٢٢‏/١‏/٢٠١١

ابتعدت عن عامودا بعد ثلاث سنوات من حياة المرارة والفرح. تحلق بعض اصدقائي الأوفياء وتلاميذي الأمناء حول سيارتنا. لم أرَ بعض الزملاء ، يعلم الله! لم يكونوا خائنين، ربما لم يأتوا حتى لايروا مشهد الفراق والوداع المؤثر، ربما لا يستطيعون أن يتحملوا هذا . ضممت الاصدقاء والدموع تنهمر من عيوننا، شددنا أيدينا بحرارة وقلوبنا تقول: -سنبقى دائماً أصدقاء وأخوة-. عندما تحركت السيارة، سالت دموعي بدون شعور مني، من جهة لفراق أصدقائي ومن جهة أخرى بسبب ألم الجرح الذي كان في مؤخرتي إنه يؤلمني كثيراً، كانت روحي تهتز، لم أعرف أن ألم هذا الجرح يطول كثيراً. ترى ماذا كتب القدر لي ؟. مضت الأيام بحلوها ومرها في مدينة عامودا. أرى نفسي في النهاية قبيح المنظر. عندما كنت أذهب إلى المدرسة وأعود إلى البيت كان يوجد على الطريق كلبة وجروان ، كانت الكلبة تعوي وتهجم علي، وكان أحد الجروين ذئبياً وأعور، ومحروق الوجه والجرو الآخر مدور الوجه . يبدو أنه مصاب بمرض الزهري. كان ينبح فيخرج صوته مثل السلحفاة التي غصت باللبلاب. كان هذان الجروان يريدان أن يقطعا طريقي دائماً. لم أكن أهتم بهما. لم أتذكر يوماً أن أرمي بعض الطعام لأتقي شرهما. في يوم من الأيام هجم فجأة علي جرو، ربما كان أعمى وعضني من مؤخرتي. طلب مني الأطباء أن أغيّر الجو. وأشاروا علي بمنطقة -عين ديوار- خرجت سيارتنا بهدوء وعلى مهل من عامودا، ثم أسرعت. رفع الأصدقاء أياديهم حتى غابوا عن نظري. كانت السيارة تسرع كلما تقدمت. كان من الجهة اليسرى للطريق جبال كردستان ومن الجهة اليمنى سهول الجزيرة، وسيلان سبخة عربستان، وكان المطر ينهمر رذاذاً. كان السائق يقول: -أدعو الله ألا يسقط المطر بغزارة حتى نصل إلى القامشلي. حفظنا الله من الوحل والفيضانات، مازال المطر خفيفاً. عندما وصلنا إلى القامشلي كان الماء يبلل وجوهنا. ذهبت للطبيب لينظف جرحي ويضمده من جديد فأعطاني بعض الأدوية. وصلنا إلى ديريك في اليوم التالي، نزلنا عند صديق لي. كانت أحلام تلك الليلة مرعبة ومخيفة حتى أنني استيقظت مراراً فزعاً، وجرحي مازال يؤلمني. في الصباح فتشنا عن سيارة لكننا لم نجدها. فركبنا الأحصنة ولجأنا إلى منطقة -عين ديوار-. وصلنا بعد ساعتين، استقبلني هناك ثلة من الشباب منهم فتاح ملا صادق ومحمد ملا أحمد، صافحوني بفرح وحماس وشدوا على يدي بحرارة. وصلت إلى عين ديوار في الأول من آذار كان كل واحد يقول لي: حظك جيد أن تأتي في بداية الربيع، ربيع عين ديوار مثل ربيع زوزان -مصايف- كردستان. وكلما صادفت شخصاً يكرر علي بهذا الحظ وهذه النعمة، لكن للأسف لم يكن هكذا، لم يكن حظي جيداً! فقد انهمر المطر شهراً وثلاثة أيام ليلاً ونهاراً. ما إن وصلت الى المدرسة حتى واجهتني ألف مشكلة. طلاب المدرسة مثل طلاب عامودا، غالبيتهم كانوا من الأكراد. لذا تعرفنا على بعضنا، وأحببنا بعضنا بسرعة. خلال شهر لم أستطيع رؤية شيء حولي، المطر دائم في الليل والنهار. أصبنا بمرض الروماتيزم وتصدأ داخلنا، وكان مرضي ينازع، لم أصدق أن جرحي سيشفى. بعد شهر أشرقت الشمس من جديد، واخضرّت الأعشاب، وتفتحت الورود والأزهار الملونة. هذا هو ربيع عين ديوار، ربيع وطني. في الجهة المقابلة تشمخ جبال جودي، موطن النبي نوح وجنوبها يجري نهردجلة ، أمام النهر تظهر جزيرة بوطان موطن مم و زين . هذه الأوابد التاريخية الثلاث تحفر في نفسي آثاراً عميقة. وتربط روحي بتراب تلك المنطقة. كان الأصدقاء والزملاء يقولون لي أيام المطر: لا تتضايق سيتوقف هطول الأمطار اليوم أو غداً، بعد ذلك سيأتي الربيع، سنذهب إلى جسر بافت للتنزه سترى أنه مكان جميل . خرجنا في نزهات جميلة. وذهبنا يوماً إلى جسر بافت فأخذنا الطعام وقضينا وقتاً رائعاً. يقولون أن هذا الجسر بني في زمن الأميرمحمد بك دست . إنه مكان رائع يجري دجلة تحت أقدامنا ويلوح برجا بلك أمامنا. وتذوب الثلوج شيئاً فشيئاً عن جبال جودي. بقينا حتى المساء. كان الصديق الجميل والبشوش دائماً محمد ملا يقرأ اجزاء من ديوان الجزري الحزين. يفعل كما الشحرور يشدو بحرية وانطلاق. عندما تم اغلاق المدارس للعطلة الصيفية فرحنا للراحة التي ننشدها بعد عناء ثمانية أشهر وحزنت لأنني سأعود إلى دمشق . كان يحز في نفسي أن أترك أصدقاء عين ديوار وعين ديوار نفسها. فقد قال شاعر: -عندما يبقى المرء في مكان ما، فإنه يرتبط بالانسان وبتراب المنطقة بخيوط خفية وعندما يريد أن يغادرها تشد هذه الخيوط قلب المرء وتؤلمه-. هذا حقيقة لا انكرها. عندما خرجت من عين ديوار مثل يوم خروجي من عامودا . فقد شعرت بغصة في حلقي وامتلأت عيناي بالدموع. تمر الأيام والشهور بسرعة هائلة فقد مضى على بعدي عن تلك الأماكن وأولئك الأصدقاء سنتان. لم أعد أخرج بل انظر حولي فأرى بدلاً عن جبال جودي سراباً خادعاً. لم أجد صديقاً يملأ الفراغ الذي تركه محمد ملا ـ جعل الله روحه في جناته ـ والذي تركه تلميذي برو ورمو. ومن ذكريات تلك الأماكن بقي شيء واحد معي آثار أسنان ذلك الجرو في مؤخرتي ، الجرو الذي لا صاحب له، الجرو الفلتان.
الأيام الماضية: قدري جان -  الجديدة 10 ـ 11 ـ 1942 *مجلة هاوار العدد /39/ السنة 1942 الصفحة 6، 7، 8.

اللوحة للفنان بشار العيسى.