميتة تجري في دمائنا، تسكرنا، نركب الطرقات كالمجانين، لا نستطيع التخلي عنها. كنا نمشي في النهار، وننام في المغارات ليلاً. بعد ثلاثة أيام اقتربنا من الجبل، وكان الوقت مساءً، والجو شديد البرودة، تعبنا كثيراً، واقتربنا من مغارة -كوف-، عادة عندما نصل إلى المغارة، نشعل النار بسرعة كي نتدفأ ونرتاح.وصلنا إلى المغارة، لكن للأسف، كانت مهدمة لسوء حظنا، ولم أعرف مغارات أخرى في هذا المكان، ولم نستطع الرجوع في الظلام لأن الطرقات وعرة، والرجوع مستحيل، فالحيوانات الضارية والمتوحشة كثيرة جداً، احتمينا بصخرة كبيرة، كان المكان ضيقاً جداً، بحيث لم يسعنا وكلابنا، بصعوبة بالغة احتمينا بالمكان وأشعلنا النار.هبت ريح عاتية بعد العشاء مباشرة. . . انهمر المطر رذاذاً، وازدادت الريح والمطر كلما توغلنا في الليل، انطفأت النيران، ابتلت ثيابنا، ارتجفنا من البرد، وارتجفت الكلاب، ووضعت أذنابها بين أرجلها، ورفعوا رؤوسها عالية، وارتفع نباحها، يبدو أنهم ينذرون بنتيجة سيئة أو كارثة محتملة.بدأت العاصفة تزداد كلما اقتربنا من منتصف الليل، وعندما كانت تلمع الدنيا، كنا نستطيع رؤية الأشياء. نخاف أن تهاجمنا الحيوانات البرية، ولن نستطيع أن نتخلص منها.خفت شدة الرياح بعد منتصف الليل، توقف المطر تماماً، تفرقت الغيوم السوداء، ظهرت نجوم في بعض الأماكن من السماء، دبت الحيوية والنشاط فينا، تحرك الدم من جديد في عروقنا . لكن لم تمض فترة ، حتى تجمعت الغيوم الناصعة البياض بدلاً من الغيوم الداكنة، وبدأت تثلج.هطل الثلج مع بداية الفجر، وأصبحت الدنيا بيضاء، كان بإمكاننا أن نرى أمامنا، أردنا أن نرجع إلى الوراء، ونحتمي بمغارة ما. اوشكنا أن ننهض، وفجأة هجم علينا قطيع من الخنازير... الخنازير التي كانت تهرب منا مجموعات وقطعان، لكن الآن تهاجمنا بشراسة.نحن الأصدقاء الثلاثة، وضعنا ظهورنا إلى بعضنا، وصوبنا بنادقنا باتجاههم، وقد ساعدنا كلابنا أيضاً، كانوا يهجمون على الخنازير. بدأت معركة كبيرة، انتهت الطلقات، وازداد عدد الخنازير رغم أننا قتلنا الكثير منهم. كانت يهاجمنا جماعات، ملبية نداء بني جنسها، يزداد تساقط الثلج، ثم بدأت الزوبعة الثلجية تلفنا، واشتدت العواصف. ظهرت من جديد الخنازير والحيوانات المتوحشة والمفترسة، هجمت علينا، وعلى كلابنا تطلب الطعام، فهي جائعة، بعد أن نفدت طلقاتنا، علقناحرابنا ، قاومناهم فترة باليد، لكن لم نستطع المقاومة. وقع كل واحد منا في مكانه، قُتل كلابنا الثلاثة بعد ذلك سحبت الحيوانات المفترسة جثث صديقين لي على الثلج. كنت في حفرة، امتلأت الحفرة بالثلج، فتشوا عني، غبت عن انظارهم. وقد غطاني الثلج تماماً.يزداد الثلج فوق ظهري، ويثقل كاهلي، لم أستطع التحرك، لكن هذه المرة، لم أشعر بالبرد، وكأنني ارتديت الفرو الصوفي، كان جسمي دافئاً. كنت داخل كفن طبيعي أبيض. لا أمل في النجاة. عندما يكون المرء أمام الموت، يتذكر بكل تأكيد نهاية حوادثه التي تمر كشريط سينمائي أمامه. تذكرت أشياء كثيرة وأنا في تلك الحالة. لاسيما كنت اسمع دائماً صوت المرتل قبل /20/ سنة عندما كنت صغيراً -الله حق. . مولاي حق. . . الموت حق-.كان الصوت صوت الدرويش ، يلبس زياً أخضر، يظهر كل سنة مرتين أو ثلاث مرات ، وفي كل مرة يظهر فجأة دون سايق انذار، اسمر اللون، طويل القامة، ذقنه حمراء. . . علبته التي يضع على ظهره خضراء وأيضاً عمامته. كانت تتدلى من رقبته سبحة خضراء حباتها كبيرة، وعلى كتفه علبة من خشب جوز الهند، وفي يده عصا طويلة، وفي رأسها حديدة. يدور في الأزقة ويصرخ بصوته الحزين -الله حق.. مولاي حق.. الموت حق- كان الناس يجلبون له أطفالهم، يمسد بيده المباركة على رؤوسهم، كان بإمكانه أن يدخل كل البيوت دون أن يردعه أحد، وينام في أي مكان أو بيت يريده. وأن يأكل من البيت الذي يرغبه. كانت جدتي، تحترمه كثيراً، تجلب له الطعام، وكان يمسد يده على رأسي، يقرأ شيئاً ما بهمس وينفخ حولي. كانوا يطلقون عليه -الخال خضر- يظهر فجأة ، ويختفي فجأة، بإمكانه أن يلف العالم كله في يوم واحد. كنت أتضايق تحت الثلج، يسيل العرق من جسمي. تمر في ذاكرتي تلك المشاهد والمناظر، وخاصة منظر الدرويش. . تربيت في بيئة دينية، كنت أعتقد أن الدرويش الذي يلبس الأخضر، أو -ملا خضر- سينقذني من الموت الأكيد، أو يساعدني. الدرويش رجل الكرامات والمعجزات، والذي يستطيع أن يلف العالم كله في يوم واحد، يستطيع أن يلبي صراخ مريده القديم، وينقذني من هذه الضائقة. كنت أفكر بهذه الأمور. سمعت صوتاً هاتفاً يقول لي: -لاتخف... أنا قادم إليك- نظرت إلى الأعلى، طبقات الثلج تراكمت على ظهري، رأيت من الأعلى اسراباً كبيرة من الغربان، تتجه نحوي. ثم حطت بجانبي.انتعشت، ردت روحي بأمل ملا خضر، قلت ربما أرسله الدرويش. لكن للأسف كان غراباً طويلاً جداً رأسه مدور كبير، وعلى صدره ريش ناعم، لايشبه الغربان. خاب ظني. . . إنه غرابٌ آكل الجثث. . . يشم الرائحة قبل أن يموت الانسان، هاهو قادم إلى جثتي. لكن هذا غراب أبيض، ذو هيبة وجلال ووقار، ليس غراب آكل الجثث، مسد بمخالبه الفولاذية على رأسي بعطف وحنان، رفعني على جناحيه الحديدية، وطار بي إلى السماء، عندها لم أكن أخاف من الموت. كنت أنظر إلى الدنيا، نظرة تفاؤل.عندما فتحت عيني لم أر نفسي على اجنحة الطير، بل كنت في بيتي وعلى فراشي، يرفع الطبيب ذو اللباس الأبيض رأسي ، ويضع الدواء في فمي، نظر أقربائي الجالسون على الطرفين اليّ بخوف، والدموع تسيل من عيونهم، ضحك الطبيب وقال: الآن لاتخافوا. . . لقد مزق الكفن-.عاد الوعي إليّ، كنت مريضاً منذ عشرين يوماً بحمى التيفوئيد.
صيد الخنازير: قدري جان
مجلة روناهي العدد /16/ السنة 1943 الصفحة 5، 6، 7، 8.
اللوحة: الفنان حسو حسكو