لقمان ديركي: ليس للكردي إلا العرس. لأسباب "غامضة"!!!، لا يستطيع الكردي في سوريا إقامة محاضرة أو أمسية شعرية بلغته الأم. كما أنه لا يستطيع أن يحصل على موافقة لإقامة حفل غنائي كردي أو مسرحية كردية... الخ. ولكن يُسمح له بعد الحصول على الكثير من الموافقات إقامة عرس!!. وهكذا يصير العرس الكردي تعويضاً عن أشكال التعبير الإنساني كافة. يبدأ العرس الكردي عادة في إحدى الصالات أو في الهواء الطلق، منذ غروب الشمس، لاستغلال الوقت بكامله. ويتحلق الشباب والفتيات في الدبكة الكردية "الكورمانجي" أو "الشيخاني" حسب الموسيقى التي يسمعونها ويرقصون، وعادة ما يبدأون بالشيخاني كنوع من التحمية. بعد قليل ستكتشف أن هناك عريفاً للحفل، وستكون لهذا العريف صولات وجولات على مسرح العرس هذا. غناء وشهداء وأحزاب يبدأ العريف بإلقاء بعض القصائد الكردية للشعراء الأكراد المعروفين، ثم يلقي بعض النكات، ويقدم لنا بعد ذلك الفقرة الأولى من برنامجه، وهي تشبه برنامج سوبر ستار إلى حد كبير. إذ أن هواة الموسيقى الأكراد، لا يجدون مكاناً يقدمون فيه إمكاناتهم للجمهور سوى العرس، وتصعد الفرقة الهاوية الأولى، والمكونة عادة من عازف بزق أو أكثر، وضابط إيقاع ومطرب. ولكي تأسر الفرقة قلوب الجماهير وتكسب أصواتهم، فإن أعضاءها يبدأون بالأغاني الوطنية التي تتغنى بكردستان بشكل عام، وبالحزب الذي تنتمي إليه الفرقة بشكل خاص، وبشهداء الحزب بشكل أكثر خصوصية. ثم نرى عريف الحفل من خلف الكواليس يشير إلى الفرقة أن تنهي فقرتها. ولكن المطرب يغمزه، كي يتركه يتابع وصلته الغنائية... ويتابع الغناء بحرارة متجاهلاً عريف الحفل الذي يتأهب كي ينهي الفقرة قسراً. وما أن تنتهي الأغنية، حتى ينقض عريف الحفل على الميكروفون منهياً فقرة الهواة الأولى، وهو يشتم عاداتنا وتخلفنا في عدم احترام المواعيد، غامزاً من قناة الفرقة. يقرأ عريف الحفل قصائد أخرى، ويحكي قصصا فولكلورية ثم يقول: "إخوتي وأخواتي الأعزاء... هناك بعض الشباب يحبون أن يقدموا لكم مسرحية". وهنا تبدأ الوصلة المسرحية من العرس. يصفق الجمهور، ويظهر الممثل الأول سكرانَ.. مترنحاً وشريراً، وتأتي أمه البسيطة، ولكن، الوطنية، وتلومه لأنه يسكر ويشرب، ولأنه غير وطني أيضاً. ولكن الشاب يهزأ من أمه بحركات كوميدية، فيدخل والده غاضباً ويطرده من المنزل. وهناك خارج المنزل يتعرف "الأزعر" على "الرفاق"، فيستوعبونه ويهذبونه ويثقفونه، حتى يتغير تماماً، بل ويلتحق بالمقاتلين الأكراد في الجبال. وفي المشهد الأخير يصل خبر استشهاده إلى الأب، فيشعر بالفخر والاعتزاز، ويلقي خطاباً رجولياً، بينما تزغرد الأم كالعادة فرحاً بالشهادة أو النصر، وهي تصفع طفلاً صعد من الصالة إلى المسرح خطأ. تنتهي المسرحية، وتبدأ مسرحية أخرى خلفها مباشرة، ولكن بطلها حزب آخر على ما يبدو، لأنها تحكي عن الآغا والفلاح والصراع الطبقي. وفي حمى الأحداث، وفي ذروة استغلال الآغا للفلاحين، نشاهد بعض الأطفال من الجمهور، وهم يتراكضون على المسرح بين الممثلين. وبالطبع فإن الممثل لن يخرج عن حواره، ولكنه يستطيع، وهو يتلو الحوار أن يركل هذا الولد أو ذاك، كي ينزل من على المسرح. وهذا أمر متفق عليه بين الجمهور والممثلين. شعراء وخطباء ومن جديد، يصعد عريف الحفل، ويقدم لنا هذه المرة شاعراً، يصعد الشاعر، وتكون هيئته مختلفة قليلاً، توحي باللامبالاة، ولكنه يثبت التزامه في قصيدته الطويلة، كما أنه يكشف طرف الدفتر للجمهور، كي يشاهدوا الحروف اللاتينية التي كتب بها قصيدته الكردية، وهذه دلالة على التطور والحداثة. فالشاعر القديم يكتب بالحروف العربية، أما الحديث، فبالحروف اللاتينية، وما أن ينتهي الشاعر منزعجاً، بسبب إشارات عريف الحفل له بالاختصار، حتى يرمق الجمهور بنظرة احتقار، ويخرج وسط تصفيق "الرعاع". بعد ذلك، يقدم لنا عريف الحفل شخصاً مهماً يريد أن يقول شيئاً مهماً. لقد جاء دور السياسة أو المؤتمر الحزبي، يلقي الرجل المهم خطابه على منصة العرس، وفي غمرة الحماسة الخطابية يتراكض على المسرح الأطفال الذين يرسلهم أهاليهم "الموالون لحزب آخر"، للتشويش على الخطيب. لكن الرجل السياسي يلقي خطابه في العرس على الرجال والنساء والأطفال، كما لو أنهم أعضاء في اللجنة المركزية لحزبه. وفي غمرة حماسه لا ينتبه للأطفال الذين يركضون من حوله، بخاصة وأن عريف الحفل وأهالي العروسين هم الذين يتبرعون بسحبهم من على المسرح هذه المرة وضربهم في الكواليس لاحقاً. كما أن بعض الحضور من المعارضين لحزب الخطيب يرسلون أطفالهم عمداً، كي يشوشوا على الخطاب، أو يتبادلون التحيات في ما بينهم على نحو مفتعل، ويكثرون من الخروج والدخول للتشويش على الخطاب. ولكنهم يظهرون حماستهم مع بدء خطاب رجل حزبهم، ويبدأون بمهمة أخرى، وهي الحفاظ على الصمت والتصفيق عند المقاطع المهمة، خاصة التي يتم ذكر قائد الحزب فيها. كل هذا والعروس لم تحضر بعد، وكذلك العريس. ولكن العروسين لن يحرما من متعة مشاهدة ما حدث على جهاز الفيديو صباح اليوم التالي، مذهولين من عمليات "المونتاج"، التي قام بها المصور بأن يظهر العروس في قلب وردة أو يرسم قلباً حولها... الخ. وهذا ضرب من ضروب الإبهار الكردي المونتاجي. يصل العروسان، ويجلسان على المسرح وسط الزغاريد وبمرافقة موسيقى "ضربات القدر" أو غيرها لبتهوفن أو موزار، للدلالة على الرقي. وهنا يظهر المطرب الحقيقي الذي سيحيي هذا العرس. وكم ستكون المفاجأة كبيرة عندما نعرف أن المطربين الذين يظهرون في الأعراس الكردية هم من كبار الفنانين الأكراد الذين لا يجدون غير الأعراس مكاناً ومسرحاً لتقديم أغانيهم. وصلات من الغناء الكردي فإذا كان "سعيد يوسف"، المطرب والعازف والملحن والشاعر، هو من العباقرة حقاً، وهو نبع لا ينضب من الألحان والأشعار، وموهبة لا توصف في العزف على آلة البزق، فإن كل هذا لا يمنع من ظهوره في أي عرس، ولا يتوقف الأمر عند سعيد يوسف، بل يتعداه إلى فنانين آخرين لهم نبرتهم الخاصة التي لا تناسب الأعراس أصلاً، مثل: محمد شيخو، وهو فنان محبوب وحالة خاصة في الفن الكردي. وكذلك محمود عزيز شاكر وشقيقه الملحن محمد علي شاكر اللذان قدما أجمل الأغاني للمكتبة الموسيقية الكردية!! للأعراس أيضاً مطربوها الأصليون، وأشهرهم "صلاح رسول"، أو "صلاحو"، كما ينادونه، وهو عازف بزق من الطراز البهلواني الذي يجبر الجميع على الرقص لا شعورياً، حتى أن أئمة الجوامع في القامشلي، طلبوا منع الاعراس التي يعزف فيها "صلاحو" قرب الجوامع، كي لا يتأثر المصلون بعزفه. ويكنّ صلاحو احتراماً خاصاً لعازف الإيقاع المرافق له: "خيرالله"، لدرجة أنه غنى أغنية خاصة يتغزل فيها بمزايا خيرالله في العزف على الطبلة، بينما يقوم خيرالله بحركات بهلوانية وهو يعزف، كأن يرمي الطبلة في الهواء ويتلقفها بوضعيات مختلفة مكملاً العزف، ولا ينافسه في ذلك سوى "حميدو" ضابط الإيقاع المرافق لسعيد يوسف المتخصص في الأغاني البوتانية التي تحتاج لجهد كبير في ضبط إيقاعها. ثم يبرز في القامشلي أيضاً "عبد القادر سليمان"، واشقاؤه الصغار الذين يشكلون كورالاً من الأصوات الطفولية الناعمة كتعويض عن عدم توفر الفتيات. وما لبث أشقاء عبد القادر سليمان أن كبروا، وأصبحوا مطربين معروفين وأشهرهم "مسعودو" ضابط الإيقاع السابق وعازف البزق حالياً والمطرب أيضاً. وفي الدرباسية هناك "رمضان نجم أومري"، عازف "الجومبوش" الذي يضطر أحياناً للاستعانة بعازف البزق البهلوان "حسن" من أجل الرقص. وعلى الرغم من عدم ظهورهما في الأعراس، فإن أغانيهما موجودة دائماً، وأقصد الفنانين المغتربين "جوان حاجو" وهو من القامشلي، وشيفان الذي حقق شهرة عالمية، وهو من أكراد كردستان تركيا. وعلى الأرجح فإن هذين المطربين لا يظهران في الأعراس، لأنهما يستطيعان إقامة الحفلات في أوروبا والعالم، علماً أن جوان حاجو استطاع أن يدخل إلى قلوب الجمهور الأوربي، وأصبحت حفلاته هناك رائجة. في حمى الرقص وفي حمى الرقص "الكورمانجي" يبدأ "البوب" الكردي، فيظهر الشبان الباحثون على المتعة والسهر الذين لا يجدون مكاناً للهوهم. فلا ملهى ليلياً ولا ديسكوتيك ولا "بوب"... فأين المفرّ؟!.. إلى العرس طبعاً، ويدخل الراقصون غير المدعوين أصلاً في الحلقة الكبيرة ويرقصون، ولا يعكر صفو متعتهم شيء. الكل ينغمس في الحلقة البهيجة حتى يرتفع صوت المطرب بموال حزين عن "مجزرة حلبجة"، لا تعرف كيف خطر في باله أن يغنيه، فتبكي العروس والعريس، ويخيم الحزن على وجوه الجماهير، ولكن المطرب يعود إلى أغنية جديدة، فيعود الراقصون معه بحركات أجسادهم الحماسية وأصواتهم المتعالية وكأن شيئاً لم يكن. وهكذا، نكتشف أهمية العرس الكردي التاريخية في سوريا، فإذا أردتَ أن تؤرشفَ تاريخ الحركات الكردية السياسية والثقافية والفنية، فعليك أن تكتب: بدأ الشاعر الكبير فلان الفلاني حياته الشعرية بإطلاق قصيدته الأولى عام كذا "في عرس فلان الفلاني"، أو أقام الحزب الفلاني مؤتمره الثاني في عرس فلان الفلاني في مدينة الدرباسية أو بدأت هذه الفرقة الموسيقية بتقديم أول أعمالها في مدينة القامشلي في عرس فلان، إنه العرس، المختبر الأساسي للثقافة الكردية والمكان الذي يهيئ المناخ الديموقراطي للحوار السياسي. *** ألم يقل الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته المهداة إلى الشاعر الكردي سليم بركات "ليس للكردي إلا الريح"؟! وأضيف هنا، ومن دون مجاز، وبواقعية مفرطة: "ليس للكردي إلا العرس".