٢٧‏/١‏/٢٠١٠

إبراهيم حسو: دمر حبيب في نصوص «ما أسهل الهروب لولا الأبواب المفتوحة»- عين تقرأ كف العالم. لا يبدو دمر حبيب في انشغاله الأخير ( ما أسهل الهروب لولا الأبواب المفتوحة )  مفتوناً بالشعرية الدارجة هذه الأيام وهي كتابة ( القصيدة اليومية ) قصيدة التفاصيل و لا يوليها أي ألتفاتة تذكر فهو منجذب إلى عوالم أخرى أكثر فتنة من (الواقعي اليومي ) و أكثر مشاهدة و حراكاً من ( الهامشي العابر ) و أكثر ثقلاً من الكلمات نفسها . انشغالات هذا الشاعر محورها البحث عن الإثارة في اللغة و ما تنتجها من دهشة في المدلولات التي تولدها ( الصور ) التي تحكي عن الواقعي و الهامشي بلغة المشاهد المرابض على ناصية بعيدة و عالية , حيث الحياة بكاملها في وصف يختزل التجربة و الذاكرة و المخيلة , لغة هذا الشاعر متأججة إلى ابعد الحدود و متعرجة عصية على الإفلات من وقعها الصاخب , نصوص (ما أسهل الهروب لولا الأبواب المفتوحة ) تستعيد كمالها الشعري من مناخات متعددة بدءاً بالسوريالية التي تظهر و تختفي مع النصوص القصيرة التي تشبه مقاطع الهايكو في علاقاتها اللغوية و انتهاء بالصوفية التي تقترب كثيرًا من النفري في تناولاته المثيرة حول العناصر و الأشياء اللامحسوسة و الميتافيزيق الذي يعلن نفسه في مزج عبثي بين كائنات تعلن وجودها الهلامي و بين إحساس الذات الشاعرة بكينونتها و عمقها الوجودي , و كلها مناخات مكتوبة بذكاء عارم في تمرين الشاعر على استعادة النقص و المتعة , القسمة و العذوبة من كاهل المفردات و الجمل و التفاصيل الغارقة في الوصف الغامض , استثارة الأصوات المخنوقة المحتملة داخل النص أو حتى على حوافه الملغزة , أصواته مدربة و مختصرة , مستاءة من برهتها , البرهة الأولى لهدير الموت و هو ينعطف بالشاعر إلى يمين الأبدية العمياء , شاعر يفكر بالبحر كما بالموت و كلاهما الأقرب إلى روح السماء المجهولة , شاعر يفكر بالحلم أو الأصح بالأمل في الوحدة , في عيني التحدي, شاعر يريد أن يفقأ عيني الموت لأن حياته كلها مالحة , فالكلام لغة شخصية و كذلك الصمت لغة شخصية , وحده الحيوان ( العنكبوت ) جسده يشبه وطنه , وحده يصنع وطنه و يعيش فيه و يموت . شاعر مثل دمر حبيب لا يمكن أن يكون متصدعا إلى درجة الانفلاش لولا هذه الشعرية المتيقظة التي أدهش ادونيس و القارئ الحقيقي النشيط, و بهذا المشهد الملجوم يكتب دمر حبيب حواسه العذبة , غفلته , أسراره التي تنضح هنا بالصدى على مرمى الجميع كأنه احتفال بالخيبة و الندم الجميلين: (هل أنت نادم مثلي ؟ الندم نبوءة تنمو, باتجاه الصمت, كل راحل نادم, ليس لأنه لم يبق, بل لأنه لن يكن. ) اللافت أيضا في كتابة دمر غياب اثر المرأة , فقلما تجد صوت أو همسة أنثى, غياب على حساب حضور عناصر أخرى أكثر اشتعالاً و أكثر فورانا, فالموجودات المتخيلة مثل ( المعنى ) و ( الجسد ) و ليس من الضرورة أن يكون جسد المرأة و( لحظات الحياة ) و لحظات الموت أيضاً و ( الطفولة ) أو حب الطفولة الذي حرص الشاعر على ربطها بالعناصر الحياتية الأخرى : ( أنا سجن هذا الرحيل, نضجت قبل أن أزهر , فلم اعرف سوى موسم القطاف , طفولتي ,؟ أنا جلد الحب و النساء مساماتي) تجربة دمر حبيب تعد أكثر التجارب الشعرية انسجاماً داخليًا و تنوعاً فكرياً رغم الفلسفة الغرقة فيه و الصوفية الهادئة الطافحة به والمشاكسة اللغوية المختبئة بحنكة و فراسة بين طيات النصوص الطويلة التي انشطرت إلى وحدات دلالية ( على شكل حروف الهجاء ) تظل تختصر خراب العالم , هشاشة الشاعر كلما هبت نسمة من أخر العالم مثقلة بالأسى و العتمة ( لماذا لا تولد عتمة من اصطدام حجرين و قد تولد من اصطدام عينين ؟ لأننا لا نعرف عن الحب ما يعرف الصوان عن النار ) و في قصيدته الطويلة ( النص العنكبوت ) رقعة تأملية في معرفة الذات و الأخر و رحلة في العثور على مفاتيح الخلاف و المصالحة الأبديين بين ( الماء و النار ) بين ( الحريق و إطفاءه ) أو بمعنى اصح بين الكلام كلغة جماعية و الصمت كلغة شخصية كأن الشاعر يخوض معركة معرفية حول التناقضات و المتضادات و الثنائيات في نص يحتمل و يحمل كل ذلك و بجاذبية ماهرة تقبض على الأنفاس و تذيبها .‏
دمر حبيب (ما أسهل الهروب لولا الأبواب المفتوحة) - شعر - دار بدايات اللاذقية
2010‏. عن جريدة الثورة.