١٨‏/٧‏/٢٠٠٩

الصعود إلى شرمولا
عبداللطيف الحسيني
قبل خمسة عشر عاما ، قبل عشرين . كان صعباً الصعود إلى شرمولا . وإن جازفتُ أقول : مستحيلاً . وسهلاً اللعب فوقه لانبساطه . ومساحته الهائلة . أنا الذي لعبْتُ فوقه . تمددتُ على عشبه ، وربما غفوتُ فوق نقاوة ترابه . ولو أني كنتُ أحسّ بدفق الماء تحتي , وقلق الموتى . وقفتُ فوقه كإمبراطور : فاتحاً رجليَّ ، واضعاً يديَّ على خاصرتي ، محدقاً إلى بيوت عامودا الترابية : لأرى طفولتي في شوارعها ومراهقتي وشجاري مع نفسي , لأرى حبّي لابنة الجيران .ليكون غير الأخير .
كنتُ أدل صديقي الذي معي بإصبعي على شارع بيتنا ، حتّى أنّني كنتُ أكذب عليه . وأقول له : تلك حارتنا :
ألا ترى طفولتي فيها ؟
ألا ترى طفولتي المستحيلة فيها ؟
ولا أدري كيف تحملتُ العيش فيها .
وذاك بيتنا ! وذاك أبي :
ألا تراه يصاحب الجدار كي يصل إلى ما يريد ؟ .
ألا ترى الدرج المشّوه ؟ والباب الخشبي القديم ؟
ألا ترى الداخل إليه . والخارج منه .
وكان صديقي يصدق كلامي المحموم . وأنا نفسي لم أكن أرى بيتنا ، لا الداخل والخارج منه وإليه .
وبعد عشرين عاماً _ الآن _ سوف أصدق نفسي بأني كنتُ أراه فعلاً . ولم أكن بكذّاب ، ولا بمخادعٍ . وأنّه لم يكن يتراءى لي بيتنا .
الآن أصدق نفسي ، أصادقها حين أقف على شرمولا .
ولا أرى إلاّ أبنيةً إسمنتيةً قاسية وجبارة تحجب لا بيتنا فقط . بل تحجب نقاوة الهواء والغبار الذي يثيره الأطفال . وهم يلعبون بالتراب الملائكي : ذاك التراب الذي كان بإمكانك أن تأكله أو تشربه مع الماء . خاصةً لو ملأْتَ كفك اليمنى به ، وكفك اليسرى بترابه الآن – المستعار – وقارنت ما تحمله كفّاك .
كان ظلُّ شرمولا ظليلاً . كان استراحةً لمن يأتي إلى عامودا قادما من قرى الجنوب : (( جولي سنجق سعدون . سنجق خليل )). راكباً حصانه وفرسه أو حماره . يأخذ هؤلاء راحتهم تحت ظله الرطب . وربّما نّومتهم رطوبةُ ظله .
شرمولا الآن . يسهل على الصبي صعود قمته . ويصعب عليه اللعب فوقه : لفقره وموته . ليس فوقه إلا مساحةٌ صغيرةٌ متشققة تخاف أن تبتلعك . تخاف أن تتجه إلى اليمين أو اليسار . تخاف أن تقودك قدماك إلى اليمين أو اليسار . وتسقط في هوّة . أو تتدحرج من فوقه كما حجرٍ يتزحلق من فوق منحدر .
أنْ تصعد فوقه الآن يعني : أنك تصاب بالبؤس والتقزز . لو قارنت علوّه السابق بانخفاضه اللاحق ., هل لي أنْ أقول : إن الحياة أيضاً هكذا . وإن الأصدقاء والأقارب والأعداء والسفلة والطبيين هكذا وإن النفس ماتت . وإنّ قوةً ما عظيمةً اضمحلت بداخل كلٍّ منّا . ولو أنّنا لم نفقد إحساسنا بالجمال والمعنى بعدُ .
ولأن شرمولا رمزٌ ولو اندثر . فقد تغنى به كثيرون . كتب عنه ((أحمد حسيني ومحمد عفيف ))بحرقة قاتلة . وهما البعيدان عنه . وغنّى له (( أنور ناسو )). وهو صديق لشرمولا وجار .
كان شرمولا علامةً .. منارةً ، علاماً . كان علامتنا : أنا الذي كنتُ أراه هكذا . هو الذي رآني . هكذا أحسستُ به . هو الذي أحسَّ بي .
كان للحياة طعم العيش فيها . تغريني بالعيش فيها . خاصةً لمن ابتعد عن عامودا مدةً قصيرةً .
فلو دخل هذا المسافر إليها طريق قامشلي === عامودا الأكثر تكراراً ومشاهدةً . ورأى من بعيدٍ شاهدة ملك " ايلو " فوق التل . كان يحسُّ هذا المسافر أنّ الطمأنينة احتلت أنفاسه وكيانه .
يا الهـ ...............ي .
فكيف بالمسافر البعيد الذي ابتعد عن عامودا زمناً طويلاً . لو عاد هذا المسافر إليها . ولم يَرَ شاهدة ملك ايلو . لا بدَّ وأنّ هذا المسافر يموت في داخله آلاف الرجال . ولو كان المسافرُ – الرجلُ امرأةً . لبكى . ولبكى لبكائه العالم . ولكان دمعه ودمهُ فيضاناً
الآن فقط : أُبعد نظري عن شرمولا ، لئلا أراه . وقد فَقَدَ دفئه المتفجّر بداخله .
لئلا أراه . وقد فقد شاهدته .
(( إنّه الموتُ الحق ، فلترقد روحي بسلام .))