٢٧‏/١٠‏/٢٠١٠

شرمولا:
الشيخ توفيق الحسيني
في البدءِ كانتْ رابية ( شرمولا) تشمخُ , وتشرئِبُ مُطلة على أكوام من بيوت طينية , ومجموعات منازل صغيرة متناثرة أحياناً , وفي أكثر الأحيان متلاصقة أو متقاربة , وكأنها تلتمسً الدفء , وتنشدُ الطمأنينة والأمان بهذا التقارب و التلاصق , شُيّدتْ جميعُها من اللبن الترابيّ , تغطيها السقوفُ الخشبيّة المتخذة من قامات الأشجار و سيقان نبات القمح تسترُها طبقة من الطين المجبول بالتبن ,نُفِذَ ذلك كله بأسلوب متقن ,ولكنه قريبٌ من البساطة والعفوية ,وكأنّ كلّ بيت يسعى إلى معانقة الآخر ,ويحاول ضمَّه إلى حضنه , وهكذا كان ساكنوها متآلفين يجمعهم الحبّ والوئام لا تفرقهم الأهواءُ والأثرة , وإنْ شجرَ نزاعٌ أو دبَّ بينهم شقاقٌ ,واختلفوا فإلى حين . في وسط هذه المجموعات المتآلفة من الدور المتعانقة , كانَ جدولٌ كبير ,أو نهر صغير ينسابُ هادئِاً .. رقراقا .. متألقاً في كلّ فصول السنة , بيدَ أنه كان إذا أقبلَ عليه الربيعُ و صهرت أشعة الشمس الدافئة الثلوجَ في جبل طوروس في الشمال خرج هذا النهرُ الصغير , أو هذا الجدول الكبير عن هدوئه و سجوّه و رقته , فغضبَ وصخبَ وهدرَ , متوعّداً المنازلَ المستكينة المستسلمة لضفتيه في اطمئنانٍ و سلامٍ ,وهي تحلمُ بشهور الصيف ,وموسمه الذي يدّخر بينَ طيّاته غلالاً كثيرة ,وخيراً وفيراً . نهر عامودا أو نهر الخنزير ينبعُ من سفوح جبال طوروس . وينحدر إلى السهول الجنوبيّة مرورا بعامودا , وانتهاءً إلى نهر الخابور الذي يصبًُّ في مياه الفرات . حيثُ تمتزجُ مياهُ لأنهار الثلاثة , ولا نعلم سببا لإطلاق هذا الاسم عليه سوى أننا نعلمُ أنّ خنزيرا بريّا بحجم الجاموس شُرّدَ بعد أنْ تاه عن قطيعه , و ضلّ طريقه ,وهامَ على وجهه حتى وصلَ إلى مشارف عامودا . واجتاحَ أحد البساتين و طفقَ يعيثُ فساداً في  المساكب , ولما شاهده الخوليّ ( البستاني) ظنّه ثورا متطفلاً يستهينُ بوجودهِ , فأسرعَ إليه , ولما دنا منه عاجله بضربة من مجرفة كانتْ بيده , فاهتاجَ الحيوانُ وثارتْ ثائرتُهُ , فاندفعَ إليه , وانقضّ عليه بأظلافهِ . وسدّد إليه طعناتٍ من نابيهِ القاتلتين , وأثخنَ فيه الجراحَ والكلومَ ,وخرَّ الرجلُ على الأرض مضرّجا بدمائهِ , وكان رجالٌ آخرون يراقبون المشهدَ , فهرعوا لنجدتهِ ,وهم يحسبون الخنزير عجلاً أو بقرة مهتاجة . ولما وقعتْ عين الخنزير عليهم كرّ عليهم ,وأمعنَ فيهم طعناً و تجريحاً , ثم تابع طريقه بهدوءٍ ,و سار إلى جانب النهر حتى وصلَ إلى مركز الشرطة في الجنوب فاصطادته البنادقُ ,وأردته قتيلاً ثم جُلبت جثته إلى مقربة من المخفر , فابتاعها رجلٌ يديرُ حانة صغيرةً في المنطفة الجنوبيّة بثمنٍ بخسً.
اللوحة للفنان: نهاد الترك