١١‏/١١‏/٢٠٠٩

إبراهيم حسو: طنين المعنى المشتهى. يكتب بنيان السلامة في جديده الشعري (ذاكرة البياض ) الشعر كأنه ينحت في الصور أو بالأصح يخلخلها في نية منه استثارة التأويلات و اصطناع لغة ( صورية ) كشفية جديدة ذات حساسية مغايرة سواء عبر لعبة الانزياح أو تبديد العلاقات اللغوية فيما بينها كي تكون قادرة على التقاط عوالم جمالية و فضاءات تخييلية قائمة على استلهام مناخات شعرية غير معلنة , و يبذل السلامة طيلة انطلاقته الشعرية في نهاية التسعينات تجاوز التحولات اليومية التي تصيب قصيدة النثر السورية فإصداره المتأخر لمجموعته هذه جزء من تجربة شعرية ارتبطت بقصيدة النثر وحدها و نهلت من انتعاشتها في ذلك التنوع على إنجاز بنية تركيبية ذات مقولات مفتوحة على الغامض و الملتبس من طبيعة القصيدة الحديثة نفسها , ليقف القارئ مكتوف الحيلة أمام نصوص تتعدد فيها الأنماط و التأويلات و المعاني التي تتقاطر على طول النصوص ( كأن الريح ) ( وحوش ذاتي ) ( ذاكرة البياض ) أنماط تستكشف البنية الدرامية و الشكل المفتوح و تستخبئ ثقافة شعرية عالية بين قصائد قصيرة الطول و مقاطع متقطعة على شكل أفكار مكثفة و متشابكة و بين تأملات ذهنية خلقت الكثير من توترات داخلية فأرهقت على سبيل المثال ذلك الشحن اللغوي الذي كان يغذي الجملة الشعرية الواحدة ذات السياق الواحد و النسق الواحد , ثمة مخزون هائل للمفردات لم تستثمر لتجسيد تلك ( الأفكار ) و تسمين تلك ( المعاني ) التي بدورها تقدرعلى تحريك التجربة الحياتية و إقحامها في نشاط النص لتكون منتجة بدل أن تكون مستوردة , و أظن أن ما يعيب نص ( ذاكرة البياض ) و بشكل ملحوظ هو اعتماد الشاعر على التجربة الحسية ( الصورية ) على حساب التجربة الحياتية الشخصية رغبة منه في جذب القارئ إلى الأمكنة التي تعمل فيها المخيلة مجازرها و خداعها ( اللغوي ) بحق الواقعي ( النثري ) :‏ وردتان / تموتان بطلقة واحدة / و أنا أموت بوردة واحدة . / و في خدعة لغوية أخرى: / أنصفني جسد امرأة / من امرأة بادلتني .. جسدي . / لا باب يفتح للحب / ولا حب تفتح له .. الأبواب.‏ نص السلامة نص حر لدرجة انك تشعر بان كل كلمة تريد أن تخرج عن سياقها و نسقها , و كل جملة تتحرك وفق مشيئة اللغة وحدها و إن شارك الشاعر في وقف كلمة هنا و تقديمها هناك, نص متلاش و متلهف إلى الدهشة و الأصح غارق في الدهشة لكثرة ما يحمل من ( تلميحات ) و (مسوّغات ) تشكيلية غير معلنة أو مخبوءة في إطارها الشكلي , دهشة تثير فينا رغبة الكشف عن مكوناتها المعرفية و التقرّب أكثر لطاقة الكلمات و طرافة بنائها و جمالية تركيبها :‏ أعيش جراحي / خلف مرآة متكسرة الذاكرة / و أنا لا ذاكرة لي بدون الجرح / حين ظلك يشبه الصورة / أتفقد ريشتي / كأنني ارسمني / صحراء وارفة الظل.‏ صحيح أن الشاعر بنيان السلامة ليس شاعراً مغامراً على الأقل في مطارحة اللغة و البلاغة لكنه في ذاكرة البياض يبحث و في مزاجية غير معهودة عن ألعاب لغوية و تسال بلاغية يعلن نفسه شاعراً مراوغاً و مخادعاً يعقد صفقات من تحت طاولة ( قصيدة النثر ) لإخضاع النص وفق شروطه المزاجية و يبرم صداقات من فوق طاولة ( المخيلة ) للتخلص من طاغوت (الواقعي ) و على هذا فأنا اعتبره شاعراً ذكياً في اختباراته لقصيدة النثر , بل شاعراً ماكراً في استدراج مواضيع ذات أصناف ( نفسية ) خاصة , و أفكار تبدو للوهلة الأولى عادية لكنها تحمل مدلولات كونية و إنسانية .‏ ( ذاكرة البياض ) شعر - بنيان السلامة - دار الرائي دمشق 2009‏
جريدة الثورة السوريّة، كتب، الأربعاء 11-11-2009