٢٩‏/١١‏/٢٠١٠


الآن والألم يستبد بي ويشتد، والشوق يعتصر قلبي، بعد أن فقدت البيت هناك وفقدت بؤس" قاميش" الجميلة ، استفقدتك صديقي والآخرين معك، أتذكر أنه كان لنا في الماضي أشياؤنا الجميلة والأمنيات، أحلامنا المتخمة وأغانٍ كنا نرددها على صدى قرقعات علب الدهان الفارغة الممتزجة بأصوات أغطية الطناجر التي كنا نرصّفها، لازالت صورة وجهك وهي معفّرة بالتراب والرماد محفورة في ذاكرتي، كنت أنا من فعل ذلك بك، والدتك وبختني حينها وطلبت من أمي أن تؤدبني لأنني قليل الأدب، كم كان ذلك رائعاً، قطع الخبز المدهونـة برب البندورة، لعبة"القحفكا"*التي كنا نلعب بها مع بنات الحارة بكل براءتنا، رائحة خبز التنور في الصباح الباكر، أريج الأرض في يوم ربيعي ماطر، رائحة العشب الأخضر، "القازي مــازي" ** و"البلوبلو"*** صغاراً كنا هناك في كل شيء، كنا خليطاً من كل تلك الأشياء الجميلة، صارت الآن جزءاً منا، ربما في الماضي لم نكن ندرك معناها، لربما كنا نجهل عظمتها، لكن فعلت فعلتها فينا وها نحن أسرى إدمانهـا، الزمن صديقي هنا، تحول إلى غول يريد أن يزيل ويمحي كل ما يمت إلى الذاكرة بصلة، والسنونَ بما تحمله من أذى تجب الماضي من خصيته، حبنا الطفولي للأرض ذلك الحبل السري الحميم صلـة الوريد تلك، منذ أيام قليلة فقط أدركت ذلك الارتباط الغريب والبعد الأزلي بين رائحة الأرض عندما كنا نشتمُّها وإحساسنا آنذاك، ثدي أمي، حليبها، غيرتي من أخي الصغير.هكذا وضعني" رشو" من خلال رسالته تلك بكل أناقة في أدق تفاصيل الألم بعد خمس سنوات من رحيله، ذلك الهاجس الذي كان يؤرق مخيلته لياليَ طوالا عندما كان هنا، العبء الثقيل الذي كان يحاول الهرب منه في الماضي، كان يلاحقه، كابوس ثقيل الظل، لم يشأ تركه حتى قدم في ذلك الليل الدامس، حيث كان وابل من المطر الغزير والرعود يفرغ جام غضب السماء على مجرى يومياته المفعمة بالتعاسة المدقعة، أشياء كثيرة اجتمعت كلها واتفقت على بذر فكرة الهجرة في داخله، لحظات الخوف من القادم أولاده الثلاثة وسراب أمل، أتذكر أنني كثيراً ما كنت أناقشه حول ما قاله:"ونوس" في معرض بصيص الأمل الذي يرفل به حرير داخلنا فكان يعود ليقول:نعم" نحن محكومون بالأمل".أتذكر أنني جلستُ وقتها قرب المنقل الذي أمسى حينها الإرث الوحيد لمنزله الصغير، حيث كان إلى أمد ليس ببعيد مكتظاً بالكتب وقناني البرندي المزينة بإتقان من قبل زوجته، فقد كانت وضعت فيه حبات من القمح الأصفر وأخرى من العدس الأحمر وشيئاً من الفلفل والنعناع الأخضر لتعطي لوحة بألوان الطبيعة غاية في الجمال، كانت صورة الشاعر"أحمد خاني"هدية والده في زيارته الأولى"لتركيا"تتوسط صدر غرفة الجلوس، وبعض من الدموع وحالات الإحباط الكثيرة هنا وهناك، صمت تلك السنين العجاف من تعبه في إكساء ذلك المنزل البسيط بأخشابه المرصوفة وأعمدته الرثة، لون صباغه الهادئ وأنين الطاولة المركونة في الزاويـة تحت ثقل الكتب المتراكمة فوقها دون ترتيب.في ذلك المساء البائس حقاً، حضر أبو محمد بعد أن لملم نفسه في هروبه المشين من المطر، وبعد أن انتظمت دقات قلبه الجبان.أتذكر حينها تفاصيل الحديث الذي دار بينهما بكل دقة لما تركه في نفسي من أثر على مجرى حياتي كلها.قال"رشو"له حينها:المنزل أمامك تفقده كما تشاء، وكن على يقين إن أخذته كأنك تأخذ قطعة من جسدي، لكن ما باليد حيلة، فكل زاوية من زواياه تحمل الكثير من الآلام من الذكريات الجميلة، بنيناه أنا وزوجتي وأولادي الصغار، شيّد بأياديهم الغضة وضحكاتهم وتعبهم، بأثوابهم التي تمزقت جلّها في نقل الأتربة.حينها بدا على أبي محمد الاستغراب، وأخذ ينشف قطرة المطر التي علقت على أنفه قائلاً:"رشو" البيت مازال ملكك وإن كنت نادماً، فإننا مازلنا في البداية، ولا تنس بأنك تعطيني هذا البيت المترهل الطيني مقابل تسفيرك إلى السويد فلا تظن أنك تهديني إياه على روح أمواتك، ثم إن البيت وحده لا يكفي ولن يغطي إلا جزءاً من التكاليف.علامات الذهول والخوف بدت حينها على"رشو" واحمرت عيناه العسليتان، تجمدت كل حواسه، وكأن الدماء توقفت في عروقـه، شعرتُ بالخوف عليه حينها، وضعت يديّ على كتفـه:ماذا جرى لك؟ طوّل بالك، نظر إلي مشدوهاً وكأن لسان حاله يقول:كنت متردداً في إعطائه البيت ثمناً وإذا به لا يكفي، ويطلب المزيد!خرج "رشو" عن صمته قائلاً:كم المبلغ الذي تريده فوق قيمة البيت؟أخرج أبو محمد دفتراً صغيراً وأخذ يتمتم بحركات مسرحية بالحساب، النوم في مصر يومين، الجواز المزور، أجرة الطريق، ثمن بطاقة الطائرة، ثم استأنف قائلاً:أخي سأراعيك باعتبار أنَّ وضعك المادي ضعيف، وليكن مائة ألف فوق ثمن البيت.صاح"رشو" فجأة في وجهه و قد أمسكه من ياقته:مائة ألف ليرة سورية أخرى يا نصّاب؟ و تقول أراعيك.سحبته من يده، أحاول تهدئته، وقد استشاط غضباً، حتى برزت العروق في جبينه، وأخذت يداه ترتجفان وازداد جحوظ عينيه، وأبو محمد كالطير المذبوح يسحب نفسه من بين يديه و يصرخ قائلاً:- إن كنت تموت على الليرة، إذن لماذا تضرب على صدرك وتقول سفّرني؟ أكنت تعتقد أن السفر هين يـا أشقر؟ قالها مستهزئاً.لأول مرة أدقق في سحنة أبي محمد، أنفه الطويل المعقوف كمنقار ديك حبشي، صلعته المخرومة في أجزاء كثيرة منها، جمجمته الكبيرة، بريقِ عينيه الثعلبيتين، قامته القصيرة الموحية بالمكر، حفيف صوته، دوي الشهيق والزفير الذي ينبعث من منخاره المثير للاشمئزاز.هَدَأَ"رشو" قليلاً، فبقدر انفعاله السريع وثورته، كان كذلك هدوْءُه وانفراج أسارير وجهـه، وقال له بعد أن اعتذر عن انفعاله:- هناك مثل قديم يقول:((شو اللي رماك على المر قال:الأمر منه))، تحمّلت الفقر وأنا الذي معي إجازة في الاقتصاد وقلت ليس عيباً، تحمّلت مرض "شيرو".أخذ حينها يجهش في بكاء مرير، مستأنفاً:كان يذوب أمام عيني كالشمعة يوماً بعد يوم وأنا عاجز مقيد مكتوف الأيدي، أمام معالجته من جفاف كليتيـه، لم تستقبله المشافي الحكومية كونه مجرداً من الجنسية، علماً أن قبر جده الشهيد يرفل بظلال سنديانة عمرها مائـة عام. وقلت:شدة وتزول حتى فقدت ابني، لكن أن أفقد إنسانيتي، أن أهان كل يوم، أن أتهم بقوميتي، أن أُذل، أن أرى العديد من أبناء جلدتي قد اُفسِدوا، هذا ما لا طاقة لي به.توجه نحو النافذة التي كان المطر يتسرب من حوافها إلى الغرفة ورائحة الرطوبة تمتزج بالسيجارة التي أشعلها أبو محمد، فتح مصراع النافذة والمطر يلفح بغزارة وجهه النحيف وقد أغرق شعره الأجعد بالبلل.- على الرغم من كل المحبة لهذه الأرض، والألم الكبير الذي سيجز في قلبي نتيجة فقدان أعز وأحب الناس، على الرغم من أنني سأشتاق إلى رائحة التراب في مطر آذار وكذلك صفار السنبلة في حزيران، هدير محرك المياه على البئر الارتوازي، تلك الأشياء كلها ستجعلني في كثير من الأحيان أجهش في البكاء هناك لكن.توقف برهة وهو يبتلع الغصة بصعوبة.- يجب أن أرحل.نظر إليه أبو محمد وعلامات الاستهزاء والسخرية واضحة على محياه.- طالما أنت وطني لهذه الدرجة لماذا الهرب؟ إذن ابقَ أنت وقيمك!ربما يشاد لك في المستقبل تمثالٌ وتصبح بطلاً، وأخذ يضحك بصوت عال.كم أحسست صدق مشاعر"رشو"، لم أعهده جدياً لذلك الحد من قبل، نعم كان يشكو الحال أينما ذهب ويلعن الوضع في اليوم ألف مرة، لكنـه يعود إلى بشاشته وابتساماته بذات السرعة، ولكن يبدو أن الوضع وصل به إلى حد لم يعد يستطيع الاستمرار، حتى بدت علامات اليأس جلية عليه.عندما خرج أبو محمد بعد أن عقدا الاتفاق على ما عرضه، تقدم"رشو" نحوي والعرق يتصبب منه، واضعاً يده فوق كتفي:- لا أدري لماذا سردت تلك الشجون أمام ذلك التافه أبي محمد؟ على الرغم من معرفتي به كشخص مشبوه وجشع يستغل الناس وحاجتهم ناهيك عن ارتباطه بمن لهم المصلحة في ترحيلنا، أجزم أنه كالمنشار يأخذ من التعساء أمثالي، وهم أيضاً يدفعون له مبالغَ لا بأس بها على كل رأسٍ يهجّرها، لكن ليعلم، وليعلمهم إذا أراد أننا لسنا أغبياء، ندرك ما يحاك ضدنا و من حولنا، وما ينصب من شراك لنا، لابد أن يأتي ذلك اليوم الذي يعيد الأمور إلى نصابها، أمي كانت تقول دوما" الكفر يــدوم والظلم لا يدوم".خَرجتُ من متاهة ذلك الشريط الذي مر أمام عيني والذي جسّد شهادتي على تفاصيل الألم وقتها، قبل سفر"رشو" بأسبوعين على ما أعتقد، أكملت الوجه الثاني من الرسالة لأجده يقول:لا يسعني إلا أن أقول فقدت أشياء كثيرة وجميلة، ولم أكسب سوى رحلة العذاب من تلك"الهجرة"من هروب واختفاء من مطاردة وخوف من لا حلٍ اتخذته والكثيرون أمثالي حلاً.صدقني أيها العزيز:هي مشاعر لن أوفق في التعبير عنها، كل ما أستطيع قوله هو أنني الآن في شوق إليكم جميعاً وأرغب في البكاء الكثير.تحياتي لكم.طوَيتُ الرسالةَ مع تلك الأيام وأخرجتُ عودَ الكبريت، أحرقتها بعود واحد دون ندم، الرماد تطاير مع أول نسمة هواء بعد أن فتحت النافذة،علب الدهان الفارغة كانت تقرقع في الخارج أمام ولدي"جوان" و"رودي"وهما يغنيان!
عامودا 1988
المحامي جلال سعيد : رسالـة ..قصة قصيرة
عن كميا كوردا
اللوحة للفنان دلدار فلمز