٢١‏/٨‏/٢٠٠٩

بسام مصطفى: إمبراطورية الخديعة، فتح الله حسيني، الطبعة الأولى 2008، دار آراس للنشر، أربيل.
للشمال، هناك، في الجهة الغرائبية التي لم يخلقها الله وإنما بزغت من تلقاء نفسها كخرنوب بري؛ رائحة بطعم الفجيعة والحنين الى كل شيء..إلى اللاشيء. كل شيء هناك مختلف، للصباحات شجن وعبق كأيدي الأمهات وأعينهم المليئة بالحسرة والشوق لغريب ما في وطن ما بعيد و بارد، إذ ليس للشمال وطن. لنسائها رائحة العندم، التي تهدر كدم غير مرئي. وكلما غصت في براري ذاك المكان وعناقيد غضبه، ونبشت كأبن آوى عن ذكرياته وقصصه المسائية؛ كلما اقتربت من نفسك لتبتعد عنها! من ريح كهذه وقلق مستبد محكم؛ يأتي إلينا الشاعر العابث بأقداره، الوفي لعبثه الجميل، الممتلىء ألما وأملا ونبيذا ودخانا ونسوة لا اسماء لهن وحزنا فتح الله حسيني؛ أو "فتحو" كما سيحلو للشمال نفسه أن يناديه برئتي أمه. بديوانه الأخير المهدى سلفا إلى "الأباطرة المتربعين على شرفات الله المطلة على جراحاتنا" الموسوم، دون رياء، ب"إمبراطورية الخديعة"*. قصائد المجموعة، بأغلبها، بطاقات تعريف مهداة إلى من يهمه أمر البساطة للتعريف بفتح الله؛ الطفل الذي ما فتىء يتفرج من نوافذ القطارات على أرض الله الضيقة وخلائقه الجميلين والقبيحين، اللاهي عن ممالك الأباطرة والمكتفي بزاد يوم لا إسم له وبعض نسوة كأيامه ودخان لا يعرف الراحة ونبيذ لا يخون ضالع بحبه. كسنبلة بسيطة يعلم نفسه عادة كره الرجال الرسميين بربطات عنقهم الزائفة وخواءهم الذي يراه بعينيه الصغيرتين المتوهجتين من أثر نبيذ معتق إشترته له جهة لئلا ينساها، وهو البسيط كسنجاب بري، ثملا، يحمل أيامه في صرته ولئلا يموت: يداوي جراحه، بهدر سنينه بين المقاهي والحانات ودور السينما، متأرجحا كوريقة خفيفة تتقاذفها الشوارع المزدحمة بالرجال الرسميين والفنانات الحاملات والحالمات بثمل مثله... وفتح الله الشاعر القادم من جهة البراري الرحبة والارض المستوية يحلم لو أن تلك الجهة ثملت ذات مرة ونسيت أن توقظه كل صباح، غاضبة كما أمه ليفتتح نهارا كأمسه: عابث، بعيد، ومليء بما ليس منه. فأولئك المساكين الطيعيين نسوا الدروب التي تقود إلى أرواحههم القلقة والمتحفزة دوما بإنتظار حادث ما خفي، مهول ومرعب. ولكي يغافلوا أرواحههم وأيامهم المهدورة ولئلا يروا مرة أخرى وجوههم الكالحة التي نسوها في طين القرى المنثورة على إمتداد سكة أعمارهم الملتوية التي قادتهم ولم يقودوها؛ إختاور أن ينصاعوا لحكمة الغبار والأقنعة التي تبين أكثر مما تخفي. رغم ذلك فهم منذورون للرعب والهلع: صباحهم الأول، هلع وصباحهم الأوسط، هلع وصباحهم الأخير، هلع يخيم على جسور وقبعات المدينة وهم: ينتشلون الغبار من الغبار بأياديهم وأرجلهم وعيونهم في وسط هذه الزحمة من الألبسة والأقنعة والشوارع المزدحمة بالمارة والضجيج، يصارع الشاعر قدره وجها لوجه، وحيدا. لأن الشاعر كما في كل زمان لا يجد "جمهوريته" التي يحلم ويتغزل بها في سطوره وقصائده. بل، يرى حينما يستيقظ من غفوته اللذيذة إمبراطورية النيام المتوجة بالخديعة، والهواجس والأيام. حينها يلمس الشاعر الوحيد والمهجور كقاعة عرس نفضت عنها زوارها وحدته ومنفاه العميق حتى حين يكون بين الزحام والناس والشوارع، فكل ذلك لا يقود إلا إلى السراب والقدر المتربص: في زحمة الناس قدري أن لا يشاطرني الشارع بكائي وقهقهتي وأن يسعفني دخاني وشرابي ونسائي وتشردي. لعل جمال الشاعر وطفولته في هذا التشرد، وهذه الوحدة المزدحمة بالناس والدخان والشراب، فقد تكون الطريق الوحيد إلى قلبه وأحلامه البسيطة وروحه المكبلة بأغلال المهجورين.