٢٢‏/١٠‏/٢٠٠٩

محمدنور الحسيني: عن غياب” الغرنوق الدنف “ عبداللطيف خطّاب. -1- في أوائل التسعينيات احتفت مجلة الناقد اللندنية بالكتابات الشعرية الجديدة فخصصت لها جائزة باسم يوسف الخال وطبعت المجموعات المتميّزة منها في طبعات احتفائية حركّت جملة من الراكد في الساحة الشعرية السورية- على حد معايشتنا- ولفتت الأنظار إلى قصيدة النثر الشابة منها على الأخص ..ومن أبرز ماتناهى إلى مطالعاتنا مجموعة صادرة لتوها من دار رياض نجيب الريس في سلسلة الناقد المومى إليها، لشاعرشاب كأنما نبت فجأة وصار يتحدى كل من كان يكتب وينشر في الصحافة المحلية بمجموعته الصغيرة ومن منبر عربي ومن عاصمة عالمية.. أقصد عاصمة الضباب .. دعونا الفتى إلينا في الأقاصي .. دعوناه إلى بلدة نائية ومنزل ناء ووليمة من الكلام العربي الفصيح لقوم من الكرد مسهم هوىً بهذا اللسان المبين !فلبى الشاعر المنتظر متأبطاً كتابه وجاء،..أتى بالمميز المطبوع الذي هو ” زول أمير شرقي” مع مباغتة بخط يده كرّاس عنوانه ” الغرنوق الدنف” مصوّر فوتوكوبياً وزّع علينا ماتيسّر له أن يوزّع وربما فقنا توقعه من الإحاطة به والتقريظ فاحتفى بنا واحتفينا به؛ كما ينبغي للشعر الذي له وللغبطة التي لنا بوجوده بيننا، سبقناه بأيام .. أعددنا له مافاض به اليراع من القراءات لمجموعته الأولى لكن ذات الدوي الأبهى .. حين بدأ الليل الساهرعلى مأدبة ” أميره الشرقي” كان كل أمر على مايرام وكانت التقاطعات بيننا قد كثرت في النظر إلى القصيدة عموماً وإلى النثر منها خصوصاً وإلى ما ابتدعه عبداللطيف الزائر على أخص الأخص .. ولما امتدّ السهر بنا كان كل شيء قد غدا أليفاً إليه أولآً وإلينا.. صحيح أنه العربي الوحيد الذي من الرقة بيننا ولكنه في” الجزيرة السورية” عنواناً يجمعنا جغرافيا ومودة وجسراً من الشعرودفء الكلمات ؛ فمالبث أن غدا قريباً منّا جميعاً بدماثته وبساطته وتواضعه في المنزل القاصي على الطريق المفضي إلى القامشلي إذ المكان هناك يتسع للجمع المحتفي به فهوبعيد عن أنظار الفضوليين ويتحمّل جمعاً وحركة ودأباً!إنه منزل ذوي الكاتب المغترب حليم يوسف الذي كان له الفضل في لم هذا الشمل بعد فضل محمد عفيف الحسيني في تعرفنا إلى عبداللطيف ولسوء حظ الأخيرين أنهما لم يلتقيا في عامودا حينها إذ كان الحسيني قد هاجر إلى السويد واستقر هناك .. ليس من المبالغة القول أن ذلك الاحتفاء ظل الاستثنائي بتلك المجموعة وصاحبها .. ولم يغرب عن باله ولاعن بالنا فقد توطدت منذها أواصرنا جميعاً به– نحن المهتمين بالشعروالكتابة في عاموداوهو المقيم في الرقة والشغف بالغدو والرواح إلى حلب الشهباء..وتواصل مابينه ومابيننا بشكل أو بآخر وكان آخر ذلك اتصاله الهاتفي بي مؤخراً في إحدى إجازاتي ولذلك الاتصال الآن وقع النصل في الروح إذ القدر الذي داهمه حجب كل هاتف وإلى الأبد فظلت هذه النتف من الذكريات تهتف يتيمة وحيدة مغمسة بالحرقة والدمع على الغرنوق الذي اكتمل دنفه وطيرانه تماماً فتحققت نبوءته وتوقف الفؤاد الذي كنّا نحسبه تدلل الشعر وما تقتضيه فتنة الشعراء! .. -2- حين عزمنا على الاحتفاء بنصوصه وجدناهما منسجمين تماماً فانصرفنا عن الورق إلى الاحتفاء بالكائن ولما قرأنا كراسه الشعري الجديد ” الغرنوق الدنف” تأكّدنا أنّ عبداللطيف مروّض فتّان لعالم خشن وبدائي وحوشي يصعد به إلى ذرىً من الشدو والجمال المشعين كالألماس .. وأنه مكابد لميلاد الكلمة من طراز رفيع حتى درجة الولع بالمفردة التي تكاد تنسبها إليه وحده دون سواه.. فتحس أن لكل كلمة مقاماً وسياقاً يتأبيان على غير ذلك من المواضع وأنها قد رصعت بمهارة الجوهري وأظهرت للناس بخبرة الغوّاص المنقّب في ضفاف الفرات الذي عشقه عبداللطيف وعشق حفافيه وما نأى من صحاريه المستبدة..- ينبغى أن يكون الكائن النهري حزيناً الآن كما يليق بنهر عظيم!!- .. هذا الولع بين الشاعر والمفردة وانتخابها.. قلما تجده في الشعر الجديد الغارق في التصنع والتكلف والتجريب المجاني في أكثر الأحوال .. أما ابن خطاب عبداللطيف وماتنتج قريحته فقد ظلا متواءمين ، كائنين متجسدين كل منهماعن الآخر.. حارين وعفويين وبدويين وصادقين بامتياز.. حينما التقيت به أول مرة في حلب – لمست ذلك الصفاء وتلك الحميمية وازداد الانطباع في جمهرة صغيرة ضمتنا في سهرة أدبية هناك في حي السريان .. وترسّخ الانطباع عندما اجتمعنا حول فناجين قهوة مقهى القصر ذات المذاق المميّز.. وازداد رسوخاً لما جاءنا محتفىً به.. وأجزم أنه وجد ألفة ووحدة حال أكثر حينما قدته عبر زقاق ترابي إلى غرفة مبنية من اللبن مسقوفة بالقش وعواميد الخشب لكن بجدران مليئة برفوف من أحدث الكتب المجلوبة كل عام من معرض الكتاب بدمشق و مزينة بصور لأوكتافيو باث وأدونيس وجكرخوين ويلماز غوني وكافكا.. تمتنت العرى بيننا وازددنا قرباً وتوطدت المياه بين الفرات والخابور أكثر فأكثرفخرجنا من إطار ” زول أمير شرقي” إلى بهاء الإنسان وتعميق الأواصر الجميلة بين عشاق الحرف .. -3- اليوم غاب عبداللطيف مستعجلاً ولم يدع لأحد فرصة لتوديعه.. مات ميتة خفيفة.. فاض كالشعر..فلم يكلّف أحداً عناء موته .. تحمله وحده في غفلةمن الجميع فقد كان يعلم أن الكل منشغل بهمومه سواء منها ماصغر أو كبر وأنهم في نهاية الأمر أصدقاء ومحبون سيذرفون عليه الدمع والرثاء وبعد حين من الحزن سيعودون كما تنبغي الحياة إلى همومهم وانكساراتهم .. وربما إلى بهجاتهم التي تكاد لاتذكر!!..غاب وأغلق نافذته وراءه وظل منه هذا البصيص الذي بيننا من الشعر والذكريات وذا مايخفف من قسوة الغياب قليلاً أو كثيراً.. الإمارات – أبو ظبي 21-10-  2006
عن نورنامة - موقع الشاعر محمد نور الحسيني.