٢١‏/٨‏/٢٠٠٩

فتح الله حسيني : تعاقب الغبار في كتاب "مسودات مدينة" للكاتب عبداللطيف الحسيني. ربما تنبأ حسنا عندما كتب صديقي الكاتب عبد اللطيف الحسيني، عن نفير الأمكنة والوجوه وطلل مدينته، لأنه بالنهاية يبكي ما تبقى من غبار في فضاء اعتلاء المنارات الخضراء وعمامات الشيوخ ورجال الدين المنهمكين في تجميل الحياة في مدينته عامودا، حصرا، و ربما في مدن جزراوية أخرى مجاورة ليست بعيدة البتة عن نسغ ما نصبوا هدوءا إليها، عامودا سليم بركات ومحمد عفيف الحسيني بكل تأكيد.. ففي “شرمولا” المقبرة، التي فقدت أغلب شواهدها واندثرت معالم قبورها كحنين إليها، تقرأ في النهاية (انه الموت الحق، فلترقد روحي بسلام) كمشهد شيخاني، متصوف، تتشرد الكاميرا عن صخب التصوير، لتصور شاهدة مرمية في حضن حفرة شبه قريبة، لنستدرك بعد ذلك أن الحفرة تشبه جسد أفعى كبيرة وطويلة نسميها: نهر الخنزير، لأن العاموديين قتلوا فيها خنزيراً، ولنفرض أيضاً أننا نأسف على لا جريان هذا النهر، فإننا سنتقي الله وندخل إلى منزل العلامة الشيخ عفيف الحسيني،. شحيحا، هو شيخنا، غرفته المليئة بالكتب وعمامات وسجالات رجال الدين والطبول والدفوف، أجواء تعيدنا إلى ما فقدناه من حميمية وعلاقات تشبه الحلم، حيث نضارة الشيخ وسريره وأريكته وأوراقه المبعثرة وكتب الفارابي والسياب والزفنكي، حتى يحسد الكاتب أباه على حجرته التي ينفرد فيها بنفسه كشيخ ليقرأ ويقرأ ثم لينام، و يظلّ الكتاب مفتوحاً حتى الصباح، وهكذا كي تستمرّ الحياة ويبقى ضوء غرفته مشتعلاً. عبداللطيف الحسيني يتحدث عن طريق المقبرة، مقبرة البلدة، وعن عالم الشعر الكثيف المغبر في مدينته، وعن الحارس الأحدب ومتون، ليصل في النهاية إلى رنين الطريق، إلا أن طريق عامودا ليست لها أجراس ولا طبول، وعامودا كمدينة لا تستحقّ كلّ هذه المسودات، ولا المبيضات لتصبح أكثر جمالاً، فهي أخيراً مدينة لم تقدم إلا القليل بالنسبة لباقي المدن، وان تذكرنا بشيء فسنتذكر حريق سينماها وضحايا ذاك الحريق ولا شيء آخر، و هذه هي قسوة الحياة. تصيب الكاتب نوبات جنونية إبداعية في ثنايا قراءات (مسودات مدينة) فيكتب بلغة شاعرية ترتفع إلى مصافي القصيدة، وقد أصاب في ذلك ليتملّص (من هاته عاليا.. هات النفير على أخره) وليدون لأشياء لم تتغير رغم أننا تغيرنا وتبدلنا، وصرنا بألف لون ولون في هذا الزمن المومس حيث لا مدينة و لا رمس و لا ترس. كل ما كتب عن عامودا دخل في تقاطعات شبيهة بنصّ سليم بركات (العامودي الأول) خصوصاً الرواية والشعر، فالبيئة المشابهة والحلم الأوحد يوهمان القاصد بكتابات هو قارئها، فيدونها كما هي في مخيلته، فيستقرئ، بعدئذ، أنه كتب ما كان قد كُتب سابقاً. خرافات شتى تنهمر ضمن (مسودات مدينة) على لسان رواة ربما كانوا يوما حفاري القبور أو حارسي المدينة، عبثاً طبعاً، وصبية ذلك الدهر التزموا بسلاح الجبناء (الصمت) وهاهم اليوم، أولئك الصبية أنفسهم، يدّونون ما فاتهم الاستحمام فيه أوالركون إليه والاستناد إلى ما تبقى من ظلّ التلال المهدمة والتي تصبح أساطير، وهي ليست كذلك، إلا الشيخ عفيف العلامة السبعيني الذي يعتبر بحقّ المنارة الخضراء لعامودا، لا في عامودا فحسب . يختم الكاتب عبداللطيف الحسيني) كتابه بسيرة متقطعة (لهوارو) صاحب الأوسمة والنياشين والرتب الوهمية الذي مات برداً كما عاش بارداًَ في ظلّ الجمرات الحارة التي كانت تطوقه من كل جنب من جنبات المدينة، حيثما حلّ، فهكذا يموت الشماليون... إذن، فكتاب “مسودات مدينة” كتاب يستحقّ القراءة مراراً، أبدع كاتبه لغة وسرداً، والحياة خراب أنى ذهبت، لا سيما وأنت تتبع سيرة مكان أليف. مسودات مدينة - عبد اللطيف الحسيني – مطبعة اليازجي – دمشق.