٥‏/١٠‏/٢٠٠٩

محمد عفيف الحسيني: من غوتنبورغ، إلى حلبجه: ندماء الكيمياء. الجزء الأول. كانت السيارة الزرقاء السويدية، تنتظرني في فجر غوتنبورغ؛ الهرمزي وليد، صديقي، وصديق الفجر، قال لي في المطار: ـ عسى أن تعود، فنلتقي ثانية. الخشية والقلق والكثير من الألم، كان يسيل من أمنيته. في فجر آخر قبل هذا الفجر، كنا سوياً، في المقبرة المركزية للمدينة السويدية الزرقاء: خشخشة الكاميرا على شواهد قبور عصية على الغياب: قبر أمه، قبر الممثلة العراقية زينب. قبور ضحايا المرقص: حريق مات فيه أكثر من ستين شاباً وشابة، حريق مفتعل مغفل أشرف على خليط من الأعراق، فتحولوا إلى العدم. قبور قبور، هي ذاكرة كاميرا الهرمزي، وكاميرتي تالياً في فجر آخر من فجر كوردستان في حلبجه، ثم فجر قبور عامودا، بعد ميقات آخر منقوش على التخوم الجنوبية لمصاف الزيزفون القديم، يمر خلل أنفاس الموتى وهم في أزرقٍ شبحٍ. الفجر، لغة المسافر الغائب. ينزف الفجر الوحشة، ينزف الفجر اللون المنسي على الخوف من ألا أعود ثانية. يقول الهرمزي، هذه صورة أخيرة لك، في المقهى، صورة سترافقنا سوياً من غوتنبورغ إلى عامودا، حلبجة، البصرة. تفور رائحة القهوة من أنفاس الكوردي، صاحب المقهى. لكن.. عدتُ. زرتُ المقابر، وبجوارها دونتُ ظلالي: آلات النقاش الصاخبة، العلوم المريرة لأرخبيل الأرواح. ألق، ألق يتفجر في خيال صديقي خالد خليفة، وهو يستقبلني في مطار الشام؛ ألق الروائي؛ ألق آخين ولات أيضاً، ألق الشاعرة؛ ألق عبدالحكيم الحسيني، إبن عم اللون والنزف. مطار هدير خوف أختام هدوء كثافة مدنيون عسكريون أنصاف لصوص أنصاف رقة أنصاف ضيوف أنصاف وداعة أنصاف أضواء رسوم صور كتابة شعارات. فلأَمُرَّ بهدوء. أمر بهدوء. أتذكر مساء ما في غوتنبورغ كنت أصلي مع القس على ميت في كنيسة، الكنيسة التي كنت أزورها، أدخل قداستها دون استئذان، أدخل فأجد تابوتاً مسجى على خشب مقرور، أعتكف على مقعد، أعتكف على صلوات لاأجيدها. فليحمِ الرب لغة الامتحان لغريب مثلي في عامودا. عامودا.. عامودا فجراً كانت الحافلة تتهادى مروراً بقرية "تل عربيد". تنحرف الحافلة نحو الشمال المطار الذي بناه الفرنسيون في انتدابهم آنذاك. تسرع الحافلة، فأبصر امرأتين في الصندوق الخلفي لسيارة بيك آب كبيرة: هما صفية ووداد، الأختان الشقيتان في انتظاري. أمي بدرية في الأمام، مع أخي عبداللطيف، تلبث الحافلة في مكان لم أعرفه، تغرقني النسوة بالدموع، وأغرقهن بالقبلات الشيطانية، أمي المتألقة بالمكان، وقد عاد إليها إبنها أبيضَ متوتراً كعهدته الناطقة بالقلق والتوتر والفائض بالحب والناقص بالمعاني. سبعون شجرة من أخلاط الفجر كانت تنتظرني في غرفة الشيخ عفيف، ذلك اليوم بأقدار مسافات أن أدخل إلى غرفته أتأمل السماء والكتب والماء والملائكة وعلبة البيسكويت والملح وبشار العيسى وسليم بركات ومذاهب اللحاف الجافة وهو نائم. يستيقظ الشيخ، فأقول له: لقد أتيتُ، بعد عشر سنوات إليك. أبصر الغيوم على عينيه، أبصر في سمائه حيلة إبنه الصغير الغائب في هانوفر. أبصر في رفوف كتبه الكثيرة مذاق البيسكويت. أقضمه، وأنا أجثم على ركبتي، مثل كلب له. أقضم الفجر، أقضم محاريب ملا محمود المؤذن الشجي، الذي مات، وكنت آنذاك، في حلبجة. كنت في حلبجة أدون المقابر. سماء غريبة عليَّ: لم أعرف الطريق الى بيتي الأول، لم أهتد إليه، كنت ميتاً، المقابر المقابر المقابر هي أن أنام في غرفة أمي وحيداً دون سماء، وأمي تنام بجانب روحي. روحي التي كانت تخفق آنذاك فوق غمامات الكيمياء، كيمياء صدام حسين. وكيمياء سينما عامودا، وصفاء غوتنبورغ ذلك الفجر الرذاذ، ذلك الفجر في خشحشة الكاميرا وفي هدير الطائرة النمساوية إلى أن أميل برأسي في فيينا، فأبصر فضاء الأميرات النمساويات وهن يسحبن ثيابهن الطويلة إلى حدائق أجسادهن المغسولة بماء المحسوسات، ولزوجة الرجال الخصبة. في الشام شآم رعونة السائقين، سأكون مثل حيوان بري يجد نفسه في غابة من المعدن والتلوث والفوضى والصخب، والفيض الكثير من نورانية قاسيون تستقر على جنباته بيوت لفقراء، بيوت لنازحين، بيوت لقاصدي العمل في معامل تنقش على أعمارهم الغضة البؤس والعذاب، شباب متعطلون في قصباتهم ومدنهم وقراهم النائية، يغالبهم العيش البسيط دون حاجة إلى عاصمة قاسية، تقضم أوقاتهم، وتستهلك روحهم، وتفجر بين جوانحهم رغائب الجنس. عاصمة لصوص هي الشآم، شآم البدرخانيين وشآم سليم بركات في عبوره إلى الكرمل، وفي عبوري إلى حلبجه. شآم أدونيس ومحمد عمران وفاتح المدرس والرهط الفني الكوردي: زهير حسيب، نهاد الترك، حسكو حسكو، نديم آدو، والرهط الكثير من خدمات المطاعم الشاقة لأكراد الجزيرة وعفرين، تناديهم لغتي الكوردية الكليلة، فينحني المغيب على المائدة، وينحني الظاهر والباطن على الألم. كنتُ الغريب بين الصداقة، كانوا غرباء بين صديق عريق، لقمان ديركي، وهو يتألق في العتاب لي ولي ولـ حجلنامه. اهتز الزمن ذلك المساء، ولقمان يغني لنا ـ آخين وأنا ـ في شوارع الشآم agir ketiye dilź min، شوارع تنحدر من الذكرى، وتصعد إلى بيت خالد خليفة، من نادي الصحافيين، إلى ساحة عرنوس في فضاء السيناريست القلق أبداً. قلق نقاش على قبور يدونها الآن؛ قبور روائية لن يستطيع الكتابة عنها، إلا مغامر ومتهور وشجاع مثل خالد خليفة. قلق طيلة الوقت بين طيات اللحف العتيقة؛ قلق بين العطر البخاخ؛ قلق في قطرميز الزيتون الأخضر الراكد في ماء أخضر. طحالب خضراء ترتع من القلق، طحالب الوشق تغمر القطرميز بمحاربين مموهين أغرقوا الشآم بعلوم اللصوص. في الشآم تحدثنا عن الشعر أيضاً. مع من تحدثت عن الشعر؟ ـ مع أدونيس وأحمد عثمان جان والملا جزري، وأحمدي خاني. ـ ماهو الشعر؟ ـ لا شيء. يرد علي ابن خالتي فاروق، نبي الفجر الصاخب في بيت أمي. يأتي إلي، ويحدثني عن المقابر وعن آبار عامودا المهجورة التي يحلم كل ليلة بأنه يسقط في إحداها. بئر تهاوى فيها أيضاً مير جلادت بدرخان، لكن، في ضواحي الشآم. شآم شآم تغني فيروز النبية الصارمة للشآم. ويؤذن لي إبنة خالتي في الصباح المبكر، ثم يبدأ بتكبيرات العيد، ويقول: لقد مات مؤذن الجامع الكبير، وأجرب صوتي لأكون أنا الصلاة. لكنني أحلم كل ليلة بأنني أسقط في بئر من آبار عامودا المهجورة! يخرج لي صورة له وهو نائم بجانب بئر ما؛ تحدوه الرغبة في ذبح أحلامه، أقداره أقدار الفجر في غرفة صغيرة ارتجفنا فيها سوياً، وهو يسرد لي اقتناءه لمدية يتطاير منها الذبح: ـ سأذبح كل الموتى. في عامودا، ستكون الخيام مرصوصة بمشيعي موتاها. خيمة تنتصب لبضعة أيام، تدور فيها رائحة الميت، ويطوف فوق جنباتها الليل وندماء العبث الحياة. كان الشيخ محمد قد توفي حديثاً، وكنتُ قد وصلت للتو. شيخ أنيق أحببته منذ الشآم قبل سنوات في تسطيره لمرض مزمن، ظل يعانيه أمداً طويلاً. كنت أرافقه في الشآم بأناقة، ثم فقدته، تحول المرض عنده إلى ذاكرة، وبات الحوش الكبير بجانب النهر الجاف، مجالاً خصباً لحياة مديدة شديدة الخصوبة. فهو إبن الشيخ أحمد، الذي ذكرته أغاتا كريستي في كتابها التدوين لرحلة زوجها إلى الجزيرة، وتحديداً في قرية جاغربازار. الشيخ الذي آزر الباحث البريطاني بحثاً عن لقى أوركيش، التي ستكتشف تالياً في "كري موزان"، الباحث الذي أراد من الشيخ أن يسدي جميلاً له بجميله، فطلب منه ساعة ذهبية في أوقات تواجد الفرنسيين في الجزيرة، الساعة التي عبثاً حاولت أن أراها في عامودا، فلم يعرف أحد بشأنها أي شيء. في الليل الموت، كنتُ تحت خيمة الشيخ الموت، كان طقس الموت غائما ومنسياً عني بعد غياب كثير عنه، كنتُ أجالس الغائبين، أجالس الموتى، وأشرب قهوة مريرة كثيفة سوداء قاحلة. سبعة منشدون رخيمو الحناجر بدفوف رخيمة، ثامنهم ناقل الدفوف من الأصابع تنقر عليها؛ ناقل الدفوف من الأصابع إلى لهب المدفأة، يتدفأ الجلد المدبوغ، يتدفأ الخيال، فيشتد الاصغاء إلى الرجل الناقص الشيخ. سبعة دفوف تتناوب عليها أصابع ممتلئة بالغموض، طبقة طبقة يميل الكبير برأسه على الايقاع، ايقاع قيافة، ايقاع شجن، ايقاع خيال، لكن.. لم تكن من لغة كوردية، شيخ كوردي كبير غائب، تطوف روحه حول مقبرة عامودا، كان آنذاك مع سعيد آغا الدقوري، كان مع جدي، كان مع أبيه الشيخ الكبير الذي تحادث مع زوج آغاثا كريستي بالكردية قبل عقود. عقود كثيرة ستمر، وسيمر على مقبرة عامودا ضيوف كثيرون من طهاة الموت، ومن مقبرة صغيرة كانت تنأى بنفسها قبل كثير من السنوات عن قبور الأهالي، هي قبور جنود الفرنسيين في عامودا، قبور قبور تمتد من الملاط إلى استعادة الدفوف تحت خيمة الشيخ الراحل، استعادة بوابة نحو النزوح من الكوردية إلى العربية، العبور السمح لعلامات غير سمحاء. البلدية غير السمحاء في عامودا السمحاء مررتْ أسماء كل خلفاء بني العباس على شوارعها، ملوك خلفاء أمراء قادة جنود شعراء خونة. أسماء أطعمة عباسية. أسماء عاهرات عباسيات. أسماء مراحيض عباسية أسماء خصيان عباسية. أسماء أسماء أسماء مرت تحت شوارع عامودا، سلاجقة الله أجمعين، نورانية الشوارع بأسمائها غير النورانية، حركة عضل الفكرة بلسان الغرباء آواهم الكورد بعد سد الفرات، تشردوا من ديارهم، بقرارات ليست طائشة، قرارت قدمت من ملفات محمد طلب هلال الفاشي إلى أرض الكورد غير الفاشية، تآلفوا مع جيرانهم، وشعروا بالخجل من أن مكانهم استبيح غصباً من هؤلاء الجيران السديم؛ قرار فاشي كثير على دجاج القرويين، حكمة فاشية، حكمة شقية على أرواح أعماق الكرد، وهم ينزحون إلى الشآم يخدمون في مطاعمها. ينحني الريحان والمخلل والبقدونس والزيتون والبصل والسماء والزعتر والتين المجفف وأباريق الخجولين والهباب على أطراف أكمام النازحين الكورد في الشآم، وهم يقدمون لنا: سلاجقة جبل قاسيون، جبل غامض قاس ليس من أثر شجر عليه، أثر الغائب، أثر بصري عليه من منزل صديقي خالد خليفة، وهو يشتم الأضواء والدغل المجاور والعلوم المستنزفة لقلقه ذلك المساء، ونحن نذبح الليل في طهو فاشل: آخين، وهو، يطهوان رعاة البطاطا وإفك الدجاح، وأنا أتأمل قاسيون بمقادير الأضواء على نافذة مفتونة بشيخ الشآم الكبير، مولاي شيخ محي الدين بن عربي، المتوفى في الشآم.. قبل ألف ونيف من الأعوام. شآم شآم عامودا عامودا الزمن هو المرور من عامودا إلى حلبجه الزمن هو العبور من غوتنبورغ إلى حلبجة الزمن هو متن الكيمياء على بزوغ أمي في باص الفجر ذلك اليوم. أترقب هزة رأسها، وهي ترتجف بلقائي، ماذا لو كنت أحد أبناء حلبجة؟ ماذا لو كنتُ قتيلاً في تلك الحافلة التي تقل جسارة ابنها من غوتنبورغ الى ريحانها الميت. عطر الميت يفوح من مخملي البني. عطر الميت في حلبجة. عطر الميت في عامودا. عطر الميت الشاب في غوتنبورغ الحريق. عطر مفتون على ضفاف بحيرة "وان". سيرة مكتملة لي.... دخل الفجر القلق روحي، وأنا في الطريق إلى كوردستان. وحل كثير على ضفة النهر. خصائص أختام، خصائص مخابرات، خصائص جبل مشطور في أرض غير مشطورة أهلاً ولغة وطعاماً وهواء وزنبقاً وفجراً. خصائص جغرافيا استنزفت عويلها على سجادة الشيطان. خصائص نكهة القهوة المرة الثقيلة، خصائص المفتون بالقلق والقطط والهدوء ومعنى الوعل في فندق ميديا، خصائص وعل سيامند هناك. هناك.. التقيتُ بـ زينفون الإغريقي. التقيتُ بجدي الأول ميديا، التقيتُ بجدي الأول شيخ آدي، التقيتُ بجدي الأول خالد نقشبندي، التقيتُ بجدي الأول ملامصطفى، التقيتُ بجدي الأول نوح، التقيتُ بجدي الأول جودي، التقيتُ بالندم وبخيال الله على سطور شرفخان بدليسي، وبخيال المنظورات على جبل كوردستان: خيال زينفون يعبر أرضي إلى الاغريق، يعبر روحي إلى كيمياء صدام حسين بعد حوالي ألفين وأربعمائة سنة، كيمياء أظلاف، كيمياء تنبثق من محاجر القتلى، الكيمياء مادة صعبة في معادلات الأنابيق في مدارس عامودا، الأنبيق البعثي. الإكليل الذي وضعته العروس على شعرها، كان لي. إكليل من ماء النهر والعذاب وعيدان القطن النحيفة والزهر المتفجر على فجر غوتنبورغ ذلك اليوم الذي خاطبني فيه الهرمزي: ـ سبعون شجرة من أخلاط حلبجة ترافقك. سبعون شجرة من أخلاط الحناء رافقتني إلى عفرين. سبعون شجرة وأربع شجيرات خضراء كانت في صومعة الشيخ عفيف، وهو يقرأ الزكام بعدسة مكبرة لأيامه. في فندق ميديا، في صلاح الدين / بيير مام، برد جبلي، برد ينغز وعل الفندق وجَدْيِ الفندق وأعشاب الفندق والزهرات الثلاث التي قطفتها من باحة الفندق. وعل كفيف؛ لم يكن كفيفاً لكن.. لِمَ هو أليف في كل هذا المكان؟ الوعل الكفيف لايقترب مني أبداً، أذهب إليه، فلا يقترب مني، أناغيه بلغة أخوالي الجبل الكوجر، فلا يقترب مني. أرمي له بأوراق دالية الفندق وخبز الفندق وأخضر الفندق، فلا يقترب مني، يظل في زاويته متوفزاً يراقبني بعينين متوجستين حارتين حنونتين؛ عينين تشبهان عيني الأسير. وعل أسير إذاً، ولم يكن كفيفا. الجديُ المتضاحك، ـ الجدي سيذبح يوم العيد. جدي أبيض يتقافز حولي، وينط على تخوم قلقي ذلك اليوم الذي سيسبق ذهابي إلى حلبجه. جدي أبيض له قرنان طريان ينطح بهما أقداره يوم العيد، ظلّ يواظب على القفز من الحوش إلى أصابعي وهي تمتد له بالمغيب وأوراق الدالية والحنان. جدي لايعرف المشي الهوينى، يمرر بأظلافه على أي مرتفع جار، يبحث عن جروف خطيرة، مكانه الخطورة، ومكاني سيارة لاندكروز قوية جبلية، من صلاح الدين ذلك الفجر إلى حلبجه. ساعات كثيرة سترمي بأضواء الفجر على دهاقنة القتل وسلاطين الكيمياء، الكيمياء على روح الكورد القرويين. هناك. في الطريق سيغمر الخيال طبع السائق، ليسرد لي عن حضور أشباح، حضور قوي لأدلاء الموت ذلك اليوم في حلبجه. حضور تورية، حضور كثافة محترفين لقتلة يرمون بمثاقيلهم الطائرة على البلدة الوديعة بمآذنها القيامة. ـ الله أكبر، الله أكبر يبدأ ابن خالتي بتكبيراته وأنا نائم في برزخ من برازخ الطين في عامودا. أسمع تكبيراته في غوتنبورغ. أسمع مَلاك حلبجه، البلدة التي لم يكتب عنها أي كاتب جيران عنها ـ لأستثني الكبير هادي العلوي ـ، وبعض قصائد أشبه بعتاب الطلاق. زخات من مطر الخريف تبلل الرسامين. زخات رصاص على جبل قريب من حلبجه. زخات مرفهة من شؤون البلدة المنكوبة بـ صدام حسين. في الكنيسة كنت أرتل الصلوات مع صديقي القس بالسويدية لمحنة الشباب في مرقص غوتنبورغ، لمحنة الشباب في سينما عامودا. ـ آمين. محنة الصلوات في جامع حلبجه. أعشاب منقوشة على آمين، أعشاب تذهب من يدي إلى وعل أسير، وعل طير، وعل كفيف، وعل قدّاس. مراقد مراقد خضراء لغائبين على كري موزان، التل الذي في شرع أوركيش، وفي شرع التمتمة بلغة أن تكون أسيراً عند صدام حسين وبعثه، فيذبحك من الوريد إلى الكيمياء. ـ ممنوع دخول البعثيين. العبارة الواضحة البسيطة على مدخل البناء المتحف لضحايا حلبجه. أنزل من السيارة. أذهب إلى حراس بيشمركه أبرز لهم هويتي السويدية، أنا الكوردي، بلغة الممكنات مع الحراس، أقطع الطريق قليلاً، أصور قليلاً البناء. أدخن قليلاً، وعلى رقعة ما قبل الدخول، أبصر علي كيماوي نبي القتل وهرطوق القتل ومني القتل وسادن القتل ويقطين القتل. أبصره.. في الغياب، أبصر الموت الزنجار الموت الشر الموت الحوت، أعود.. أجلب دفتري تدويني، وأدخل في حضرة الشهداء. لايمكن الكتابة عن الشهداء. أشم رائحة الجوت في الداخل. بناء دائري، هكذا تخيل لي؛ مساقط ضوء في المنتصف، صرير آلات، ترافقني الدليلة العجول في هداية إلى شرح لن أحتاج إليه، أحتاج فقط إلى خمسة آلاف شجرة تظلل أخلاط الروح وقلق الروح وعزيمة الروح: أن تعبر الغرفة بتماثيل تمثل بعض مشاهد القتل. ـ كنت أريد ألا أقع في البئر المهجورة. لماذا أسقط كل يوم في بئر ياابن خالتي؟ أحلامي تشبه صدام حسين. يرددها ابن الخالة فاروق. رسولي كل صباح إلي يدخن معي ويفطر معي ويرقّم الزمن بالعويل، عويل ممتد من الحفيف الخفي لبدعة علي كيماوي، ويمتد ـ العويل ـ إلى مساقط الضوء في غرفة حلبجة وخصائص حلبجه، المدينة التي أحبها صدام حسين!، رسوم رسوم رسوم لطلبة المدينة على الجدران. أحجار ملونة من المدينة على الجدران. اشارات البيشمركه على الجدران. ملائكة على الجدران. قصائد لاتُقرأ على الجدران. سماء ملوثة بالكيمياء على الجدران. وريحان ملوث بالكيمياء على مقبرة حلبجه. بشر من خمسة آلاف ينتظرون عبور الكيمياء إليهم؛ عبور عماء، عبور ماجن، عبور عجول، عبور بموازين الجحيم، عبور مختوم بالطاغية؛ مختوم بالبعث، وآلات البعث وشيطان البعث. خمسة آلاف، أحسستُ بأنهم ينتظرونني ـ ليس في المتحف، بل في المقبرة. ـ ممنوع دخول البعثيين. العبارة الواضحة البسيطة الثانية على مدخل مقبرة حلبجة، حيث يرقد الشهداء بأمان، وينتظرون ضيفهم الغريب. في عامودا، كانت المسالك إليها صعبة، كان المرور فيها مروراً عبر الرماد والوحل والتقارير المختومة برحيق سم من المخبرين وآفة الحبر الكراهية. يقع متحف ـ بناء شهداء حلبجه على جهة اليمين من طريق عام، لم أهتد أبداً أية طريق، وأي يمين. يدوّن قلمي الحبر التروبن الذهولَ ورائحة الجوت ـ قلمي التروبن، مهداة إلي من الشاعر زردشت محمد ـ قلم ذَهبَ تالياً إلى مثير بلون الطين في التقرير عني: تقرير أنني كنت في حلبجة، وأنني أشرف على "حجلنامه". حلبجه مدينة قروية، ترقد في ظلالها ماهيات بشر. مدينة لاتبدو أبداً، قبل الدخول إليها بأقل من فرسخ، ينتصب المتحف الدائري على اليمين من الطريق. حراس يتبادلون الوقت على حراسة أهليهم، يمنحونك الغبطة بأنهم سعداء بمجيء كردي من غوتنبورغ إلى المدينة القروية. يمنحون رشاشاتهم الأمان بأنك ستعبرها أميناً في سياق الكتابة عنها. يكون في انتظاري الصحفي إبراهيم هورامانى، هكذا قال لي المشرف على المتحف. يأتي باص يقل طالبات صغيرات من مدارس كوردستان، في زيارة للمتحف أيضاً، ثمت صخب وزعيق شقيان لهنَّ. ثمت زغب يرفرف من مراويلهن وحواشي مراويلهن. الغرفة الأولى تضم لوحات تذكارات فوتوغراف لـ حلبجة بمرور تاريخها لمائة عام خلت قبل ضربها بالجحيم. الغرفة المجاورة خلل ممر يضم أنصاباً للصور الشهيرة التي وزعتها وكالات الأنباء آنذاك، بعد علي كيماوي: أنصاب مرتمية على الأرض تحتسي الكيمياء والعتبات والجراد ورتب صدام العجيبة وقبعة صدام الكابوي ومطابقات صدام وغزلان صدام وابنتي صدام ونجلي صدام وأولاد عمومة صدام وسيجار صدام ولحية صدام وقمل صدام وأيتام صدام ـ من عبدالباري عطوان صاحب جريدة القدس العربي في لندن، إلى ولولة إمرأة في عامودا يوم القبض على الرئيس الكبير ـ، إمرأة أرسلت ابنها إلى جهاد صدام بعد سقوط صدام. أنصاب تحتسي موتها، هكذا ببساطة هي المدينة القروية العجفاء. ـ أسماء خمسة آلاف شهيد بالتمام، تخشخش على ذاكرة البهو. أسماء مدونة على الحيطان، وعلى قلق الدليلة العجول، وعلى قلمي الأسود التروبن، وعلى سترتي الزرقاء دون أكمام، مع إثنين من البشمركه يحرسان هواء النكبة. ـ الله أكبر. يتوقف إبن خالتي فجأة، يخرج صورة ممزقة له، يقول هذا أنا عندما كنت صغيراً، هل تتذكرني؟! أتذكر المرور الضائع لنا ـ السائق وأنا. ندخل حلبجة، المدينة القرية، من باب السوق المركزي. نفتش عن محل للتصوير، لنشتري فيلماً سيخشخش تالياً على السماء السابعة في المقبرة المثيرة الضعيفة الحنونة السوداء ـ هي مقبرة بيضاء كاملة ـ حتى الشجيرات الصغيرة العجفاء بيضاء. والسماء بيضاء، والخليط من أعماق الكورد بيضاء. مقابر متراصة، ليس من الممكن العبور بينها، كما مقابر السويد أو عامودا، هي تحتوي في مساحة جارحة قليلة على خمسة آلاف، سأستكشف قريباً من السياج المسموح قبراً يضم اثني عشر روحاً: الأب والأم وأبناءهما العشرة. قبور بيضاء، وجبل أبيض ونعاج بيضاء، وفتاة صغيرة بيضاء تلعب بالوحل أمام باب المقبرة. ـ هل مر زينفون ـ إبن عمي ـ بـ حلبحة؟ يرشدنا الصائم في شهر رمضان إلى مطعم لنأكل، فلا نأكل، لقد أكلنا هواء ملوثاً بالكيمياء، وأكلنا زرنيخ الناطقين الكتاب الجيران بصمتهم يوم قصف المدينة بالخردل، وبملامح علي كيماوي المريحة!. مقبرة واحدة بحجم غرفة صالون في منزل من منازل قرى عامودا تضم مائتين وخمسين من الشهداء. أنفال أنفال أنفال، أنفال البعث، أنفال الملامح المريحة. أنفال اليسار العربي يمجد بطل البوابة الشرقية في "بلاد العرب أوطاني". يرشدنا أحد البيشمركه من حلبجه إلى الجبل: ـ هناك، في الجبل ثمت مقابر أخرى، تضم رسوم الغازات والكيمياء وخيال القاتل. جبل مرمي على حدود إيران ـ حدود كوردية بلا امتياز سايكس / بيكو. حدود ليست خطوطاً حمراء كما يدونها رئيس للمعلوماتية، والأنترنيت، فيحجب نصف المواقع الأنترنيت. نهر، وحل، مهد مكسور، دغل كثيف، حجر منشد، فصل لم يكن الخريف ولم يكن الشتاء ـ الشهر العاشر ـ ثمت أعشاب تنبت. ثمت إوز يستشيط غضباً بمرورنا إليها نعكر بياضها نحن الغرباء ـ السيارة، السائق، أنا، الكاميرا، والقلق ـ، ثمت علامات مختصرة تشير إلى المكان الآمن المقتطع من آفة صدام: قبور أخرى من فجور الكيمياء. أسمع صلية رصاص، أسمع صوت أمي بدرية وهي تعاتبني: لماذا ذهبتَ إلى الخطر "محمدو"؟، أسمع حفيف أشجار الشيخ عفيف في غرفته دون نوافذ وهي تنحني له فجراً. لقد قام الشيخ الفجر لينتظر إبنه العاق، من غوتنبورغ إلى عامودا. يمسح ابنه العاق شجيرة الفجر، ويقبل يد والده بعد غياب كثير. ماذا لو كنت قتيلا في الطريق؟. أساءل نفسي. أخرج من غرفته إلى بدرية. أخرج إلى عامودا كلها، ذلك الفجر العذب. ـ أتمنى أن تعود مرة ثانية، فنلتقي؛ يقول لي الكلداني الهرمزي، وهو يودعني في مطار غوتنبورغ. أنظر إليه وأمد بجوازي السويدي إلى محمد طلب هلال. أمد بجوازي إلى أولاد وأحفاد وأسباط محمد طلب هلال في عامودا وفي حلب وفي عفرين وفي اللاذقية وفي طرطوس وفي الشآم وعلى ضفة ماء "فيش خابور"، وأنا عائد من كوردستان إلى كوردستان. * الجزء الثاني: عامودا. ** تنشر المادة بالاتفاق مع صحيفة التآخي الكردية، في بغداد. خاص بـ تيريز. كوم 24/01/2004