عبدالرحمن عفيف: بين كري موزا وديار بكر (شيخ أحمدى حسيني، في ميلاده الخمسين). في "كري موزا"، حيثُ مزارُ الشيخ الكبير ـ جد من جهة الأب - هذا الجد الذي لم أرهُ؛ توفي حين لم أكن بعدُ في هذه الحياة. إن كنتَ في "توبز" أو في "حجي ناصرى"، عدّة كيلومترات على مبعدة من التل، ليلاً، في قلب ليل حالك، لسوف ترى فجأة كيف ينيرُ مزارُ الشيخ، نورٌ، تفكّر، ليس هذا بنور أرضي، يهبُّ إلى الأعلى، عدّة مرات ثم ثانية يقلُّ. - ثانية اشتعل مزارُ الشيخ الكبير في كري موزا، شاهدتُ ذلك بأمّ عينيّ. يقولُ الكثير من القرويّين في تلك النواحي... وأنا ـ ماذا يفعلُ جدّي بهذا النور الواسع في موته الأخضر على سفوح تلال موزا، ماذا يطبخُ جدّي في الليل المتأخر هذا، أو، أيحتاجُ للقراءة إلى كلّ هذه النار!؟ *** أسمعُ عن آمد، أسمعُ عن ديار بكر ـ لم أزر آمد ، لم أزر ديار بكر!! عاصمةُ ممالك كوردية في زمن سحيق، أنظرُ إلى الصور، أقرأُ في الأشعار، هناك يرقدُ جدّي الآخر، "بافي كال"، الجدُّ الأوّلُ للعائلة، في عامودا قيل لي لماذا سمّي بهذا الأسم، كان لما يزل شاباً وابيضَّ شعرهُ كالثلج، الأب الكهل، وآخرون يقولون ـ سمي هكذا للإحترام والتقدير. مزارُه في ديار بكر معروفٌ ومحبوب. أفكّر الآن، كم سيكون رائعاً لو استطعتُ مشياً أن أجتاز المسافة بين المزارين، من كري موزا حتى ديار بكر. أستطيعُ مشاهدة السفوح والقطعان في الربيع، أستطيعُ أن أتجول في المنحدرات وأعاين الأحجار في أودية الأنهار، أستطيعُ أن أستمع إلى أغاني الرعاة وأقطفُ العنب من الكروم. وفي الليل لسوف يتكفّلُ الجدّان بإنارة طريقي!! كلٌّ واحد سيقولُ لناره" ـ هبّي ياناري...الحفيدُ في الطريق بيننا!. ناران تشتعلان واحدة على تلال موزا والأخرى في قلب ديار بكر.. *** أودّ الكتابة عن الشاعر أحمد الحسيني، فيأ تي الجدّان لاقتحام كلّ شيء في مخيّلتي، وأحمد الحسيني يهمسُ لي" أعرفُ هذا، إنّهما أيضاً يفعلان هذا حين أكتبُ الشعر. ـ كيف لهما بهذه الطاقة أن يأتيا، هكذا بعيداً في المسافة والزمن؟ ـ هذا قدر، أو أننا نحملهما معنا أنّا نكونُ. *** بعد إحدى قراءات أحمد الحسيني في ديار بكر، تهديه إحدى أجمل الفتيات دفتراً، في دفتيه خصلةٌ من شعرها. هذه أثمن هدية تُعطى في الفلكلور الكوردي للشعر. *** في شعره: الكورمانجية مكتوبة بصفاء ذهبها. كما لم تُكتب من قبل. يقولُ "صََدَقَه" من بين أصحابه. تعريفُ صََدَقَه: من الكورد المهتمين بعمق بالفلكلور والتراث الكوردي، كان لهُ دكّان صغير، يبيعُ فيه القرطاسية والطوابع، ويلتقي هناك العديدُ من المثقفين، قريباً من بلدية عامودا، ودكّان العم شيخ سليم الحسيني. *** لم يتمّ تقديمُ شعره إلى الآن بشكل واف وجيد إلى قرّاء العربية. وفي الكورمانجية يقومُ صغار هنا وهناك بالغمز واللمز والحسد والجبن. *** هكذا في المستقبل. أذهبُ في يوم ماطر، مليء بالغيوم إلى بريّة عامودا، أذهبُ في يوم خريفيّ، مليء بالشوق والمكابدة، أذهبُ إلى بريّة عامودا، أذهبُ إلى كولا شيخي دودا، أذهبُ فأجدُ أحمد الحسيني، هناك تضربُ الرّياحُ شعرهُ الطويل ولحيتهُ، والدموع تملىءُ الكون، ينظرُ إلى الأحجار التي أبرزها فيضان نهر عامودا قبل عدّة أيّام، ويصيح: - شيخى دودا، شيخى مه زن، نارُ كوردستان. وأنا تضربني ريحٌ قويّةٌ، تميلُ بكامل قامتي، فأسقطُ، ثمّ أقومُ وتضطهدني دموعي. *** هكذا في المستقبل. نلتقي في محطة باصات الجمعية التعاونية في عامودا، يأتي الباص بعد عشرين دقيقة، نركبُه إلى جهة القامشلي. إنهُ الشتاءُ، ننظرُ إلى الحقول، لا نتكلّم على الإطلاق. حين نصلُ إلى بريفا، يتوقف الباص وننزل متوجهين إلى عماد الحسن. عماد الحسن وأمه ينتظران على جانب الطريق، على وجهيهما ابتسامةٌ واسعة: - أتعرفان، لقد طبخنا لكما على نار شيخي كري موزا!! *** شيخ أحمدى حسيني. سأقومُ الآن أصنعُ لي قهوة على نار الجدّين. أتمنّى لك عمراً مديداً بمناسبة ميلادك الخمسين. حقّا اندهشتُ حين تلفن لي "محمدو"، وقال أنك بلغت الخمسين. قلتُ: ـ أحقاً.. إنّه لا يزالُ مثل الجن...!. إنّها تلك النار, بين كري موزا وديار بكر قوية لا تعرفُ السنين!!!. ألمانيا