جوان تتر: منذ ديوانه (بورتريه لأمير مهزوم) يتابع الشاعر السوري محمد نور الحسيني كتابة وجع الشمال بكل تفاصيلهِ، يكتب دونما صراخ، عزلةٌ تامَّة ليقين تامّ منه على صدق العلاقة بين الشاعر والعزلة، تلك العلاقة القديمة.. الشكوى ليست من كثرة الشعراء أو قلة الشعر بل الشكوى من الأصوات المتشابهة والتي تكتب قصيدة واحدة لها نفس اللون ونفس الرائحة ونفس النكهة وذلك ما يدخل الجميع في متاهة الاجترار والنمطية وصعوبة الفرز عن الشعر والعزلة وعناصر أخرى كان هذا الحوار: * الشاعر محمَّد نور الحسيني، وسط هذا الكم الهائل من المطبوعات الشعريَّة التي تصدر بغزارة، كيف تنظر إلى هذا الوضع،هل هو وضع صحي يفيد إنتشار الشعر أم لكَ رأيٌ آخر في هذه المسألة ؟ - الأزمة ليست في الشعر ولافي غزارة المطبوعات الشعرية بل هي في نوعية المطروح على مايفترض أنه البساط السحري الخلاّب لعالم القصيدة، هذا الكائن المدهش الذي ما ينفك منذ دهور يغري بعضا من البشر بالإذعان لقدره والقبول باشتراطاته الفادحة!؛ لكن ليست العِبرة في ركوب البساط بل في إلى أين يفضي وما المصير!؟ ولست مع وضع أي حِجْر أو رقابة على الكتابة الشعرية مهما كان نوعها، لأن الشعر كائن شديد الخصوصية، ولطالما كانوا منذ دهور سحيقة يعتبرون الشاعر حالة استثنائية ويحتفلون بولادته ويتباهون به وقد نشأت في الشعر العربي القديم ظاهرة الانتحال بحيث أن القبيلة التي لم يكن لديها شاعر كانت تخترعه اختراعاً؛ حتى تنال هذا الشرف. والأغرب أننا في هذا العصر \"مابعد الحداثة\" نشكو من كثرة الشعراء وكثرة المطبوعات الشعرية! ؟.. أكيد يجب أن نقف مع انتشار الشعر كيفما انتشر، مطبوعاً مسموعاً مهموساً، أما مسألة الغزارة والكمية الهائلة من المطبوعات فسنحتفل على عادة القدماء ونقيم مهرجانات من إيقاد الشموع إذا كان المنتوج مدهشاً ويرتقي إلى الفردوس الشعري الاستثنائي ويقدّم نفسه متميّزاً ومضيفاً.. ولكن هيهات أن يكون معظمه كذلك !! ولا أنكر إنني سعدت بالأصوات الجديدة التي بدأت تتقدّم بجدارة وموهبة وطبعاً ستكون معظم انطباعاتي مقتصرة في هذا الحوار على الشعر السوري خاصة، لأنني حريص على متابعته رغم اغترابي المكاني عنه منذ أكثر من عقد ونصف، إلا إنني أتابعه بشغف وأعتبر نفسي جزءاً منه باستمرار سواء أكنت كاتباً للشعر أم قارئاً ومتابعاً له ! إذن في نهاية الأمر المشكلة ليست في الكم بل في النوّع .. المشكلة تكمن في مدى التميّز.. في نوعية الإضافة.. في درجة التجاوز وقيمة الإدهاش ..فالشكوى ليست من كثرة الشعراء أو قلة الشعر بل الشكوى من الأصوات المتشابهة والتي تكتب قصيدة واحدة لها نفس اللون ونفس الرائحة ونفس النكهة وذلك ما يدخل الجميع في متاهة الاجترار والنمطية وصعوبة الفرز، فينبري بعضهم للبحث عن كبش فداء وقصيدة النثر \"أضحية\" جاهزة باستمرار؛ كي يُسفح دمها الرقيق على مآدب راجميها ولاعنيها – عن جهل وسوء نية غالباً -! * الشــاعر محمَّد نور الحسيني، كــــل ديوان يصدره الشـــاعر يُعْتَبَر نهـــــاية تجربة وبداية لتجربة أُخرى، كيف تنظر إلى تجربتك الشعرية الآن، بعين ناقدة طبعاً ؟ - إنه سؤال شديد الوطأة عليّ، ولولا إنني لا أودُّ التهربَ من أيّ سؤال لاعتذرتُ، ذلك أنه رغم إنني لا أرحم نفسي وأقسو على قصيدتي كثيراً وأستثني عند النشر الكثير مما كتبته وقد اتبعت ذلك في مجموعتي الأولى \"بورتريه لأمير مهزوم\" (1999) بشكل واسع؛ فاستبعدت الكثير مما وجدته يستحق الاستبعاد ولم أتهاون في ذلك خلال تعاملي مع قصائد المجموعة الثانية \"خفة ملاك\" (2003) إلا أنني أحتاج إلى الآخر الناقد أن يقف عندي وعند غيري وينظر إلى تجاربنا بعين ناقدة وهذا غير متوفّر حتى الآن – على الساحة النقدية السورية - إذ الغالب على القراءات المتسرّعة العلاقات الشخصية والانطباعية العجلى والمزاجية والشللية المتفشية كظاهرة بين غالبية من المهتمين في الشعر السوري حتى وصل الأمر ببعضهم من المتنفذين إلى محاولات تحطيمية واستبعادية وكيدية وأخص بالكلام بعضاً من الثمانينيين – وطيفاً من التسعينيين - ممن كانوا موظفين في الصحافة الثقافية تحت يافطة شاعر للأسف..! والآن إذ أنظر إلى التجربة في حدود المجموعتين فأنا من جهة راض عن جهدي فيهما في حدود الظرف والواقع والامكانات التي ظهرتا فيها؛ لأنني كنت صادقاً مع نفسي وموهبتي ومحاولاتي الدؤوبة للخروج من أردية الآخرين والتطلع إلى عالم شعري أبتنيه أنا ومن جهة أخرى فإنني إذ أترك ورائي نتاج الكتابين بما لهما وما عليهما، فدون ريب أطمح إلى تجاوزهما وأتطلع إلى كتابة قصيدة جديدة لا تكون بالضرورة مدهشة ولا تكون \"مضيئة لنجمة بعيدة\" تجترح معجزة ما، أحب فقط أن أكتب كتابة مصفّاة شديدة التقطير ومثلي الأعلى الشعر الآسيوي – الهايكو الياباني على الأخص – ونماذج من الشعر الفارسي المشبع بالبوح الصوفي وغيرها من الكتابات الآسيوية الروحانية التقمُّصية لجسد الطبيعة بكافة كائناتها المهموسة، فالتقطير غدا ضرورة إنقاذية للقصيدة الجديدة من كل تفصيل رتيب واستفاضة واجترار وسفسطة، انتشرت في هذه التماثلات والتهويمات التي ترتكب بشناعة بحق قصيدة النثر، بدعوى مجاراة اليومي والعابر! وقد كتبتُ بعضاً مما أتوخاه مؤخراً : نماذج نشرتها في جريدة شرفات الصادرة عن وزارة الثقافة السورية وبعض المواقع الأنترنيتية ومانشرته لايمثل نهاية تطلعاتي، لأن ما أختزنه من خبرة تذوقية؛ يدفعني في هذا الطريق دون سواه وإذا لم أستطع إكماله أو الخوض فيه بعمق فهذا يعني أنني سأكتفي بقراءة الشعر بحب واغتباط، سأقرؤه فقط وستكون قراءاتي ربما حافزة إلى كتابة مقالات عن تجارب ومجموعات تثير الشهية لإطرائها إطراء المشدوه بولادة شاعر ربما!! هو دون ريب صديق ودود لروحي الظمأى لما قد يكتبه.. * \"بورتريه لأمير مهزوم\" و\"خفة ملاك\"، مجموعتان شعريتان إلى الآن، وأنت مُصرٌّ في الفترة الأخيرة على الإعتزال، حيثُ الابتعاد عن النشر، ما أسباب هذه العزلة، هل هي عزلة الشاعر وموقفه من الشعر في الراهن؟ - العزلة لدى المبدع احتجاج وجودي وإبداعي – طقس ضروري - لانفراد بالروح والنفس وتماه مطلوبٌ مع الذات ؛لاكتشاف مزيد من خصوصيتها وأشواقها وصبواتها، وبقدر إقبال المبدع على الحياة والناس، فإن الانسحاب من الحالة الاجتماعية الهلامية بتدبير ومعرفة أمر لامهرب منه،.. وقد مهدت للإجابة عن سؤالك عن العزلة لأنك ربما تقصد الاعتزال! وأنا بطبعي مقلٌ في الكتابة وفي العلاقات أيضاً وفي الترويج لنفسي ولا أتهافت كثيراً على طرح نفسي باستمرار على الآخرين، لأننا أحياناً نجد من يبتذل نفسه حتى يغدو ظهوره ممجوجاً وثقيلاً ومع ذلك فقد تواجدتُ في الفترات السابقة بشكل أو بآخر في العمل الصحافي الأدبي سواء بشكله المطبوع كما في مجلة حجلنامه التي كانت تصدر من السويد أو في موقع تيريز بطبعته الأولى، إضافة إلى نشر مقطوعات عديدة وأيضاً نصوص بوحية هي أقرب إلى تفاصيل تذكارية أكثر مما هي شعر!وما قد يشي مني بعزلة ما، فهو تدبير خاص أحتاج إليه لأستثمره ربما في اختيارات ومنعطفات وتساؤلات في مراحل عمرية وثقافية نحن بأمس الحاجة إليها كي نحفظ كينونتنا من التكرار والذبول والسقوط في قعر اليومي بمعناه الفج والاستهلاكي ولاتنسَ عبء العمل المهني وتبعاته!.. *\"الموت شبحٌ أرَّق\" مخيلة الشعراء، برأيك الموت تجربة حياتيَّة أُخرى أم يبقى ذلك الشبح المجهول؟ هل عثرتَ على جواب للموت على اعتباره ( الموت ) السؤال الأهمّ لدى الكائنات العجيبة المدعوّة بالشعراء؟ - إذا كان الموت هو السؤال المرير الذي يطرح نفسه بقوة على الإنسان،فإن الأديان قد وجدت الجواب الفيصل،وأراحت المؤمنين من مرارة السؤال! وأعتقد أن المؤمنين بالشعر من حيث يعتقدون أنهم واجدون هذه السلوى في بستان القصيدة، فإنهم يدخلون إلى فصل من جحيم رامبوي، ما ينفكون يخوضون في نيرانه فتكتوي به أرواحهم وتستعر به تطلعاتهم على راحة لاتأتي إلا عندما تتشكل القصيدة فيعتقد الشاعر أنه قد انتصر على العدم قليلاً وأجّل الموت إلى حين من الشعر وهي سلوى خادعة ولكن لابد منها، غير أنها لاتشفع عند الموت ولا تحظى إلا بجواب لاذع، فيضطر هذا \"الكائن العجيب \"إلى البحث عن سلوى جديدة في قصيدة جديدة وهكذا دواليك دون أن يفلح في أيّما جواب مُرْض! وربما إن التذرع الأقوى حتى الآن هو أن الإبداع على العموم في شتى مظاهره نوع من مواجهة الموت وتأجيل لمعناه وزحفه وطموح إلى الامتداد الزمني بعد فناء الجسد ولكنه حل غامض أقرب إلى اللاهوت منه إلى الناسوت! .. الجواب الأمثل هو أن الموت يعتبر الشقيق الأشرس للحياة إنه التوأم المفترس والقابيل الذي لافكاك منه وينبغي التآلف معه وقبوله كما نقبل الكثير من ظواهر الطبيعة المزدوجة من ليل ونهار وحق وباطل ووو.. إنه أفدح الثنائيات مرارة وعتواً.. الموت غرامة باهظة يدفعها الجميع صاغرين عن ثروة مذهلة وغنيمة خرافية هي الحياة..! * الكتابة المتولِّدة من رحم الهزيمة الشخصيّة برأيك هل تعيد إلى الشخص المهزوم اعتباره؟ - الكتابة المتوّلدة من رحم الهزيمة الشخصية لاتعيد إلى المهزوم إلا بعض التوازن وتحفظه من التدمير فحسبُ.. تدمير نفسه والعالم! على طريقة عليّ وعلى أعدائي .. الكتابة المتوّلدة من رحم الهزيمة تحفظ الشاعر من الانتقام من نفسه ومن الآخر.. الكائنات المتولّدة من رحم الهزيمة تعيد إليه اعتباره أمام نفسه.. أمام نفسه فحسب وليس أمام الغير.. لأن الآخرين قد حكموا عليك بأنك إذ تكتب الشعر فإنك تطرح مشروع هزيمتك على الملأ وليس عليك إقناعهم بردِّ اعتبار ما إليك، بل بأنك تتقن إشهار ألمك بتقنية وموهبة فذتين ومهارتك تكمن في عدم استجداء أي اعتبار منهم بل أن تتماسك أمام القصيدة وتقاوم عصف الحياة العادية التي تجرف السطحيين كل لحظة نحو مهاوي سحيقة من التفاهة والقبول بحياة الكائن الصغير المذعن لشروط وجوده في شتى التجليات. * الشَّاعر، الكائنُ المظلوم إلى حد بعيد، كيف تنظر إلى هذا المخلوق العجيب المدعو (شاعر)؟ - لا أعتقد أن الشاعر مظلوم، بل أجزم أنه محظوظ جداً حينما حفظه الشعر من الوقوع في براثن الوجود العياني بمعناه السطحي، فيظل يعيش في نضارة الحياة وفي الجانب المنتعش منها،أقصد في المتخيل الذي يعبث ويلهو على جسر الطفولة ويخترع بشيطنة فريدة منازل لايدرك غرائبيتها ولا عجائبيتها إلا من يرتقي إلى قامة هذا المخلوق الذي يحلو لك أن تنعته بالعجيب والمدعو (شاعر). * إلى أي أرض وصلَ الشعر برأيك؟ - الشعر يعيش منذ الأزل على \"أرضه التاريخية\" متربعاً على عرش الروح.. مستقراً غير خائف على مصيره، لأنه مدرك أن مصيره مرتبط بمصير الحياة والوجود نفسه، وهو الذي يخصب الحياة في الذوات الرقيقة الهشة ويمدها بأسباب البقاء حتى يرث الله الأرض ومن عليها ومن بين ذلك الشعر الذي سيعود حينها إلى واهبه نفسه، مكتمل السحر والبهاء.. سائراً إلى فنائه الخالد \"متفردساً\" بكل جدارة.! * صلتكَ بالمكان، إلى أي درجة يمكن أن يؤثر المكان على الكتابة الشعريَّة لديك؟ - المكان بمعناه الجغرافي الكبير لايقرر الكتابة عندي ؛لأني قادر على التنقل بحرية بين الأمكنة ولكن المكان الخاص الذي أكتب فيه هو ما يهمني ويؤرقني فأحتاج إلى حميميته وعدم انكشافه فلا أقدر على الكتابة إلا من وراء \"حجاب حاجز\" إذا صحّ التعبير! الكتابة تحتاج إلى مناخ باطني!.. أحتاج المكان خالياً إلا مني .. أحتاج ربما إلى الموسيقا غالباً فمن المستحيل أن أكتب في الأمكنة المفتوحة على آخرها .. كالحدائق ووسائل المواصلات العامة والمقاهي .. أحتاج إلى خلوة تامة مع النفس والذات حتى أقطّر شيئاً مما يستعر في روحي من الألم أو الفرح أو الحرية! * لنضعَ الشعر جانبَاً، أجناسٌ أدبية كثيرة، مسرح، قصة، رواية، أي من الأجناس الأدبية أقرب إليك؟ - أحبّ المسرح كثيراً عندما يتجسّد ويُمَثل وعندما تتاح لي فرص ذهبية لحضور مسرحيات ذات سوية فأغتنم السانحة بحماس كبير لأن المسرح يبقى ملك الفنون دون منازع وفيه اختبار نجاح النص والممثل والمخرج معاً، وقد حظيتُ بفترة ذهبية من عروض المسرح القومي السوري على خشبة مسرح الحمراء بدمشق في مطلع الثمانينيات وأعتبر حضوري لتلك المسرحيات من أغنى الفترات بالنسبة لي على صعيد اهتمامي بما سوى الشعر ولكن للأسف ثمة عوامل عديدة تكاتفت على عدم تكرار تلك السوانح وفي غياب المسرح تشكل الرواية جنساً قريباً مني فأتابعها وأحاول قراءة ما يتيسر منها لأنها ملحمة العصور الحديثة بامتياز ولكني في الرواية أميل إلى الرواية كجنس أدبي خاص عار إلا من الحكي والإمعان في السرد والحدثية دون إثقالها بالبلاغة والشعر والجَيَشَان العاطفي الميلودرامي أوالاستغلاق والإبهام والأسطرة المستفيضة،لأنها حينئذ تخرج من حيز الرواية إلى مزيج غير متجانس ومنفّر في نهاية الأمر.. وتبقى الفنون عموماً مهوى أفئدتنا وبلسم أرواحنا..
عن كتاب من أجل الحرية.