٦‏/٨‏/٢٠٠٩

فرج بصلو
حكو الدربكجي حكو الأقرع
جورج الجميل على ما يبدو أصبح وثناً لأنه يبلس جينز الكاوبوي الأصيل. أواه كم كنت سعيدا برفقته لي. فلن يمر المزيد من الزمن ليبقى فيه الكاوبوي الوحيد.
التعليم سهل, سهل جداُ بطريقة الرأفة والمحبة. أما التربية غير شيء. للتربية مناخها, ظروفها, وضعها الإجتماعي والأنثروبولوجي. كل شيء في الحياة يتم بتصرف حكيم. لا فرق بين الكبير والصغير, بين الصبي والفتاة, بين المدرس والمدرسة, بينهم وبين الطلاب. تراب الباحة, والكنيسة, والصفوف, نفس التراب للجميع. ألم نخلق من هذا التراب؟  إنه تراب قامشلو, المتطاير في عجاجها. المبسط لسطوحاتها. المتبعثر في دروبها وسهولها وبساتينها. المترامي على خرائط نهرها وعيون مياهها البعيدة والقريبة.
وأنا أحببت مدرستي رغم طول الدرب إليها. أغلبية طلاب صفي صاروا زملائي. والرفقة ليست مجاناً. فأنا أساعدهم في شتى الواجبات الدراسية. وفي الفرص, الجميع يريدون التقرب مني واللعب معي. فالكرة التي أهادني عمي حنون حسنت من وضعي الطبقي لدرجة أصبح فيها طلاب الصفوف العليا من فريقي. إنضممت إليهم وانا أصغرهم سناً. كنت الوحيد من أبناء جيلي يقبلونه في لهوهم بباحة المدرسة. ألعاب الكرة على شتى أصنافها لها شعبيتها الفائقة. المدرسون ينضمون إلينا الطلاب في كرة القدم والكرة الطائرة. أجواء أخوية تعم الكل. لا فرق بين الكبير والصغير, بين الصبي والفتاة, بين المدرس والمدرسة, بينهم وبين الطلاب. تراب الباحة, والكنيسة, والصفوف, نفس التراب للجميع. ألم نخلق من هذا التراب؟  إنه تراب قامشلو, المتطاير في عجاجها. المبسط لسطوحاتها. المتبعثر في دروبها وسهولها وبساتينها. المترامي على خرائط نهرها وعيون مياهها البعيدة والقريبة.
جورج يقعد بالمقعد خلفي مباشرة. وحسب تقييمي لا يمتاز في التعليم. يكتفي بعلامات متوسطة, لكنه من أفضل أصدقائي. ومن واجب الصديق مساعدة صديقه قدر الإمكان. حتى في الإمتحان. أدور إليه وأهمس له الجواب. مرة تلو الأخرى. له أخوة وأبناء عم. منهم يكبروننا ومنهم يصغروننا. أبناء عائلة سركيس رغم سريانيتهم يبعثون أطفالهم إلى مدرسة البروتستان. وليس لقرب المدرسة إلى دورهم فقط. حسن التعليم في هذه المدرسة معروف في البلد. وأبناء كل الطوائف يتهافتون على أبوابها للتربية والترقية. وربما لإمتيازها بإعطاء حرية التعبير الكاملة لطلابها. محبة المدرسين والمربين للأطفال. حسن التصرف في كل صغيرة وكبيرة. جورج يصل المدرسة يوماً لابساً بنطلون جينز (كاوبوي) كمثل البنطلونات التي يلبسها أبطال الأفلام. والده سليم تاجر الحبوب والمزارع. إقتناه له من بيروت. الصف على من فيه من أولاد وبنات أحاطوه. تلك تلتهمه بنظراتها. وذاك يلمسه ويتحسر. وانا سعيد سعيد. ألم يحظى صديقي الأفضل ببنطلون الكابوي كما أبطال الأفلام. لن يمرإلاّ القليل من الزمان لكي يصبح كل الصف ذكوراً وإناث من لابسي الجينز. ماعداي أنا. ولم تكن كل البنطلونات إلاّ ملابس بالات. تقليد رخيص للجينز الأصلي. فلجورج, وبشكل بارز وواضح, رسم دولار حقيقي على قفا خصره. اللون والخطوط مبتكرة وأصيلة,  وكل ما عند الباقي مزورة. جورج ذو الوجه المستدير كالصحن. صاحب الشعر الأسود الأملس. جورج صاحب الأسنان البارزة من على الشفة التحتى. جورج الجميل على ما يبدو أصبح وثناً لأنه يبلس جينز الكاوبوي الأصيل. أواه كم كنت سعيدا برفقته لي. فلن يمر المزيد من الزمن ليبقى فيه الكاوبوي الوحيد.
رسالة بعثتها إلى عمي في دمشق. وصفت فيها الأعجوبة الأخيرة للمودة. حركته في طلب نفس البنطلون وعلى قياسي أنا. شهر لا اكثر. من هلال إلى هلال. وأصبحت ثاني طفل يظهر بجينزه الأصلي وبقميصة الملونة ذات الرسوم المربعة. جورج وأنا توائم. اما انا فكنت أشقراً
وذي عيوناً زرقاء.
وهكذا ابتدت الحمّى بين الطلاب. الجميع يرغبون إرتداء مودة الأفلام. زي الكاوبوي والكوبويات. هكذا ظهر بيينا اؤلائك الذين يربطون محارماً على رقابهم. وكل واحد صار بدو يصير "جون واين" أو جيري كوبر. فازدهرت خياطة القمصان المخططة بالمربعات. ومكائن إبراهيوا صارت تخيّط ليل نهار. وجدي الفاتورجي يرى الخير من قماشاته. وفي مجال النعال والأحذية بدت علامات التحديث. وابتدأ وباء الجزم والمهاميز. وصار الأطفال يغارون من بعضهم ويغيظون هذا وذاك. وفككت صحبة البعض. لتحل زمالات أخرى بدلها. حسين صار يتنمر لي وينصب على دربي كمين تلو كمين. يدفعني ويشتمني دون سبب. وعَليكو إبن جارتنا إستيرو رفيقة والدتي ينضم إليه. يعتدون علي بمحاولة جري لمشاجرات, وهم يتموهون باللهو واللعب. استهتار ودفش. وفي أحد العروض الرخيصة جرجروني فيما بينهم, وهم أقوى وأكبر مني. شققو قميصي الجديدة المخططة. تلك الجميلة من خياطة إبراهيمو, هدية جدي لي. فما كان مني, بعد أن هدأت من العياط ومسحت دمعي, إلا هذا القول: أنتم الخاسرون لما تشقون قميصي وبالتالي كانت ستوهب لكم. وما تلبسوه الأن يعود لي. قمصاني وبنطلوناتي. ألأ ترون كم هي ضيقة عليكم. هل هذا ردكم على شفقة والدتي بكم؟ حسينو سد علي الدرب لئلا أهرب وعليكو إنهال علي بالضرب واللكم. بينما انا أفكر بهلاكي أتى في ذهني حكو الدربكجي, على حكو ان يفوت في الصورة, لم اعد أطيق هذه المضاياقات, كل صباح وظهر. وكلما عبرت عتبة الباب إلى الشارع. حكو طويل وبارز بقرعته اللامعة. بشتائمه لما يشتم, بزعبرته بضرباته القوية المبرحة. حكو يراقب الشارع من باب بيتنا ويقيس كل مسافة بينهم وبيني بعيون الصقر البنية. يقف منتصباً كأنه يبتهل لباريه, ليتحرشني أحد ليفعسه بحجة التفرقة بين المتشاجرين. وهل من سبب له أن يحميني؟ ما علة تدخله بشؤوون الغير وهو يكبرهم. ولكن حكو مصروع أكثر من كل مصروع آخر. والمقاتلة قادمة لا محال. هاهم هؤولاء الأميون يسطون على درب المدرسة. يالهم المغفلون! يفوتون بين جماعات الأطفال السائرة, واحدهم يأتي من الأمام ويرتطم بي, الثاني يتبعه من خلف ظهري. لأقع عليه كي يدفعني بقبضتيه. المصاب آت! هل حقاً المصاب آت؟ ومصاب من؟ هي اللحظة فيها ألمح ما لم يلمحوه. هي اللحظة الحاسمة أنزاح فيها جانباً, وأخليهم يرتطموا الواحد بالثاني. القصد قصد مهما كان. والهدف هدف. كنت القصد والهدف لضربات موجعة جداً ولذا أحدث إرتطامهما بالبعض إنفجاراً أيما إنفجار. على مرمى نظرة مننا راح حكو الصقر يقهقه كأنه في فيلم. صار يقرص بعينيه يرفع إصبعه نحوي وكأنني طيار نجحت مهمته. طيار يبهج قائده الصقر. وهذا ما ملأني جبروت, عز وجرأة. فالأيام أتية لا محال. والإصطدام آت أيضاً. لا يمكن تأجيل الإصطدام لأيام عديدة, هذا الأحول وذاك الأشعث المنبوش لن يعدلوا عن قرارهم: الإنتقام مني. أليسهم بذلك سيجلبون على أنفسهم ثقل سواعد حكو الدربكجي!. حكو الصقر ينقض من محله يتنكر بمحاولة التفرقة ليدفعهم بحزم وتأليم. وهنا يقع الخطأ الذي لا بد منه عندما يكون المرء مغفلاً ومنفعلاً.
الخطأ. العاقل يخطط لخطأ خصمه. والزعران يشتم في كل خطوة تفاجئه. يشتمون أم حكو عرض أم حكو. حكمت المصروع. حكمت اليتيم. حكو الذي لا يحتاج إلى ذريعة خاصة, او مكافئة من أحد, يتلقى من زعراني شارعنا شرعية المدافعة عن صيت أمه الميتة. وهل من شرعية أكبر منها؟ الشتائم كيلت له ولها على مسمع الجميع. هناك أكثر من شاهد. لكل شيء تحضير. ولن يشهد لك أحد ضد زعران أو فلتان بلا مكافأة. إنتوا شاهدين ياولاد. انا فرقت, وهني عمبيسبوا أمي الميتة. ولك إخرس إنتِ وهوي, إخرسوا أحسن إلكوا. وهل يخرس الفلتان إن ضُرب؟. زعراني قامشلو أكثر من عيون مياهها. والأيتام أكثر من الشوارع والبيوت. فقط البراري على النواحي لا يكثرها شيء. فقط دروب الوحل والغبار لا تعداد لها. أينما وجدت لسان هناك طول لسان, وهناك قصر لسان. وللللللللككك قصوا لسانكو ولا!!!. ولا من تحكي معه. تعلو الشتائم وتفيق عاصفة العجاج بصخبها. وحكو راضي بذلك. له حجة الرد بكسر العظام... . خد سطرة, سطرتين, لهيب على الخدود. خد رفسة في البطن. تعال نساوي إيديك المعوجة. ضرب يابس يابس. لا نزيف دم. لا كدمات. إحكام على الحلق حتى آخر نفس. إفلات. جر شعر. جر أذن. "من اليوم كل صباح راح انطركو على الطريق". وينهزموا إلى يبوتهم. ليتم محضر التأديب الأول, يتم ولا يتم. الفلتان فلتان في كل الأحوال. وراح الفلتانون يجندون إخوة عليكو الكبار, وابو حسينو الحمال أتى بعصاة كبيرة وغليظة. المافية بما فيها ضد حكو. لحكو مافية تخصه ورفاق يتمنون النزاع والعراك وخاصة إذ صحت لذلك الشرعية. تتعالى القبضات مع أصوات القبضايات. والشارع مسرح, والشارع ميدان كما في الأفلام. جو يهبط فيه المجروح والمشجوج. جو من أردية ممزوعة. من دم ينزف. جو لا أرى آخرته. أجري كالغزال الشارد. أهرب إلى درسي. "كل واحد ودرسو إلو". وانا أحببت دروسي ومدرستي وزملائي. أحببت الصف الطيني. الباحة المغبرة. حنفيات المياه. الكنيسة بكامل طقوسها. رغم عدم إهتمامي بأي دين من الأديان. رغم عدم إنتمائي. والمذهل, لم يحرجني أحد في ذلك. تنتهي الحصص ويحل وقت العودة. عودة إلى أين أيها الطفل؟ إلى أين أيها اليسوع المخلص؟ ايها المصطفي إهدني إلى الدرب الصحيح!. لا درب أقصر من الدرب عبر حارة السريان. فندق حداد. والشارع التالي شارع الكراج. دكان جدي بصلو. ليبعثني إلى الدار مع داهودو إبن عمتي.
من أول مفرق قريب على الدار لاحظت الدرك قرب الباب. ولأني لم أكن أعلم, لحكو إبن عم هو ضابط مخابرات في المكتب التاني. ولم أعلم بان اسماعيلو إبن حجي يوسف علي قنجة ضابط في الشرطة العسكرية. وإن مافية القباضايات والفلتانين قبضت على أجرها وحقها كاللازم, راودني الخوف, وارجفني الفزع. ولما لم يمسني أحد, فكرت في الغد. ما الذي سيحصل في الغد؟
في الغد كان حكو الدربكجي سلطان الشارع. وأنا سرت إلى مدرستي على إشعاعات قرعته. إشعاعات رافقتني في دربي من وإلى على مدى أيام...                          
التعليم سهل. سهل جداُ بطريقة الرأفة والمحبة. ولكن التربية غير شيء. للتربية مناخها, ظروفها, وضعها الأجتماعي, والأنثروبولوجي. كل شيء في الحياة يتم بتصرف حكيم. لا فرق بين الكبير والصغير, بين الصبي والفتاة...
من ذاكرة الشاعر والفنّان فرج بصلو- يتبع في أجزاء قادمة.