١٥‏/٧‏/٢٠٠٩

فرج بصلو
أكوام المشمش والبرقوق( الجزء الأوّل )
كم عطّستنا التوابل وكم شذّتنا المساحيق

غياب الوالد في الأمسيات كون جزءاً لا يتجزأ من قائمة الوجبات. لم أعد أراه إلاّ إذا سهرت مع آواخر النجوم الليلية. وهو يفوت خلسة في حوفته الناصعة التي تلف تخوتهم العالية بقماش لا ترى من خلاله حتى الظلال. إنه أول أيام العطلة, والبهجة بالعلامات والسبح وبركة إحتفالات الفراغ والخلو. لا شيء يبدله أو يقلبه عكس ما هو. إرتخاء, بالسلوى والكسل المسموح. يوم العطلة الأول.
ها أنت ترى بواكير الثمار تلمع من عربات المتسولين, ومن بسطات الخضرواتجية. وعلى داليتنا بدأ العنب. أوشكت أيام الدراسة نهايتها وقريباً ستوزع الشهادات,  لتبدأ العطلة. لتلسع أشعة الشمس البارقة أذرعنا العارية,  ومياه النهر تمضي وتشح. لنعبر الضفاف,  نغطس في شعور بعض البرودة. لا نارنج في السوق ولا تفاح الزبداني, فقط أكوام من المشمش والبرقوق. وفي شوارعنا يهبط الريفيون بحمولاتهم من البطيخ الأحمر والأصفر, البندورة وباقي خضروات الموسم الحار- الحارق. نحو مرابض الجمال والحمير على تراب الأرض يخيم لابسوا العباءات بأطفالهم وحريمهم.  يبدون لنظرك  بتجوالهم بين الدور والأسواق. جالبين الرزق لأصحاب الخان والمتاجر.  ألا تلحظ كم إمتلأت أيدي الإسكافي  بالعمل؟. ألا تسمع  الصائغ يرفع أسعار الذهب؟
لا سنونوات في الحوش. فقط يمام ودور تنق الدوالي والأصص. قطي طرزان يحتفل الحرارة بإهمال فروته الشقراء للأشعة الذهبية الغير متناهية. وحتى ملامح ألوس اليتيمة الكدرة والضعيفة ابتدت تتغير, لاغية غربتها وارتباكاتها لغير أجل, لتربي أختي وباقي الصغار كمنحوتة اوغاريتية أو متانية نحتت بخيوط النور المتوردة على خدودها السمراء.  وصرنا أخفاء ومتنقليين اكثر. رغم عدم التغيير في روتين حياتنا. الحياة التي يدور فيها  كل شيء بدوائر الصلاة والعمل, الدرس واللهوالعفوي. ما عدى ثرى أيامنا الندي الماضي في التبخر. أيام قليلة وسترى حوفات بيضاء تفترش سطوح  البلد. سواعد ساعية في تمتين درجات السلالم الخشبية. وتبديل ما لا جدوى بإصلاحها. البلد بكامله ينقل حياته الليلية إلى السطوح, حيث السماء وفيرة للجميع, حيث الزبش الحلو, النجوم ومياه البئر الباردة في الأكواز والأباريق. وحتى حكايات الجد والجدة تنتقل من نسخها الشتوية إلى نسخها الصيفية. وصفات وجباتنا أيضاً, قلّة السوائل المرقية الساخنة. وتكاثرت الخضار والفواكه والسلطات الباردة. بعض الطبيخ. ما عدى أواخر الأسبوع الماضية في روتينها كالسابق. أو إحتفالات الطعام كل بداية شهر, ولائمنا المصغرة على العدس بالرز والرز بالحليب و.. . حتىغياب الوالد في الأمسيات كون جزءاً لا يتجزأ من قائمة الوجبات. لم أعد أراه إلاّ إذا سهرت مع آواخر النجوم الليلية. وهو يفوت خلسة في حوفته الناصعة التي تلف تخوتهم العالية بقماش لا ترى من خلاله حتى الظلال. وصّباحا حين عودتي من الصلاة . إما ينام أو يكون قد مضى لشغله بمتجر الجحي يوسف علي قنجة. وكم كنت أرغب بحضوره  يوم تجمعنا في الكنيسة الإنجيلية لتلقي الشهادات. وهدايا التفوق. وسماع خطاب أبونا واعظ  الكنيسة ومختار البروتستان, ذاك الوديع صديق جدي والد والدتي, والذي كان والد مدير المدرسة عيسى أحمر الشعر الجالس في صدر المنصة بين الإيقونات والصلبان ولوحات  القديسين والقديسات, في جو من الأنوار والخشوع, والإصتنات. أردته يراني أمضي إلى عطلتي بشهادة تفوق, وببونبون الهدايا. أردته يسمح لملفونو موسى أخذي مع كافة المتفوقين إلى مسبح كربيس. فيما خلف الجسر الكبير.
إنه أول أيام العطلة, والبهجة بالعلامات والسبح وبركة إحتفالات الفراغ والخلو. لا شيء يبدله
أو يقلبه عكس ما هو. إرتخاء, بالسلوى والكسل المسموح. يوم العطلة الأول.
أنظر في شهادتي وأرقب العلامات حتى آخرها. إصطفاف المئات. ولا علامة تنقص في أي
من المواد أحتفلها لوحدي. أشارك بها والدتي فتجلب لي صندلاً جديدا (كلاش) صنعة يدوية
من جلد طبعاً. عمل الأسكافي اليهودي عزرا, الموسيقار صاحب والدي. لا أعلم إذ كانت قد
شاركت الوالد بالمؤامرة. وحسب ظني ستدفع ثمنها من نقود كان يبعثها لها والدها نفقة ألوس
في حرصها على أختي ودعم للمصروفات واللوازم الطارئة. لا يهمني مصدر النقود, المهم كلاشي الصيفي الجديد, وفرحة جدتي بعطلتي وفراغي لكي تفيقني باكراً لجلب دلاء الحليب إلى صانع الدوندرما. دوندرما العمر. حلاوة لا يغيرها الزمان ولا المكان مهما كان. إنها مسيرة صباح إلى مرطبات وألوان قزحية بينما المتاجر غافية ومغلوقة. إنها دلاء تحصن أذرعي وأكتافي. إنها بشرى تجعلني محاسباً يومياً على ورقة بسيطة وقلم رصاص مبري بالشفرة. إنها نقود للسينما. لمجلة سمير. للبزر المحمص. للكاتو. للّحمة بعجين. كلما خطر ببالي وفاضت شهوتي لطفولة امتدت على باب النهر والفرن والسوق والجامع والسينما الصيفية المفتوحة. إنها "البرافو" تأتي من شخص مشغول مفتول السواعد وهو يفحص دقة الحسابات ليتأكد من كون هذا الطفل "باش محاسب يستحق الدوندرما متى يريد ويشتهي". وهذه الخدود البدينة المغطاة بزغب أغبر أكثر مما تدل على إهمال تدل على إنشغال.
وكانت أيام أخرى وضعت يدي في الجدة لنجوب عَرَصَّة الخضروات, ناحية الجامع الكبير, كي نتمم نواقص البيت بالأشياء اللازمة. فالجد كان يقتني كل اللوازم ويبعثها للدار مع صنّاعه. هكذا حظيت من بشاشة الخضرواتجية, وكرمهم بألذ ما لديهم لتحلى لي حمالة السلال إلى بيتنا.  وحين مرورنا صوب معرض الصياغة عمقت التحديق إلى الداخل لألمح الفيل الفضي, هامساً للجدة أن تراه وتذكر المحل منه اشترى لي الجد الأخر خاتم الذهب المنقوش بالنسر.
وليس هذا كل شيء وبس. إنما إنتظرتني أعمال صباحية أخرى في متجر الجد. حسابات. وتسجيل ديون لزبائن حفظ أسمأهم ومقتناياتهم عن قلب. وفي بعض الأحيان راجعت فواتير مشترياته من الشركات الكبرى.
الصيف يمر قدماً وأنا بدوري أمرره بين بخار الحليب, ضباب أرياح الصوابين وشتى السلع
الأخرى في متجر جدي. فكانت روحي تتلاعب في عب السلال الذهبية المكدسة بأكوام الغار
الفاخرة. كأنها لعبة الميزان النحاسي الوامض. أراقب المشترين والصناع والسلع واشبك من
الألوان الساحرة درب عمري المفروش كمثل حصيرة منقوشة نبات وحيوات وحلاء يصب
في الذاكرة. كنا نكيل كل شيء بالميزان, ونعبأ بأكياس الورق اللائقة. كنا نفرغ قطرميسات ونملأها طوال النهار. كم عطّستنا التوابل وكم شذّتنا المساحيق. والسكاكر سكاكر على عشرات أصنافها ومصادرها, الحلبية والشامية والريفية. أجل كان للصباح مذاق عسلي كما كان لحضورنا نحن الأطفال والصناع من حلاوة لهو الفتوة في كل زمكان.     
لا نارنج في السوق ولا تفاح الزبداني, فقط أكوام من المشمش والبرقوق. وفي شوارعنا يهبط الريفيون بحمولاتهم من البطيخ الأحمر والأصفر, البندورة وباقي خضروات الموسم الحار- الحارق. نحو مرابض الجمال والحمير على تراب الأرض يخيم لابسوا العباءات بأطفالهم وحريمهم.  يبدون لنظرك  بتجوالهم بين الدور والأسواق. جالبين الرزق لأصحاب الخان والمتاجر.  ألا تلحظ كم إمتلأت أيدي الإسكافي  بالعمل؟. ألا تسمع  الصائغ يرفع أسعار الذهب؟
وحتى ملامح ألوس اليتيمة الكدرة والضعيفة ابتدت تتغير...
إصطفاف المئات في شهادة تفوقي. ولا علامة تنقص في أي من المواد أحتفلها لوحدي. وهو يفوت خلسة في حوفته الناصعة التي تلف تخوتهم العالية بقماش لا ترى من خلاله حتى الظلال.