٢٦‏/١‏/٢٠١٠

هكـذا تكلم سـمو: الشيخ توفيق الحسيني.
ال
مقدمة " سمو " أو إسماعيل إي دين " Îsmaîlê dîn اسمان لشخصية واحدة، شخصية فذة، فريدة، عاتية، مبرقعة بجنون ذكي، وفطنة فيها من الغفلة والجهل شيء كثير، وسلوك أرعن أحياناً وشرس أيضاً طوراً. ففي طول البلاد وعرضها لا تجد أحداً لم يطرق سمعه جرس أحد هذين الاسمين أوكليهما، وليس من أحد لم تبلغ آذانه أحاديث وأخبار عن طرائفه، وهفواته، ونتف عن مسيرة حياته الهامشية المشردة التي اختارها لنفسه بمحض أرادته ومشيئته بعدما تزعزعت ملكاته العقلية وأصابها العطب في سويدائها في حين من الدهر، ولا ندري متى جرى ذلك على وجه الدقة، ولا ندري أيضاً في أي مرحلة من مراحل سنواتهِ الطويلة التي ناهزت تسعين عاماً، وجُّل ما نعرفه أن اعتلاله العقلي كان وهو في أعوام عنفوان فتوته بسبب صدمة عاطفية وأنه كان قبل ذلك يتمتع بأفضل ما يمكن لفتى أن يتمتع به من فرط ذكاء وحدّة ذهن وسرعة بداهة وصفاء قريحة، وقد بلغنا من رجال ثقاة أنه كان جريئاً مقداماً، وكانت له مواقف اتسمت بالرجولة والمروءة . إن "سمو" أو Îsmaîlê dîn لم يكن "مقطوعاً من شجرة" كما قد يخيّل للبعض، وهو سليل أسرة ثرية ميسورة الحال، صاحبة أراض، تسكن في مناطق الدرباسية تنتمي إلى العشيرة "الكيكية" المعروفة بعراقتها وأصالتها وفضلها. كان هذا الرجل متنقلاً، كثير الترحال، لا يكاد يقيم في مكان واحد وإن أقام، أقام زمناً قصيراً أو أياماً معدودة، فهو ملول سأمان لا يصبر على المكث ولا يطيق لبثاً، لا يقر له قرار ولا يستتب به المقام في مكان من الأمكنة أو في زمان من الأزمنة إلا نهزة أو خلسة من الدهر. كان يذرع الأرض الواسعة والمسافات الشاسعة راجلاً في أكثر الأوقات أو ممتطياً حماراً يجول الحقول والسهول في أرياف عامودا والقامشلي والدرباسية ورأس عين(1) والحسكة فلم يدع رقعة أو بقعة لم تطأها قدماه، وكان إذا حط رحله في هذه المدن أو القرى المحيطة بها مكث فيها يوماً أو بعض يوم ثم رحل عنها إلى مكان آخر فأمضى نهاره وبات ليله. وهكذا كانت حياته كلها رحلة تعقبها رحلة وحركة دائبة لا تعرف هدنة أو سكوناً، وكأنّه موكل بسبر المسافات ومعرفة المساحات. إنَّ ما يذهلنا حقاً ويضيعنا في دائرة الشك واليقين والريبة والحذر أن كل من تلقاه من هذه المدن وهذه القرى المتناثرة، القصية والدانية يروي لنا طرفة من طرفهِ أو نادرة من نوادره ويقول لنا: إن إسماعيل كان دائم الحضور بيننا، لا يكاد يغيب عنا حتى تراه بعد عهد قريب يحّل ضيفاً يوماً أو يومين ثم يمضي لغايته. واستناداً إلى هذه الروايات الكثيرة – فلا غرْو – أن نصاب بالدهشة والانبهار، إذ كيف يتأتي لشخص راجل أو ممتطٍ دابةً من الدواب مهما كانت سرعة جربها أن يسوح ويجول في ارض على غاية من الرحابة والاتساع، على طرق لم تمهد للسير. لقد كان "إسماعيل" فارع الطول حقاً وقد يتاح له أن يسير سيراً حثيثاً بخطواته الرشيقة المتباعدة ولكن هذا وذاك لا يضعان بين أيدينا جواباً شافياً بركن إليه ونرتاح عنده ولا يجعلنا في جلٍ من طرح هذا السؤال الذي نراه مربكاً ومحيراً: - كيف استطاع هذا الرجل ذو الأطور الغريبة أن يتحرك ويتنقل ويحقق قطع تلك الطرق الوعرة الطويلة والسير ضمن مساحة تقاس بآلاف الكيلو مترات المربعة، واثبات حضوره هنا وهناك في أوقات متقاربة، وظروف تكاد تكون متزامنة؟ من البدهي أنَّ هذا الأمر لم يكن ليتسنى له إنجازه وإن كان في حوزته من وسائط النقل أكثرها تطوراً وحداثةً. فهل كان له قرناء يتقمصون صورته، وهل كانت له أجنحة يحلق به أسئلة أخرى قد يحفل بها البال ويزدحم بها الخاطر، ولكننا في اغلب الظن لن نعثر على جواب عنها وسوف تظل مبهمة وغامضة مادمنا نصدق أن شخصية سمو كانت شخصية حقيقية سمعنا بها، ثم رأيناها رأي العين، وأصغينا إليها وسررنا بصحبتها ومجالستها وحفظنا عنها أشياء كثيرة. قد يحسب أولئك الذين لم تسعفهم الأيام بمشاهدته ولم تسعدهم مخالطته أن الطرفة تنساب من خلال حديثه بين حين وأخر، بيد أن وجوده، محض وجوده أو مجرد مثوله في مجلس كان مثيراً للفكاهة. كان حضوره يشخّص الطرفة ويجسّدها. وكان حديثه كله يندرج وينضوي تحت شعار الفكاهة المجانية التي لا يبذل صاحبها من أجل استحضارها إجهاد فكر أو إمعان تأمل. كان إذا حضر مجلساً اتجهت إليه أبصار القوم، وانقلب المجلس من حالة الجد والرزانة إلى الدعابة والمزاح، ثم استأثر هذا الحضور بأفئدة الرجال، فهفت أسماعهم إلى الإصغاء إلى الضيف الطارىء لتفعم نفوسهم بالجذل والمسرة وتمتلئ بالابتهاج والحبور، إلى هذا الضيف الذي شغل طلاب المتعة الهادئة بفكاهاته الثّرة أمداً طويلاً. ولعل هذه الغزارة هي التي جعلت كثيرين من الرواة لا يأبهون بها ففقد منها جم ممتع وضاع ما كان ينبغي لهم أن يحفظوه، فلم يصلنا منها إلا القسم اليسير والنزر القليل وأخيراً فإن "سمو" لم يكن مفطوراً على العته والفهاهة والغفلة ولم يولد مجبولاً على الجنون والهوس، إلا أنَّ ما ألمّ به وما أصيب به كان ثمرة هزة وجدانية وصدمة عاطفية أو نكسة شعورية أو سوى ذلك من ذرائع وأسباب كما ذكرنا، ليؤدي ذلك كله إلى فرز نزوع نفسي جديد وظهور شخصية متفردة شاذة صارمة، خارقة لأعراف الناس ومفاهيمهم صارت في ما بعد أمثولة، وذكراً على كل شفةٍ ولسانٍ وحديثاً للتندر والتفكه في المحافل والمجالس وشغلت الأذهان ردحاً من الزمن وصارت نادرة من النوادر قد لا يجود بمثلها مرور الأيام وتعاقب الأعوام. -
طرائف إسماعيل إي دين في حلقات ينشرها موقع - سماكرد -
تلبية لرغبةِ الكثيرين من قرّاء سما الذين طلبوا نشرَ كتاب :( هكذا تكلّم سمو) إلكترونيّا كي يتسنّى لهم قراءة هذا الكتاب الممتع ,والطريف للشيخ توفيق الحسيني , قرّرتْ أُسرةُ سما نشرَ هذا الكتاب على حلقاتٍ لتكونَ الفائدة عامّة , خاصّة بالنسبة للقرّاء الذين لا يملكونَ الكتابَ ورقيّاً داخلَ سوريا , وخارجَها , فنرجو قراء ة المقدّمة على أمل أنْ يتمّ نشرُه على حلقاتٍ بينَ فترةٍ و أُخرى . ملاحظة : هذا الكتابُ من منشورات سما عام ( 2009).
www.semakurd.net