١٩‏/١‏/٢٠١١

ليس غريبا أن يمدّنا الشمال السوري بأسماء وقامات تشكيلية عدّة, من عمر حمدي, وصبري روفائيل, وحسن حمدان, وبشار العيسى, وبرصوم برصوما , إلى أحمد الأنصاري, وعمر حسيب, وزهير حسيب, وخليل عبد القادر. فذلك الشمال السّاحر بشفافيته, وسهوله, وسمائه الملتبسة, ومواسمه العامرة والضنينة, وفلاحيه الطيبين الماكرين, وغناه, وفقره, ومكابداته, هو وريث حضارات وديانات وأعراق تفاعلت وتعايشت على أرضه منذ القدم, وما زالت تأثيراتها فيه حتى اليوم! وتأتي تجربة الفنان أحمد عكو لتعلن عن نفسها بقوّة في زخم الأسماء التي احتلت المشهد وأصبح لبعضها وقعه ورصيده الفنّي الخاص في ذاكرة الحياة التشكيلية السورية, بل العربية والعالمية أيضا. ولد الفنان أحمد عكو في العام 1955م, في بلدة عامودا التي ما أن تُذكر حتى يذكر معها سليم بركات صاحب «الجمهرات», و«سيرة الصبا», و«هكذا أبعثر موسيسانا», كما يذكر الشيخ عفيف الحسيني وابنه الشاعر المعروف محمد عفيف! وفي ظلال كارثة حريق دار السينما, وأغاني الحصاد, والأعراس, ووقع المعاول والرفوش, في الصباحات النديّة, وحكايا المهربين, والفارّين, والعشّاق, وأهل الخطوة والكرامات في ليالي الشتاء, عاش طفولة بائسة لكنها غنيّة بذكرياتها, وطقوسها, ومخزونها الروحي, وصور بيئتها الاجتماعية والسياسية التي كانت تشهد حراكا قوميا ويساريا عارما في تلك الآونة. من عامودا انتقل إلى الحسكة التي بدأت تتنامى عمرانيا وزراعيا وتجاريا منتصف السبعينيات وتأخذ مكانها ودورها الاقتصادي بوصفها حاضرة الجزيرة السورية. وفي «المحشوش» على الطرف الغربي منها, حيث الخابور والنواعير والبساتين استقرّ مع أسرته الفلاحيّة, في بيت ريفي جميل وواسع, تردد عليه معظم الفنانين والشعراء متأثراً بجمال الطبيعة من حوله, زاد وعيه وصقلت موهبته الفنيّة. تابع دراسته الجامعية طالبا في كلية الآداب/ قسم اللغة العربية بجامعة دمشق, وتخرج فيها عام 1976, ولم ينقطع طوال هذه الفترة عن دراسة الفن أيضا دراسة ذاتية, ومتابعة الحركة التشكيلية, والمشاركة في عدد من المعارض الجماعية. وكان تردّده على بيروت فرصة للّقاء بسليم بركات, ومحمود درويش, ومارسيل خليفة, وخالد الهبر. كما كان لتردده على حلب ومقهى القصر بشكل خاص, وعلى اللاذقية بمفرده حينا, وبصحبة صديقه الروحي الفنان خليل عبد القادر حيناً آخر, دور كبير في تكوينه علاقات واسعة مع عدد من الشعراء والفنانين مثل: الشاعر حامد بدرخان, والفنانين عنايت عطار, وكاظم خليل, والشاعرة مها بكر. وفي العام 1995م أقام معرضه الفردي الأول, ثم معرضه الفردي الثاني في العام 1996م في الحسكة, ومعرضه الثالث في العام 1997م في القامشلي, ثم معرضه الرابع في صالة نقابة المعلمين في الحسكة أيضا عام 1998م.وأصبح عضوا ًفي نقابة الفنانين التشكيليين. واقتنيت أعماله من جهات رسمية وشعبية داخل وخارج القطر. تتجاور في رأس الفنان أحمد عكّو تراتيل القديسين وأفكار التنويريين, مع جنون المبدعين ومزاجهم الناريّ المتقلّب! فقد عاش حياة تنوس بين الشعر والتشكيل, وبين الانفلات والصخب العاطفي والمجون, والالتزام والهدوء واللهاث وراء لقمة العيش الذي وقف حاجزا أمام إبداعه عشر سنوات! وكان لأسماء حميمة وناصعة,لاسبيل لذكرها ، وما عاشه من صداقات وتجارب وانكسارات وقعها ورنينها الخاص في روحه ومنابع استلهامه لأعماله الفنيّة. تشكّل الأنثى الريفيّة بقوامها ووجهها وتعبيراتها وتجليّاتها المتعددة المرتكز الواقعي الرئيس في لوحاته باتجاهيها: التعبيري والانطباعي, وهي تنهض على خلفية لونية تجريدية جريئة بألوانها المتناغمة هارمونيا بين الحار والبارد, ومنفتحة على التأويل والدلالة. وهو مولع بتوظيف «الموف» وتدرّجاته المختلفة سواء في الجسد وحركته وخلفيته أم في الورود والأزهار التي تكاد لا تغيب عن اللوحة سواء كعناصر مكملة لها أم بوصفها طبيعة صامتة مستقلّة بذاتها.وهذا ما أشار إليه( محمد عفيف الحسيني) بشهادته عن أعماله:(( يرسم أحمدعكو وينام بجانب زهوره اليانعة : هو عاشق في كل الأحوال . يرتب الألوان وكأنه يأخذ الباقة الزيتية إلى الحياة )) . كما يميل إلى استخدام اللون الترابي وتدرّجاته المتناغمة مع تدرّجات ألوان السهول في الجزيرة السورية. إن الوجوه في تجربة أحمد عكو تبدو موشّحة بالأسى, والحزن الدفين. إنها في حالة انتظار وانكسار, أو لهفة وحنين! وجوه ترتهن لشروط واقعها القاسي ولا تقوى على مغادرته, فتأتي تكوينات أجسادها وبخاصة النهود أشبه ما تكون في حالة طيران وتوق إلى الانعتاق. وتشي تلك الوجوه والأجساد وعناصرها المكملة من الأزهار والسهول الممتدة في زرقة السماء بعالم بريء وفطري لكنه مسحوق الرغبات ومهمّش الإرادة. وفي هذا السياق جاءت شهادة((خالص مسور)):الفنان التشكيلي أحمد عكو يُظهر نفسه باقتدار فناناً يعَبر بصدق عن تجربته الفنية وبعمق عن حالة من التفاعلية والتماهي الشخصي مع لوحاته الساحرة...حيث تطغى على فلاحاته مسحة من الحزن الشفيف ارتسمت على وجوههن . الفنان يجيد استخدام الفرشاة في لوحاته جامعا بين الانطباعية والتعبيرية والرمز في وحدة عضوية مع فضاءات اللوحة الشاعرية بوحدة وانسجام . مظهراً براعة وذكاء كبيرين في تصوير أحلام أو بؤس وشقاء المرأة الريفية )). ويأتي التركيز على العيون بوصفها نوافذ الجسد ليكشف عبر اتساعها ونظراتها الموحية ذلك الشجن المقيم, وذلك الشوق الخفيّ لحبيب أو أخ أو رجل طال غيابه وانتظاره. ويُعنى الفنان بتفاصيل اللباس والحلي والإكسسوارات التزيينية من الأطواق والحلق وربطات الشعر المستمدّة من البيئة المحليّة وتراثها الشعبيّ, والتي تعمّق الإحساس بخصوصية اللوحة لديه, وخصوصية أجوائها ومفرداتها التشكيليّة. إن الفنان بقدر ما يبدو هنا منشغلا بموضوعاته(عازفة البزق, حاملة الأزهار, طبيعة صامتة, نافذة, ورود للغائب), فهو منشغل في الوقت نفسه بتقنياته وخطوطه وألوانه التي يعوّل إيصال رسالته من خلالها إلى المشاهد. ومن هنا يأتي التنويع على الموضوع الواحد أحيانا بتقنيات مختلفة, كما في لوحات الأنثى حاملة الأزهار, التي تبرز بمفردها, أو مع صديقتها, أو ضمن مجموعة, في وضعيات متباينة, وتجليات ودلالات مختلفة, ما بين الوجد, والأسى, والرغبة, والانتظار المرّ, والتضرّع إلى الله! وكأني به يجسّد ما يقوله شعرا في تلك اللوحات: «أيتها المُترعة بالحنين أركض إليكِ تحت شمس النهار مفعماً بالبسمات والأزاهير أحضنكِ وأنت تنئين داخل الغرف المغلقة أزرعك بين سطوري حلما يلغي كلّ صراخاتك موجع صهيلُ أحزانك أوّلَ الثلج». لم تلقَ تجربة أحمد عكو من الاهتمام والمتابعة والنقد ما لاقته تجارب جيله, وذلك يعود إلى عمله بصمت وخجل من ناحية, وإلى بعده عن مراكز الإعلام ودوائر الضوء وفنون التسويق من ناحية ثانية, وإلى انشغاله طوال السنوات الماضية بهموم أسرته وأبنائه الذين باغتوه كبارا في غفلة من انهماكه بالحياة والفنّ من ناحية ثالثة. إلا أن الإنصاف يقتضي وضع هذه التجربة في سياقها وتسليط الضوء عليها بعد أن اختطت منحى خاصا بها, وأصبح لها أسلوبيتها ومفرداتها وألوانها التي تدلّ عليها في زحمة التجارب التي تشهدها الساحة التشكيلية. وما هذه القراءة الأولية لمعطياتها إلا الخطوة الأولى في توثيقها وإلقاء الضوء على مبدعها.
نذير جعفر : أحمد عكو..رؤية واقعية..ولمسات تعبيرية.