٥‏/٢‏/٢٠١١

كان جلبابه حالكاً كالليل الخالي من النجوم. ينام قلقاً وينهض حائراً فيما يحيطه من نوازع وصراعات دفينة. تراوده أحياناً كثيرة أحلاماً جوفاء ومطامع دنيوية باهتة الألوان .. وأينما تصادفه تراه لابساً جلبابه الحالك. صلواته المكثَّفة بالطلبات أوشكت أن تغيظ الله. يخامره أحياناً مشاعر الشكوك بوجود الله لكنَّه ينحّي هذه المشاعر جانباً، ولكن سرعان ما تبقى معلَّقة بين ثنايا اللاشعور.يقترب من المرآة .. وعندما يرى هذا الاسوداد  ممتدّاً على مساحة المرآة، يشعر بحزنٍ عميق في قرارة نفسه، ويتذكَّر شبابه الّذي امتصّه هذا الرداء الطويل .. يمسك مشطاً ويبدأ بتمشيط لحيته الطويلة الملوّنة بالأبيض والأسود .. الابيضاض يزداد كثافةً عاماً بعد عام وهذا البياض يذكِّره بالكهولة والذبول. كانت اللحية عمرها طويلاً فأخذَت امتدادها على صدره الفسيح. أوّل البارحة صادف شابَّاً وسيماً عند منعطفِ الشارع. دار بينهما حوار جادّ وهادئ. استعرض الشاب قصصاً يافعة مستمدّة من رحيق الشباب. وبعد حوار طويل أبدى كلّ منهما للآخر أبجدياته العريضة في الحياة، وقبل أن ينصرفا في سبيلهما قال الشاب:عفواً أيُّها الشيخ الكريم، بودّي أن أسألكَ سؤالاً خاصّاً، لكنّي أشعر بنوع من الإحراج تجاه وقارك المبجَّل!أجاب الشيخ: تفضَّلْ يا بني فكلِّي آذانٌ صاغية.تظاهر الشاب بأنَّه محرج من الشيخ، إلا أنّه كان مهيئاً نفسه لهذه (المعركة) النقاشيّة، فقذف سؤالاً يقول فيه:هل أستطيع أن أعرف من فضيلتكم الموقَّرة أين تضعون لحيتكم عندما تخلدون للنوم؟ هل تضعونها تحت اللحاف أم فوقه؟!.. ولماذا راودكَ أن تسألني هذا السؤال؟بالحقيقة تصوَّرْت أن يكون لي لحية طويلة، وسألت نفسي هذا السؤال أيضاً ووجدت نفسي محتاراً للإجابة عن هذا التساؤل، لهذا أحببت أن أساله لسماحتكم، وأنا أعلم يا فضيلة الشيخ أن سؤالي فيه نوع من الفظاظة والخصوصيّة، ولكنّي أعلم أيضاً أنَّ فضيلتكم تملكون صدراً رحباً حتّى ولو كانت الأسئلة خصوصيّة من هذا النوع .. وبصراحة أيُّها الشيخ الكريم لديّ الرغبة أن أعرف أين يضع الشيوخ لحاهم أثناء نومهم العميق!أجاب الشيخ: (بعد هذه المقدّمة المدمَّسة)، بالحقيقة يا بنيّ أنا لا أعرف أين أضع لحيتي أثناء النوم؟ .. ولا أفكِّرُ أصلاً بهذه المسألة، أحياناً أضعها تحت اللحاف وأحياناً أضعها فوق اللحاف. ولكنّ (مبتسماً)، لماذا تسألني تحديداً هذا السؤال؟بالحقيقة هو مجرَّد تساؤل ونوع من الفضول لا أكثر.هزَّ الشيخ رأسه ثمَّ أردف يقول: على أيَّةِ حال سأخبِّرك غداً عن المكان الّذي تتموضع فيه لحيتي.تمتم الشاب ثمَّ قال: تذكَّرْ هذا جيِّداً يا فضيلة الشيخ، ولا تنسَ أين ستضع لحيتك قبل أن تستسلم للنوم؟سأتذكَّر هذا وسأخبّرك عن مكان تموضعها!عند المساء صلّى الشيخ صلاته المعهودة، وعندما حان ميعاد نومه تذكَّر حديث الشاب .. دخل الفراش وغطّى نفسه جيِّداً. وضع لحيته بادئ الأمر تحت اللحاف، لكنّه سرعان ما ملَّ من وضعيَّتها فأخرجها ووضعها فوق اللحاف متصوِّراً أنَّ وجودها هكذا أكثر راحة له وبعد لحظات شعر أنَّ وجودها خارجاً لا يريّحه فوضعها داخلاً .. ثمَّ اشتدَّ تركيزه على وجودها تحت اللحاف أم فوقه .. وأعاد وضعها خارجاً وداخلاً عشرات المرَّات إلى أن وصل إلى مرحلةٍ لم يعُدْ قادراً على النوم! .. وأصبح جُلَّ تفكيره محصوراً بلحيته وبدأَ يهمس في سرِّه قائلاً:فعلاً كان ذلك الشاب معه الحقّ أن يكون محتاراً في الوضعيّة الّتي سيضع فيها لحيته المفترضة .. تلمَّس الشيخ لحيته ثمَّ نهض متوجِّها إلى المرآة وبدأ يحدِّق بوجهه .. كانت عيناه حمراوان وجبينه متصبِّباً بالعرق. شعر بحكّة غريبة في ذقنه .. حكَّ ذقنه، لكنَّه ما كان يستطيع أن يحكَّه جيّداً .. ولم يجدْ نفسه إلا وهو يزرع الغرفة جيئةً وذهاباً وبعد رحلةٍ ذهابيّة وإيابيّة طويلة، توجَّه نحو الحمّام وسؤال الشاب مايزال يتماوج في ذهنه. همس مردِّداَ حديث الشاب، (لا تنسَ أين ستضع لحيتكَ قبل أن تخلدَ للنوم)! ..هزَّ رأسه بحركةٍ إيقاعيّة نحو الأعلى والأسفل، ثمَّ تمتمَ بعبارات غير مسموعة .. كان يخاطب نفسه، شعر أنَّه يعبر دائرة من الحيرة ولم يجد نفسه إلا وهو يخلع ثيابه ثمَّ بدأ يستحمُّ بماءٍ فاتر، ظنَّاً منه أنَّ الاستحمام سيمنحه استرخاءً واستسلاماً للنوم، إلا أنّه ازداد نشاطاً وحيويةً، واستهواه أن ينظر إلى جسده العاري في المرآة، ثمَّ تمتم أين اختفى ذلك الحجاب المخيف؟ .. مغبونٌ أنتَ أيُّها الجسد تحت رداء العفاف!كانت قطرات الماء تتساقط من لحيته الطويلة، تذكّر باكورة شبابه كيف كان يحلق ذقنه يوميّاً كي يظهر وسيماً .. وتهاطلَت عليه الأسئلة من كلّ جانب، وشعر أنَّه يتأرّجح فيما بين العوالم الروحيّة والعوالم المادّية، وخُيِّل إليه أن نزوعه المادّي ـ أحياناً ـ يتأرّجح على نزوعه الروحي.كان محتاراً ومشوَّشاً من هذه التأرّجحات الّتي كانت تراوده في بعض الأحيان. هزّ رأسه وحاول أنْ يُمعنَ في الماورائيّات، كانت تبدو له هذه الماورائيّات هلاميّة للغاية، ولم يستطِعْ أن يتلمَّسَ طريقاً محدَّد المعالم لهذه المناحي الّتي ينتهجها .. عاد إلى فراشه ورأسه يموج بالأسئلة، كوَّر نفسه تحت اللحاف .. وكان على وشك أن يأخذه النعاس لولا سؤال الشاب الّذي ماكان يبارح ذاكرته، وسرعان ما بدأت رحلة الحيرة تصارعه من جديد! .. وكلَّما كان يضع لحيته داخلاً أو خارجاً، كان يشعر بضرورة اخراجها أو ادخالها .. وهكذا قذفته الحيرة في متاهات مظلمة ولم يجدْ جفناه سبيلاً للنوم! .. ثمَّ همسَ لنفسه:ما هذا البلاء الّذي جاءَني من جرّاء لقائي العابر مع ذلك الشاب؟ .. وهكذا بدأ الشيخ يحاور نفسه بشرودٍ محيِّر، وكان سؤال الشاب يأخذ أكبر المساحة الشروديّة المحيّرة .. الأرق كان يحاصره من كلِّ جانب وبدأ يتقلَّب في فراشه ساعاتٍ طوال، ثمَّ استسلم للنومِ مكشوفاً!وفي صبيحة اليوم التالي، نهض بتكاسلٍ شديد من نومه، وما كان يعرف قطّ أين وضع لحيته خلال النّوم، الشيء الوحيد الّذي كان يعرفه، أنَّه كان مؤرَّقاً جدَّاً ليلة أمس وليلته كانت أشبه ما تكون بليلة مسكونة بالأشباح!!
اللوحة للكاتب  والفنان صبري يوسف
ستوكهولم:11/8/1992
اللحية واللحاف: صبري يوسف
مواليد سورية ـ المالكيّة/ديريك  1956.- حصل على الثانوية العامّة ـ القسم الأدبي من ثانويّة يوسف العظمة بالمالكية عام 1975.- حصل على أهلية التعليم الإبتدائي، الصف الخاص من محافظة الحسكة عام 1976.- حصل على الثانوية العامة ـ القسم الأدبي كطالب حرّ من القامشلي عام 1978.- درس الأدب الانكليزي في جامعة حلب وإنتقل إلى السنة الثانية، ولم يتابع دراساته لأسباب بكائيّة متعدّدة.- حصل على الثانوية العامّة عام 82 القسم الأدبي كطالب حرّ مخترقاً القوانين السائدة آنذاك، حيث صدر مرسوم وزاري يمنع من تقديم الطالب لنفس الثانوية العامّة التي نجح فيها مرتين لكنّه لم يتقيّد بالمرسوم فتقدّم للإمتحانات للمرّة الثالثة على أنه حصل على الإعدادية فقط وهكذا اخترق القانون بالقانون، لكن قانونه هو!- خرّيج جامعة دمشق، قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية ـ شعبة علم الاجتماع عام 1987.- أعدم السيجارة ليلة 25. 3 . 1987 إعداماً صورياً، معتبراً هذا اليوم وكأنّه عيد ميلاده، ويحتفل كل عام بيوم ميلاد موت السيجارة، لأنّه يعتبر هذا اليوم يوماً مهمّاً ومنعطفاً طيّباً في حياته.- اشتغل في سلكِ التعليم 13 عاماً، في إعداديات وثانويات المالكيّة، ثمَّ عبر المسافات بعد أن قدَّم استقالته من التعليم، واضعاً في الاعتبار عبور البحار والضباب، مضحّياً بالأهل والأصدقاء ومسقط الرأس بحثاً عن أبجدياتٍ جديدة للإبداع.- أصدر مجموعته القصصية الأولى: "احتراق حافّات الروح" عام 1997 في ستوكهولم.- أسّس دار نشر خاصّة في ستوكهولم عام 1998، وأصدرَ الدواوين التالية:ـ "روحي شراعٌ مسافر"، شعر، بالعربيّة والسويدية ـ ستوكهولم   98 (ترجمة الكاتب نفسه).ـ "حصار الأطفال .. قباحات آخر زمان!" ـ   شعر  ـ  ستوكهولم  1999ـ "ذاكرتي مفروشة بالبكاء" ـ قصائد ـ ستوكهولم  2000ـ "السلام أعمق من البحار" ـ شعر ـ  ستوكهولم  2000ـ "طقوس فرحي"، قصائد ـ بالعربيّة والسويديّة ـ ستوكهولم  2000  (ترجمة الكاتب نفسه).ـ "الإنسان ـ الأرض، جنون الصولجان" ـ شعر ـ ستوكهولم   2000- هناك مجموعة قصصية مخطوطة، تتناول مواضيع كوميدية ساخرة، في طريقها إلى النور.- يعمل على نصّ مفتوح ، "أنشودة الحياة"، قصيدة شعرية ذات نَفَس ملحمي، طويلة جدّاً، تتألّف من عدّة أجزاء، كل جزء (مائة صفحة) بمثابة ديوان مستقل، ومرتبط بنفس الوقت مع الأجزاء اللاحقة، أنجز حتّى الآن الجزء الثامن، ويعمل على الجزء التاسع والعاشر، يتناول قضايا إنسانية وحياتيّة عديدة، مركِّزاً على علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان كمحور لبناء هذا النصّ.- تمّ تحويل الجزء الأوّل من أنشودة الحياة إلى سيناريو لفيلم سينمائي طويل من قبل المخرج والسيناريست اليمني حميد عقبي وقدّم السيناريو كإحدى محاور رسالة الماجستير في باريس ..- إشتغل مديراً لبرنامج "بطاقات ثقافيّة" في الفضائيّة السريانية، صورويو  TV  في القسم العربيّ وقدّم عدّة لقاءات عبر برنامجه مع كتّاب وشعراء وفنانين ومؤرّخين ... حتى غاية عام 2004.- تمّ إختياره عام 2004 مع مجموعة من الشّعراء والشاعرات للمساهمة في إصدار أنطولوجيا شعرية باللغة السويديّة  حول السلام، وقد تمّ إصدارها في آذار 2005.- يكتب القصّة القصيرة، قصيدة النثر، القصيدة الغنائيّة، المقال، ولديه اهتمام في الترجمة والدراسات التحليلية والبحوث الاجتماعية والرسم!.. وينشر نتاجاته في بعض الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية.- مقيم في ستوكهولم ـ السويد منذ عام 1990