١٠‏/١٢‏/٢٠٠٩

إبراهـيم حـسّـو: يزاول الشاعر السوري علي سفر ( مواليد 1969) حالات كتابية متنوعة ، فبدأ في الثمانينات شاعراً دون أن يصدر أية مجموعة شعرية إلا بحلول التسعينات في إصداره مجموعتين ( بلاغة المكان 1994) و( صمت 1999) و في التسعينات أيضا بمجموعتين ( يستودع الغياب 2000) ليترك كتابه الشعري الأخير ( اصطياد الجملة الضالة 2004 ) مفتوحاً لمقصات النقد التي جزت الكثير من جاذبيته و فرادته , بعد هاتين المجموعتين يتوقف علي سفر عن النشر دون أن ينقطع عن كتابة الشعر متفرغاً لمهنته في التلفزيون السوري كمخرج برامج و أفلام وثائقية كان أخر فيلم له (مطموراً تحت غبار الآخرين ) الذي حاز على جائزة الإبداع الذهبية في مهرجان القاهرة 2008 للأفلام التسجيلية مع الشاعر إبراهيم الجبين بالإضافة إلى ذلك ظل علي سفر متابعاً المشهد الشعري السوري مقترباً منه في كتاباته النقدية التي كانت تنشر هنا في الصحافة المحلية أو هناك في القدس العربي و الزمان اللندنية و مبتعداً عنه أحيانا بسبب انشغالاته المهنية و عمله في الإعلام عموماً , ليبدو للقارئ إن هذا الشاعر لا يعرف الهدوء و الاستقرار في مهنة إبداعية معينة و رغم زخم إعماله يظل هذا المبدع من أكثر الشعراء الذين يعملون بحرفية عالية على نتاجه الشعري و خاصة في انتقالاته اللغوية و البلاغية المثيرة التي قلما تلحظها في المشهدية الشعرية السورية , في هذا الحوار اقتراب حذر من عوالم علي سفر الشعرية و النقدية التي لم تخلو من خيبة أمل و انزعاج من المشهد الثقافي السوري خاصة الشعري منه : * : كتب الشاعر السوري عهد فاضل عنك مرة: كل من يقرأ شعرية علي سفر يلمح ذلك الاشتغال والمقدرة على توليد الصمت في عز تعدد الأصوات. أشير إليه، أحياناً، كما لو أنه "ضد" جيله، على المستوى الفني. إلا أن الحقيقة أن شعريته هي جزءٌ من المختبر النادر داخل سوريا حيث كانت النجاة - ومازالت - بالغة الصعوبة, بعد هذا التصريح كيف ترى المختبر الشعري السوري و في أي اتجاه يسير قطار هذه الشعرية ؟ - المختبر الشعري السوري يعيش في وضعية غير سوية و بالأحرى أراه مأزوماً إذ أن قراءة الفنون و تاريخها تشير إلى أن الحالة الفنية و سوية الإبداع إنما يقاسان بالقيمة المضافة التي يمنحها المبدع من خلال عمله للسياق الفني الذي يعمل فيه .. و أنا حين أرى المشهد الشعري و مختبره راهناً لا أجد قيماً مضافةً يعمل عليها جيل الشعراء الذين بدؤوا يحتلون المشهد ، هناك شعراء باتوا غرقى النمط أو النوع ، فهؤلاء يكتبون قصيدة التفعيلة و أولئك ظلوا يكتبون القصيدة العمودية ( و هم بالمناسبة مستمرون في ذلك و مصرون على أنهم الشعراء الحقيقيون ) و البحث عن التجديد بقي محصوراً بالأجيال الجديدة التي تعاطت مع قصيدة النثر و في مساحة هؤلاء أغلب ما نقرأه مكرر عن تجارب سابقة و لا أحد مهجوس بفكرة التجديد أو الاشتغال على اللغة .. و طبعاً حين تتم مواجهة البعض منهم بهذه الفكرة يتهمونك بأنك تنحو بالشعر بعيداً عن العفوية و عن الصدق و ما إلى ذلك .. فأنا مثلاً متهم بأني اكتب بلغة معقدة و أنني أنحو صوب الغموض و هذا يعطل الشعرية برأيهم طبعاً.. أنت حين تشتغل على اللغة في كتابة الشعر لا تفكر بما يريده المتلقي بل تشتغل على شعريتك و بحسب ما وصلت إليه من رقي في التعاطي مع العنصر الأساسي في بناء الشعرية ..و المختبر الراهن إذا وجد فهو لا يعمل وفق هذا الاتجاه .. إنهم يكررون أنفسهم و يكررون قصائد غيرهم في مختبرات موازية في المنطقة العربية ..و إذا شئت أن احدد أكثر إنهم نيام في غرفة مرايا قصيدة اليومي أو قصيدة الإنسان الصغير كما سماها محمد جمال باروت .. و بالنسبة لي حين اكتب أحاول الخروج من التصنيف و أترك للآخرين أن يفكروا بما كتبت.. * : كتابتك للشعر هي أشبه برفع ستار عن قبح الحلم الإنساني , أشبه بإنارة العالم بعود ثقاب واحد بالشعر وحده تدرك قيمة و قبح الحلم الإنساني عندما يكون الإنسان حاضراً فيه و يصبح جزءاً من هذا القبح , هل ترى إن الشعر هو اللغة الذي يجعل العالم يتساءل عن ماهيته, أقصد الحقيقة القابلة للصياغة و التصديق ؟ - في هذا الزمن لم اعد استطيع التفكير بالشعر بهذه الطريقة ، لدي رغبة بأن أكتب الشعر باللغة و بالصورة و أحياناً بتأمل الموسيقى و البحث عن معادلات موضوعية لها.. و لكن ما يجمع هذه الرغبات كلها في إناء واحد أنها تبدأ من ضرورة إعادة النظر في البنى الرازحة التي استقر عليها العالم في بداية الألفية الجديدة .. لقد بدأت و غيري الكتابة في أزمنة قاسية على المستوى المحلي و العربي و العالمي و قد انعكست هذه القسوة على ما كتبناه جميعاً.. فبدت كتابتنا مبشرة بالخراب ..أنت تستطيع الآن أن تجد فيها صدىً لأطروحات التغيير في المجتمع رغم أننا كنا ندعي أننا ضد الأيديولوجية و لكننا في الحقيقة كنا نصنع قصيدة أيديولوجية بامتياز .. قد لا تستطيع أن تلحقها بالأيديولوجيات السائدة و لكنا كانت تقترح أيديولوجيا خاصة بها ..ربما تكون نسقاً موازياً لقصيدة الرؤية و لكنها كانت تتمرد عليها عبر نمط مختلف هو قصيدة النثر و لهذا فإنك ترى الجميع مستنكفاً عن التحديق بما كتبه جيلي وقد دفعنا الثمن غالياً إذ لا ترى أية قراءات معمقة بنصوص جيل التسعينيات..و ربما نحن متروكون نصياً كما كنا للريح و للغبار.. * : في كتابك (صمت 1999 ) غوص في المعرفة و تعمق في المحسوسات , هناك تلقائية عقلانية إن صح التعبير في مجرى نصوصك (اصطياد الجملة الضالة ) و ( يستودع الغياب ) كيف يحافظ علي سفر على سر هذه التلقائية التي كما أراها سر من أسرار الانبثاق الشعري و عتق حضوره ؟ - الأمر يتعلق بالتأكيد بحضور الشاعر في عصره.. أنا مهتم بالشعر و بالسينما و بالمسرح بشكلٍ متوازٍ أي أنني أعمل على مشاريع تنبع من مكان واحد هو الفلسفة و فلسفة الفن تحديداً و رغم أنني لا انطلق من أوهام كبيرة إلا أنني أجد أن الشاعر يجب أن يغرق بالتأمل و البحث عن شكل مختلف لقول ما يريد .. عليه أن يقول نفسه لا أن يدعي و ينطق بغير ما هو كائن فيه ، عليه أن يحترم ما يعتمل في ذاته لا أن يقمعها و الشعر الذي تنتجه ذاته و مخيلته يجب أن يحترم من قبله قبل الآخرين .. و أنا أترك للمستوى الذهني أن يظهر في النص و لا أقمعه.. ربما قد يجد البعض في هذا الشيء مخالفة للصورة التقليدية للشاعر و لطريقة كتابته للشعر و لكن من قال أنني يجب أن أشبه غيري و أن أطبق نفس معايير صنعته؟ * : البلاغة... أنت من أكثر الشعراء السوريين الذين يعانون صراعات مع البلاغة و أكاد أقول أنت أكثرهم تحدياً لغوايات اللغة و تحذيراً من السلطة الخادعة للنص المفخخ و ما كتابك ( بلاغة المكان ) سوى صراع أكيد على جدلية صراع بين اللغة في حضورها و غيابها ؟ - ما تسميه أنت صراعاً مع البلاغة لم أنظر إليه أنه هكذا حين كتبت " بلاغة المكان " كان الأمر من زاويتي أبسط من هذا الشيء بكثير ، كان النص تجربة و استحقاق لما تراكم في ذهن الشاب الصغير الذي كنته من قراءات و رغبة في كتابة نص يضاهي ما كنت اقرأه للشعراء الكبار الذين اثروا بي و بغيري .. في ذلك الوقت كنت أرى نصوص الكتاب كتمارين كتابية أحاول فيها أن أكتب بطريقة مختلفة لا تتشابه مع أحد و تقول هواجسي في الأمكنة التي عشتها و لم يكن هناك صراع مع البلاغة قدر وجود رغبة في تطويع البليغ لصالح اليومي و المعاش في المكان .. وربما وجد البعض في النصوص هذا الصراع الذي تتحدث عنه و لكني في الحقيقة لست مهجوساً بالبلاغة لأنني أفكر بها على أنها جزء من متراكمات بناء النص و ليست عدوة له ، لا يمكن للشعر أن ينمو دون البلاغة و لكنك تأخذ من بحرها ما يناسبك و يناسب زمانك و ليس عليك أن تجعل النص مرتهناً له .. و هذه ليست وصفة شخصية أبعثها للآخرين بل هي شيء أساسي تنص عليه فلسفة الفن .. * : أعود مجدداً إلى كتابك ( بلاغة المكان ) حيث الاحتفاء بالأمكنة , بدمشق و ضواحيها , حيث يصبح الشعر معك سياحة بدون الاستعانة بالخرائط , بل تجوال في التجربة الإنسانية الحقيقية و ربما حريّ بنا إن نقول إن شعريتك أصبحت هذا الوعي الثقيل الذي يبقي اللغة مترصدة للممكنات و حدودها أو لنقل أنها تلك التجربة الحقيقية في ترتيب جدال أبدي بين الشكل و الموضوع و هما يستعيدان بدون توقف الحركة المزدوجة للغة و الصور . ؟ - حين صدر هذا الكتاب رأى البعض أنني أقوم بكتابة نص مفتعل حتى أن الشاعر لقمان ديركي اتهمني بشكل صريح بكتابة دليل سياحي لدمشق ، و أنا أتذكر هذه الاتهامات حين استعيد فكرة النص و المكان و أبحث في التجارب الأخرى التي كان المكان هو اللاعب الأساسي في النص ولكن و قبل أن أستغرق بالدفاع عن هذا الأمر علي أن أتوقف عند ملمح هام من ملامح عطب المشهد الشعري الراهن ألا و هو غياب الكتابة الشعرية وفق مشروع .. البعض توقف عند فكرة العفوية و نسي أن الشاعر يجب أن يعمل على مشروع مضموني .. هناك شيء يجب أن يقوله الشاعر يخصه و يخص الناس حتى و إن كان لا يضع نفسه في منبر موجه لأحد ما .. أنا اخترت أن أبدأ من المكان و بلاغته و لم أضع نفسي في موقع المتحدث عن الأنا الجماعية بالنبر الخاص بالجماعة ..تحدثت عن نفسي في هذا المكان و بالعكس ..و الحمولة ثقيلة حقاً في زمن التشظي و التبعثر خارج كل الممكنات.. * : أنت غاضبٌ على المشهد الشعري السوري , غاضبٌ على أسماء طارئة و التي بدأت تأخذ أمكنة واسعة من المشهد وتأثّر تأثيراً فعّالاً على الثقافة السورية برمتها , و بغض النظر عن ايجابية هذا التأثير أو سلبيته كيف يقرأ الشاعر علي سفر المشهد الشعري السوري بعد أن ابتعد ( كثيراً ) عن المشهد و صار كغيره من الشعراء المتميزين متفرجاً ؟ - فعلاً أنا غاضب على المشهد و ليس منه ، أنا أحس بالألم على مشهدٍ متداعٍ لا يشكل فيه الشعراء فئةً مؤثرة بوصفهم شعراء ينطقون بالشعر بقدر ما يكونون فيه مؤثرين عبر كونهم شعراء علاقات عامة ، أعطني اسم شاعرٍ واحدٍ من هذا الجيل تستطيع أن تجزم بأن هاجسه الوحيد هو الشعر و الإبداع حتى و إن آثر العزلة في رأس الجبل..! أعطني اسم شاعر واحد يؤثر في الثقافة السورية إن كتب ؟! لا يوجد ما يغضب من أحد و لكن ثمة غضب على حال المشهد الذي تتحكم فيه ثقافة العلاقات العامة و الخاصة .. لا أغضب من تقدم أسماء إلى الواجهة و لكنني أغضب من عدم وجود قيمة لما يكتب في الميزان الإبداعي الراهن .. أغضب من عدم تقدير الجيل لتجارب أفراده و تسويق البعض لأنفسهم بطريقة رخيصة ..؟ قد أكون غاضباً و لكنني لست مهتم بكل ما يحدث فالشعر يجعلك متسامح مع الآخرين خاصةً و أن التاريخ الأدبي يقول أن ما يبقى هو التجارب الحقيقية فإن تذكر التاريخ تجربتي فهذا شيء جيد و إن لم يفعل فبلا .. لقد استمتعت بما فعلت و كفى .. أبابيـــــل العــَـــدد : 37 تشرين الثاني 2009