٦‏/١٠‏/٢٠٠٩

أديب حسن محمد: المشهد الشعري السوري6 قصيدة النثر مجاز غوتنبرغ لمحمد عفيف الحسيني. لعل قصيدة النثر السورية كانت الأكثر حضوراً كخيار أسلوبي لدى الشعراء السوريين المغتربين في أصقاع أوربا الباردة،ويعود السبب في ذلك إلى المناخ الذي تعيش فيه تلك التجارب وتأثرها بالشعر الأوربي الحديث إضافة إلى طبيعة البيئة التي انطلقت منها تلك التجارب،ولعل مثال شعراء مدينة عامودا حاضر في الذهن..لقمان محمود،عبد الرحمن عفيف،كاميران حرسان..الخ ويعد الشاعر محمد عفيف الحسيني من أكثر المواظبين على الكتابة ومن أكثر المنشغلين بالتنظير لهذه التجربة النثرية من خلال العديد من المجموعات النثرية التي حاول من خلالها رسم حدود فاصلة بينه وبين أصوات أبناء جيله،وفي مجموعته المعنونة"مجاز غوتنبرج"يحيلنا الشاعر إلى المكان بوصفه الأرومة التي تميز النصوص وتعطيها البعد الآخر،ونلاحظ أن المكان الأوربي يحضر بكثافة في مفردات نصوصه ولأغراض عديدة جنباً إلى جنب مع مفردات المكان السوري الكردي الأثير:عامودا،ولعل الشاعر يرينا بذلك فداحة الغربة واستفحال الحنين في آن،وهو دأب واظب عليه العديد من شعراء المغترب: "هل كانت مفاتيح البيانو هكذا بعيدةً مرآة نرسيس،معطف قاضي محمد،شرفة الغرباء في التفصيل ما هكذا كان نشيدي؟؟ ما هكذا تموت يا أميري؟؟"......ص11 فاختلاط الرموز الغربية بالكردية الشرقية أمر لابد منه لتوصيف حالة الاغتراب العميق الذي يعصف بروح الشاعر في مساءات أوربا الباردة،هناك تتحول العيون إلى ندمٍ عال،وإلى قلق يغطي بعباءته كل مخزون الذاكرة،ويتخذ النص بنية سردية طويلة يبث الشاعر من خلاله الكثير مما علق بروحه من ذكريات مضيئة لم يغيبها تعاقب الأيام والأمكنة،وفي هذا السرد الموجع الطويل يجنح الكلام إلى نثرية مطلقة،وتبتعد الصور الشعرية،وتراكيب الادهاش لمصلحة سيادة نوع من التداعي الطويل على شكل دفقات من الادكارات: "تفوح رائحة جسدك من الصابون من الصباح البعيد.. ومن المقاهي المغلقة من الذاكرة..من النسيان من آنية الزهور..من اللون الأبيض من طيور ورق الجدران..من الكآبة..."...ص20 وتنشغل نصوص الشاعر كثيراً بالوصف حتى يمكن القول أنها نصوص مشهدية ولا سيما المشهدية الخارجية التي تعتني بدقة برصد تفاصيل المكان كنوع من الإغراق في تلبس حالة شعرية ما مختبئة خلف التفاصيل الكثيرة التي تتابع لاهثة على البياض: "الشارع الفرنسي،حجر البلدية،العلم المجفّف المتآكل قليلاً من الأمام، تلاميذ المدارس،الآنسات الفقيرات،دفاتر التحضير، الذهاب والإياب لدلاّل المدينة،صوته الذهبيّ ينادي على بقرة ضائعة.."..ص38 وخلف التفاصيل ومن أجلها يضحي النص بأعز ما يملك وهو التماع لحظة الشعر تلك اللحظة التي تنهض باللغة مرتفعة عما يجاورها من كلام يومي تغص به حياتنا الرتيبة،ويغيب توتر اللغة الذي يشدها بأوتار غامضة إلى حقل الإبهار والتأثير الأمر الذي تنشده أية قصيدة يجترحها الشاعر.
الكتاب:مجاز غوتنبرج ـ شعر محمد عفيف الحسيني ـ وزارة الثقافة السورية1999
الحوار المتمدن - العدد: 1427 - 2006 / 1 / 11