٢٨‏/٦‏/٢٠٠٩

عبدالرحمن عفيف
تمدُّ، أيضاً، يدك إلى قلم شعرك.
للشاعر فرهاد جلبي في ترابه وعشبه.
"هل ستكتبُ قصيدة عن العشب، أم لسوف تتمدّدُ على العشب، وتكتبُ قصيدتك؟!!"، هكذا يسألني فرهاد جلبي ويبتسمُ. فرهاد جلبي الشاعر، الخفيف، المبتسم، ينحدرُ على جسر نهر عامودا باتجاه المدرسة, ليدرّس الرياضيات هناك. أبتسمُ أيضاً، آه... نحن المجانين بالشّعر. إنّهُ الصيفُ في عامودا، على كلّ حال إنّهُ يومٌ جميل، الشمسُ مشرقة، ظلالُ الجدران ترتجفُ من هبات نسمات قليلة، والوقتُ بعد الظهيرة. أنا أصعدُ باتّجاه البيت، كيف أردُّ على هذه المزحة، أنا العاشق على مزحة عاشق!!!
حبيبةُ فرهاد جلبي، هي ذاتُُ النّجوم المائة, دمها كورديٌّ مصفّى، أجدادُها آتون من جبال شاهقة. إنهم فرسانٌ أقوياءُ، محاربون تعلّموا من الجبال الصلابة والبأس. حبيبتهُ أميرةٌ قُتل آباؤها وإخوتُها. وهو الشاعر بعد قراءته لملحمة أحمدى خانى، بعد قراءته لذبح ملآيي جزيري كخروف بيد الحبيب في عيد الضحى، هو الشاعر لم يعد يهتم بمظهره الخارجي، إنه يهملُ غسل بنطاله، وشعرهُ لا يمشّطهُ، يفقدُ الشهية إلى الطّعام، ويفضّلُ صحبة المجانين على العقلاء. أحياناً كثيرة تراهُ على طريق عامودا- قامشلي، سارحاً، ينظرُ جهة "بريفا"، ينظرُ جهة "كري موزا". هو المتفوّق في المدرسة يصبحُ من المتأخرين.
اعذرني حين أخلطُ بيني وبينك، عزيزي في الموت....
على كري شرمولا، يقفُ إبراهيم فرمان حسّو، ينظرُ جهة الجامع الكبير, إنّهُ ليس وحيداً، بصحبته مجموعةٌ من السرياليين من شعراء عامودا. السرياليون أيضاً يريدون أن يعّرفوا الموت، يريدون أن يسمعوا نكتة الموت الأرجوانية، وينظرون إلى مناجله في عنق صديقهم وأخويه. إنّهُ الخريفُ، تنهمرُ التصاويرُ اللامعقولة على رؤوس السرياليين، وسيّارةٌ ببساط ملوّن, بثلاث جثث لثلاثة أخوة، كلُّ واحد منهم بقامة عذبة, تتقدّمُ ببطء:
- خيالُك أكبرُ أيّ‍ها الموتُ من خيالنا
يقولُ السرياليّون.
ثم، في القامشلي يقولُ لي بعد سنوات:
ـ هل كتبتَ تلك القصيدة عن العشب أو تمددت فوق العشب وكتبتَ القصيدة تلك؟!!.
آنئذ، قلبي ملبدٌ بحدائق الحبّ في أوراقها الصفراء الخريفية، آنئذ، عيناي مأخوذتان من شيطان الحبّ، حمراءُ، كسيرةٌ، هالكةٌ. أبتسمُ لابتسامته. نحن الشعراء نحبّ لنحب، لا لنتزوجَ من نحبّها - هذه مزحتنا. وتراني ملبداً بوسخ حدائق الخريف. أيّها الشاعر- لا أميّزُ في الحبّ بين أمينة وكوردستان!!!
أعرفُ أنك تفضّلُ الحديث عن هذه الأمور، وأنا لا أعرفُ غيرها، والعشبُ في عامودا في بداية الربيع ناعمٌ، تهبُّ عليه نسماتُ الكورد هناك من الشمال، والجبالُ تزرقٌّ. العشبُ ينتظرُ عدة شهور أُخرى، كي يشتدّ عودهُ أكثر ويطول ظلّهُ، ويأتي العشّاقُ مساء من مدينة عامودا، يتجوّلون في طرقاته، هنا وهناك، ينمو عشبُ "العندكو"، ويوزّعُ رائحته حتى طرق المدينة. في الرّبيع تنمو العواطفُ أيضاً، وأثداءُ الفتيات ووجناتهنَّ تحمرُّ. وفي الربيع يتمددُ شعراءُ عامودا فوق عشب العندكو هناك في البرية، قلوبهم جاهزة للحب وكتابة الشعر. هناك مثل صيادين مهرة يتحفّزُ الشعراء، كي يظفروا بلمحة من تفاحات حبيباتهم وتشتغلُ الأقلامُ.
في ترابك وعشبك،
تمدُّ أيضاً يدك إلى قلم شعرك.