٢٧‏/١‏/٢٠١٠

الشاعر السوري عماد الحسن: الشعر يحن إلي البدايات والشاعر لا يقاوم يأسه - إبراهيم اليوسف. في هذا الحوار نطل علي تجربة الشاعر السوري عماد الحسن حيث تبدو اجاباته كتعريف واضح لمعالم تجربته تجعلنا نستغني عن المقدمة الصحفية المعتادة: û القصيدة الأولي مغامرة كبيرة جداً في الحياة الإبداعية لأي شاعر كان. ماذا يذكر لنا الشاعر عماد الحسن عن هذه القصيدة..؟ ــ إذا كانت هذه القصيدة بمثابة مغامرة صعبة تحوم حولها تجليات كبيرة وخطيرة للغاية، فلا ضير أن تكون في الجانب الأهم وليدة لعدة مناخات متجانسة ومتشائلة في متاهات الرؤي الأولي لأي شاعرٍ كان، ولكنها في المحصلة تهب وتستقر في خانة واحدة. خاصةً إذا كانت هذه القصيدة في أقصي أبعادها ومراميها تنبعث من رؤي وادكارات كائن مبدع خلاق يعي بالضرورة الحتمية ما يتعوسج ويتمرجح من اشكالات قصية لا تؤول أو تروض في ذاكرة القارئ العابر، إلي جانب عدم تعرض هذه القصيدة لماهية التجزؤ لملكوتها الأعم، كونها الوليدة الشرعية لتجربة شمولية تلك التي تحتوي بين طياتها كثيراً من التركيب التكويني والكوني في آن معا،أ قول لك الآن: إنني لا أتذكر عن هذه القصيدة ما يجب أن يتذكر في هذا المقام،أو في مقامٍ ولي، وربما في مقامٍ آخر قد يأتي بشاكلة أخري، ذلك أن هذه القصيدة يا صديقي إبراهيم لم تأتني بعد، ولا يكون هبوبها الا مع الموت، لانه إذا أسلمنا انه ليس هناك قصيدة أخيرة في مناخات أي شاعرٍ كان، كونه لا يستطيع تحديدها وتوقيتها كما ينبغي، وكما لا ينبغي أيضاً. معذرة إذا أطلقت هنا عويلي لأعلن بأنه ليست هناك قصيدة أولي انطلاقا مما ينعكس عليها من سطوة وخيمة في بلاهة الضد، وهنا أقصد تلك البلاغة الكامنة في سديم مثيلتها طبعاً، ولأنني لا أتذكر شيئاً من هذه القصيدة وعنها، أو ما حولها وعليها، وهي ان كانت غابرة وضبابية في أوهي مناحيها فربما قصيدة المستقبل لاتنقصها حظاً وجرأةً عارمة من الهلام الزائل في شهيق ورؤي حثالاتي الدبقة هنا أو هناك، وهكذا دائماً باستمرار. û أوَ تعتقد أن لمعاناتك الخاصة دوراً كبيراً في دفعك إلي لجة الشعر؟ ــ لا شك نعم، ولولا هذه المعاناة القاسية لما كتبني ا لشعر منذ فجر الكرز وإلي آخر حشرة في جحيم جمجمتي، ولذا أبهرني هنا قليلاً وأ قول: إن هذه المعاناة هي ضريبةٌ في بلاهة ألمٍ أخرس. ربما أن القريب من روحانية الألم الإنساني وشكله الأوسع أي كائن كانت تحوم حوله شفافة التعتيم. إن المعاناة التي تعنيها أنت في سؤالك، والتي أعرفها جيداً ، كان لأبعادها الدور البارز في دخولي إلي لجة الشعر، لكن هذا الدخول يا صاحبي لم يكن اعتباطيا أو وليداً لصدفةٍ عابرة، كونه في الجانب الأهم كان نتيجة حتمية لولادة جنينية نَمَت كأي عضوٍ آخر من أعضائي الأخري، تلك التي أتهستر وأتمترس بها الآن في غياهب الشعر. إذا لم يكن للفرح أي نصيب في حياتي الطافحة بالهموم والظنون والعذابات وعدم الرضا عني ــ ليس الآن ــ بل كل الأوقات، وهدا ما يدفعني إلي التحويم خلف شوكة التربص بما هو غير مرئي وغير ضبابي أيضاً. هناك مثلا: ألم آخر، موت آخر، حب آخر، ولكنه غير محسوس وملموس، في مكان ما أحس به، إليه أركض أحياناً لكنني لا أصل. وهذا ما يدفعني للكتابة ولمداعبة كآبات هذه الروح المتورمة، هذه الروح المغضوب عليها منذ فجر التاريخ، منذ أن وضع آدم قدمه علي هذه الأرض المليئة بالجثث المتفسخة والآهات اللامسموعة واللامسموحة في آن. إذا كانت المعاناة الفيسفسائية والبلاستيكية من حولي لاتهمني كثيراً، بقدر ما يهمني أنين الروح وهيامها، فإنني بالتالي أعتبر هذه المعاناة الخاصة بي هي معاناة كل معذبٍ ومسحوق فوق هذه الأرض الخراب، وأنا معها لسعيدٌ حين تدفعني هي الأخري بدورها للغوص في حضن الثرثرات والغيبيات والتخوم الهائلة والمائلة بالشراسة وعدم الرضي عن الذات الهائمة. هذه الروح المشاكسة والغائبة في هبوب الترويض وفي بلاهة هذا الألم اللامرئي في وحشة المعاناة اللامرئية بالتأكيد، هذه الروح هي سبب لكل هذه المعاناة التي ترقص وتسبح من الألم لطائر الشعر الجريح هنا وهناك. û من يقرأ قصائدك سيجد بلا شك حضوراً لافتاً للمرأة، بل استخدام كبير لتلميحات ومفردات وصور غارقة في إباحيتها. ماذا تقول: بصدد هذا الرأي..؟ ــ المرأة ألمي الجميل، ومتي خرجت المرأة من حياتي خرجت القصيدة بدورها وماتت بعيدة ، إذا لم تكن هناك امرأة ما تحرق وتؤذي، فليست هناك في الجانب الأهم قصيدة حية تحمل كل الخصال التي تؤول إلي التجربة الشمولية أصلا، وإذا كانت المرأة لا تستحق القصيدة فلا ضير أن يمنحها الشاعر القصيدة تلك كونها ــ القصيدة أعني ــ من المرأة، واليها أصلا. أما الأسباب التي تؤول إلي الإباحية المفرطة وملحقاتها التي تعود ربما في اللاوعي الفردي المدرك، أو اللاوعي الروحي اللامرئي إلي تخوم الحرمان والعذابات والابتعاد لسنوات كاملة جدباء عن هذه الأرض الخصبة والقاحلة في آن، هذه الأرض التي هي المرأة بالأصل ولكن لايعني استخدام المفردات والتأويلات المفرطة بالإباحية أن توظف بصورة أخري في تطبيقها بصورة عملية وعلمية مدروسة في الحياة. لا... امرأة واحدة تكفي وكثيرة علي بعضنا، امرأة واحدة تهز الروح وتسعف الجروح بين شتاءات كانون القرمزية اللون والدم معاً. إن الذي يعاني من المرآة، أي مبدعٍ كان، يقدم لها في الطرف الآخر كنتيجة انعكاسية لبعض الرؤي والادكارات، بل حتي الولادات القيصرية في الجانب الأهم والأعم. عشت في غياب المرأة ومعها مجنوناً كاملاً ولكن بلا أعياد مسبقة، قدمت لها الكثير مني ولم ترحمني هي ولو بقليل منها وما أزال اقدم لها حتي الآن هذه القصائد الهدباء لأسور من خلالها غيابها الأليم عنها وعني في آن. إنما من خلال ما أقول لها في كتاباتي التي هي عبارة عن صورة من التعرية الحقيقية لوجهها وجسدها الحقيقيين. مضي زمن الدلال والكرز ولا نريد أن نرحب أيضا بزمن الطيش واللامرأة في غياب المرأة وحضورها، طبعاً إذا كان ثمة حضور بالفعل لا بالضرورة التجميلية والتجميعية. û يسجل عليك بعضهم الغموض في قصيدتك. كيف تنظر إلي المسألة..؟ ــ وأنا أسجل عليهم الوضوح والسطحية والهشاشة وأصبحنا في لب المشكلة. ليس ثمة غموض يا صديقي، هناك ابداع لا غير، أنا أفتش عن الاختلاف واللامألوف واللامتداول، والقارئ علي العكس يطالبنا بما يطلبه القراء وهذا حرام، إذا كان ثمة غموض فهو مرهون لدي القارئ عليه أن يتسلح ببعض الأدوات النقدية الجميلة الرصينة مثل قلبه كي يتسلق شجرة الغموض التي يعتبرها عالية صعبة المنال هو أصلا ً، أنت تدري أي نوع من القراء نقصدهم بقولنا هنا، ثم ألم يمل هذا القارئ أو ذاك من تلك الثمار التي أصبحت منخورة مغلوبة علي أمرها، لدينا ثمار ناضجة، ناعمة جديدة، عذبة حتي آخر النزيف. إنها لمسألة عويصة حقاً، فان كنت غامضاً فهذا ليس ذنبي، بل ذنب من يحملني الغموض ويتهمني به، وبالمقابل إذا كان القارئ سطحياً فهذا ذنبه بالتأكيد الممل، يا صاحبي إن الغموض في هذه القصيدة ليس مهنتي كوني لا اقدم لوحات فنتازية، أو صوراً فسيفسائية، صورية خلبية هشة لأنني أدرك تماما ما أقوله وأدركه، وإذا كان جوهر الإبداع يكمن في الاختلاف والتمرد علي كل ما هو مرئي ومسموع في جانبه الصدئ، ثم أليس من حقي أن أكون غامضاً في هذا الزمن الأبله وما هو عكس الغموض، ما معني أن تكون واضحاً، سهل المنال ثم يرمي بك هذا الواضح في سلة المهملات، سلاحنا غموضنا ولا أريد هنا أن أعيد معارك الأسلاف، أو نمر بأبي تمام وبصورية عذرا باوند والذهنية الكامنة في الاستغراق لدي ت.س.إليوت، أو نكشف النقاب عن تمردات! رامبو وفرلين، وغيرهما، لا.. إن ما كان غامضاً بالأمس أصبح واضحاً اليوم،و نحن غداً لواضحون، فبشرهم اذن، ان كنا نمتطي الغموض علي صهوة جامحة فغداً سيركب الصهوة تلك غيرنا علي وضوحٍ مملٍ، ولمن يسجل علينا الغموض الشعري عليه أن يتحرر من بين براثن الشللية الزائفة والسطحية المباشرة، كي يتعرف علي الحياة والشعر والأنثي أكثر فأكثر، ويدرك بالتالي أن ما نكتبه نحن ليس وليد عدم ٍ، بل هو انعكاسٌ وانكماشٌ لوضوحه الهزيل، وأمثال من يسجلون علينا الغموض يشكلون المشكلة العويصة أمام تطور الحياة البشرية وتقدمها في جميع تجلياتها الإبداعية. û هل أنت من هؤلاء الذين يرون أن علي الأدب والفن ان يوظفا في الدفاع عن قضايا الإنسان؟ ــ كنت منهم مرةً، أما الآن أري أنه علي الأدب والفن أن يوظفا في الدفاع عن قضايا الإبداع حصراً. لان لغة الإبداع تقف شامخةً فوق قضايا الإنسان وملحقاتها العويصة. ولكل نظرته في ما يريد أن يبوح به وبالطريقة التي يبتغيها. هناك مثلا: شاعر ملتزم لكنه شاعر مرحلة،وهو بدوره يذهب إلي القصيدة التي تحاول أن تفر منه فرار السليم من الأجرب وهناك شاعر صيرورة حيث القصيدة هي التي تركض اليه وترقص في حضرته قرداً من الألم، كونه شاعراً يحترق، يموت ويتألم وهو أولاً واخيراً شاعر مبدع دون مواربة أو مبالغة. بصورة أخري الشاعر الملتزم يستطيع في اليوم الواحد أن يكتب آلاف القصائد الهوجاء كونه شاعراً مؤسساتياً لحظوياً بل هو الشاعر العابر دائما وأمثال هذا الصنف من الشعراء يؤخرون حركة الإبداع ويقودون بها نحو الضياع. أما الشاعر الذي يدافع عن قضايا الإبداع فتراه يكتب في السنة الواحدة ــ ربما ــ نصاً شعرياً واحداً لكن كتابته هذه تخص الشمولية الكونية ذات التجربة الأعم في منتهاها وهذه التجربة لها أبعادها القصية لن نتطرق إليها هنا،كون نصه يحمل أبعاداً كونيةً يعوم من خلالها إلي ملكات متعددة تركيبية ومعقدة في آنٍ، إذاً المبدع أياً كان ليس خطيباً سياسياً أو مصلحاً اجتماعياً فلكل مهنة أصحابها والشعر موهبة وليس مهنة وشتان ما بين الموهبة والمهنة كما أنه شتان ما بين شاعر حقيقي وشاعر هامشي، وإذا كان المبدع كائناً خلاقاً يخلق ويهدم ثم يبني من جديد وهكذا دواليك، فان من يقف علي الطرف المنعكس في الجانب الآخر يحمل الخراب لكل القضايا الإبداعية والآلام الإنسانية قاطبة. û كيف تنظر إلي تجربة جيل التسعينيات الشعري في سوريا، وماذا تذكر عن هذا الجيل الذي تنتمي إليه شعرياً، ثم هل تعتقد أن هذا الجيل نال بعضا من حقه النقدي..؟ ــ إنها كأية تجربة شعرية مرحلية أخري لها طقوسها وتخومها الخاصة بها، وهذا لايعني أن للتجارب السابقة عليها تأثيراً عليها سواء كان هذا التأثير إيجابياً أو سلبياً،لكني أستطيع أن أقول لك إن هذا الجيل مسحوقٌ ومغلوبٌ علي أمره ، وفي الجانب اللآخر فهو جيل عصامي البتة وهذا ليس تناقضاً أو التباساً رغم أن هذا الجيل قد مارس جميع أنواع الكتابة الشعرية والي جانبها أعمال أدبية أخري، فهو اتجه اكثر فأكثر نحو قصيدة التفعيلة حصراً، وهذا ليس قدره بل لأن قصيدة النثر خدعته حين هاجر اليها كل عاجز عن الكتابة الشعرية هنا وهناك، فكان لابد من الخصوصية والبحث عن الفرادة والذاتية المطلقة في الكتابة الشعرية أسوة بأجيال سابقة. جريدة (الزمان) العدد 1413 التاريخ 2003 - 1 - 23