٩‏/١٢‏/٢٠٠٩

إبراهيم حسو :كتاب الاشتياق و الشهوات الباردة - حين كتب عمر الشيخ نصه ( سم بارد ) إنما كان يريد الغوص إلى ابعد من النص ذاته , إلى عمق النص , إلى أصالته الحرة التي تشبه هلام عوالم أخرى لم تطأها عينا الإنسان , عوالم تشبه تشظي الإنسان و انقسامه بين أن يكون على هامش الكون أو على متنه ، لا فرق طالما يصارع حقيقة وجوده و يصبح معنى الوجود و جذره , و بين أن يكون مواجهاً أو نداً يقاتل لقلب معنى الصمت ( البرد ) و الصخب (الحرارة ) و التيه ( صحراء الذات ) و مجابهة العالم في محو يباسه و تفكيكه إن أمكن , كتابته مجبولة من مناداة للأنثى و صراخ أعمى لهجرانها و الأحرى مناجاة خافتة خجولة لاستدراج الأنثى إلى وكر (النص) و الانقضاض عليها شعرياً عبر التفنن في وصف تضاريس جسدها أولاً و سحلها جغرافياً و لا يكتفي ( الشيخ) بسرد مغامراته الجنونية في ترويض جسد الأنثى بل يحرّضها إلى القيام بثورات علنية من جسدها بدءاً من الشهوات الظاهرة و انتهاءً بالشهوات الكتومة التي تخفي الكثير من عبودية الجسد للذة محرمة طازجة بالألم و النار و السكينة وتستجلب الشهوة هنا عبر الإطاحة بجماليات الجسد و إظهاره كحاويات اللذة و حسب :‏ و المثير أن ( سم بارد ) تتمتع بفورة تصويرية هائلة ( كأنك في مشاهدة فيلم سينمائي ) تدفقات لا نهائية لحركة الصور تؤدي دور الدلالات أو بالأصح تمثلها عن طريق تتبع أو اقتفاء أثرها في السياق و هي التي تشخص متعتها و مثولها الايروتيكي و تحتم معناها , إقبال لا مثيل له على مراوغة اللغة أو محاولة اللعب عليها عبر إقامة تجمعات للمفردات ذات دلالة جنسية شبقية لتفك أو بالأصح لتتحول إلى مدلولات إنسانية ذات معان أرحب وأوسع , ولعل إصداره الشعري الجديد (متى أصبح خبراً عاجلا ً ) ليس إلا مطاردة أخرى للأنثى أو محاولة جديدة لفضح أسرار جسدها و بطرق و ألاعيب لا تضمر الكثير من المراس و الحيلة في استدراجها و احتوائها في قفصه الشعري , لتبدو انجلاء الأنثى الدائم هنا موضوعاً زائلاً و ليس شريكاً في إنتاج نص يتقلد ( المعرفة ) و ذلك ( الفكر) و( الجمالية ) سواء في القول الشعري أو الفعل التخييلي . و المعروف إن نص قصيدة النثر اليوم ما عاد خطاباً ذاتياً و يوميات وقائعية تعول على منظومات قوامها السرد و القص بل بدأ هذا النص في تجديد إقامة ارتباطات جديدة داخل كيانها و تفعيل ميزات أكثر شاعرية من أحوال المخاطبة الشفوية و الومضة ( الالتماعة الشعرية) أو ما يقولون عنها القفلة المختتمة , و بالتالي لم يعد نص قصيدة النثر الحديثة يثير شعرية التفاصيل اليومية كما كان سائداً في الثمانينات و لم تسعف الجزئيات الحياتية البسيطة و المهملة جسد النص كما كان سائداً في التسعينات التوق إلى ( المفارقات) اللفظية و (الإدهاش ) الصوري الصادق العفوي غير المطحون بلعاب اللغة و مرقة البلاغة المهدورة:‏ و مع ذلك تنأ نصوص ( متى أصبح خبراً عاجلاً ) عن الصخب و اللجب الذي يمكن أن تثيره هكذا نصوص رغم حفاوتها بالحياة و ضجتها و التفاصيل الخاصة جداً التي تصل أحياناً إلى كشف أسرار شخصية تضفي غالباً صلابة شعرية مباغتة , و كثيراً ما يلجأ الشاعر إلى استعمال مفردات حياتية ملاصقة به ( جهاز الكمبيوتر و ملحقات الانترنيت ) و توظيف هذه المفردات ضمن تكتل شعري قوامه الحركة و الصوت و اللون و الحس في تخليق تشترك فيه العين و اليد و الفم والأذن، كذلك يركض الشاعر بأدواته إلى أمكنة و أسماء و زوايا و مستعملات يومية ( أجهزة كهربائية ) بدءاً من الجهاز الخليوي و انتهاء بالتكييف و شفرات الحلاقة و كلها في محاولة لقلب الخواء الشعري السائد و ترسيم حدود جديدة لنص نثري يتوجه لعامة الناس و يتأقلم و بسلاسة مع مزاج و مذاق القارئ الكسول العابر :‏ كَهْرُباؤكِ سحبتني / بِفُولطاتها الصّاعِقة، / وقَبْلَ أَنْ أَصِيْرَ / فِيْ مَكَانِ الخَطَر / فتحتُ / مِسْمَارَ / الأمَانِ، / تفَجّرتُ فيكِ.‏ الى مستوى آخر لغوي تنفجر المفردات و تتناثر شظاياها في جمل لا تنتهي من السؤال عن تبعثرها و فوضاها كأنها في عجلة من شأنها أو مصابة بذعر خفي تجفل الكلمات و تخنقها , مفردات تتطاير على طول البياض , و الشاعر يتفرج على مشهد ذبحها غير آبه بما تضمرها آهاتها المجلجلة , و الألفاظ المكررة المستباحة التي زرعت على مشارب 135 صفحة لم تكن عبثية أو طارئة , بل هي التي أنقذت السياقات الشعرية من تهورها و انفلاشها. ( متى أصبح خبراً عاجلاً ) - شعر - عمر الشيخ - دار التكوين بدمشق 2009