٢١‏/٨‏/٢٠٠٩

فتح الله حسيني : الشاعر منذر المصري تاريخ من الشعر والسفر. الشاعر السوري، المنتمي الى جميع الأجيال المتعاقبة في المشهد الثقافي السوري والعربي معاً، الشاعر الآتي من مدينة اللاذقية، والحّان، "من الحنين" دائماً الى مياهها وشواطئها وضفاف أحواضها، وفتياتها، وخصلات شعر فتياتها الملونة بالحّناء، هو نفسه الشاعر الذي لم يكل ولم يمل من كتابة الشعر، وتلوينه بألونه الخاصة به، وهذا لا يعني أن الشعر مل منه، على العكس تماماً يحن المشهد الثقافي السوري والعربي برمتيهما الى هذا الشاعر الجميل، الحاضر على الدوام، غير الغائب عن حلقات وملتقات الاحتفال والاحتفاء بالشعر أينما كان، مذ أصدر مجموعته الشعرية الأولى بوحدانية مفرطة، وبحزن استثنائي "بشر وتواريخ وأمكنة" من منشورات وزارة الثقافة السورية في العام 1979، لتتوالى إصداراته الشعرية المختلفة والجميلة مثل كلماته وليشارك الشاعرة مرام مصري والشاعر الراحل محمد سيدة مجموعات مشتركة: مثل "أنذرتكِ بحمامة بيضاء" و "داكن" و"مزهرية على هيئة قبضة يد" عن شركة رياض نجيب الريس للنشر في لندن وبيروت العام 1997، ومن ثم لتصدر مجموعته "الشاي ليس بطيئاً"، وليصدر له في العام 2005 باللغة الفرنسية مجموعة "أهل الساحل" من ترجمة السيدة كلود كرال لمنتخبات من شعره عن دار آليدادس. الشاعر السوري منذر المصري الذي يحب اختلاف الشعر كما يحب فوضى ورتابة أصدقاءه، ويقول ما يحس به دون رقيب أو حسيب، كان يرى أوما زال يرى أنه يجب ألا يكون للشعر تعريف، أن لا يكون له قالب أو أسلوب، يحب أن يكتب على هواه، وأن يرفض أَن يفكر فيما يكتب، معتبِراً اختلاف كتابته عن كتابة من يعرِفُهم أَو من قَرألَهم، هو كل شيء. يكتب المصري: في قصيدته الموسومة "بشفاه الآخرين أَستطيع تقبيلك" لم يكن بودي أَن أحدثك عن أشياء، ماذا يجديني ذلك، كنت أريد أن، تحدثك الأَشياء عني، أَن أَستعير شفاهها، لأَقول لك، حتى انه مر في خاطري بشفاه الآخرين، أَستطيع..تقبيلك. كان خطأي، أَنني لم أعرف، كيف أنظر إليك، كقمر نهاري، يذوب في ضوء قوي، كنت أَراكِ بالعين الوحيدة.. للأَلم. الشاعر والرسام السوري منذر المصري الذي يتفوه بكل شئ بشكل هادئ وشاعرية واضحة، لم تؤرقه الرقابة أبداًُ، تلك الرقابة التي أبطلت مفعول الشعر كثيراً، لأنه بكل بساطة عرف الرقابة بأنها عنكبوت كبير ينسج شبكته حول الكاتب وحول نصه، كل شيء يصير وكأننا يكتب من داخل شرنقة الخوف والكذب. شاعرياً لم يغب يوماً اسم منذر المصري داخل و خارج المنتديات والصالات والملتقيات والأمسيات الأدبية في بقاع العالم الكثيرة، فقد قام الشاعر بتقديم عروضه الشعرية في ربيع الشعراء في دمشق ومدن سورية اخرى مثل مدينة حلب ومدينة اللاذقية، مسقط رأسه، ومهرجاني الملاجة وجبلة في سوريا أيضاً، وصالة اليونسكو في العاصمة الفرنسية باريس، وملتقى شعراء البحر الأبيض المتوسط في مدينة كافالا في اليونان، ومهرجان جرش في الأردن ومهرجان الأدب في ديار بكر في تركيا، ورحلته الأخيرة في مهرجان "ليديبري" في العاصمة البريطانية لندن الى جانب ثلاثة شعراء سوريين آخرين هم لقمان ديركي ورشا عمران وهالا محمد. الشاعر السوري منذر المصري شاعر مكاشفاتي، لا يخبئ شيئاً، كما لا يتستر على شئ، واضح مع كلمات قصيدته كما هو واضح مع منعطفات حياته الكثيرة، يقول" حييه هازلاً: هل فعلت الشاي؟ يجيبني وعقب سيجارة، عالق في زاوية فمه، لم تأت لشرب الشاي، بل لشرب الوقت، الشاي ليس بطيئاً، نحن سريعون.. يحمل المصري مرآة كبيرة، وحده، ليقول للجميع، هكم لتنظروا الى صوركم فيها دون زيف، لتروا أنفسك المنهكة حنيناً دون مواربة، ودون ثرثرة، لتحدث نفسك وتقول: ها آنذا أرى نفسي على حقيقتها، على حقيقة كنا نريدها، لنكون جميلين بارعين، في رؤية تفاصيل أنفسنا مهما كانت، دون أن يقول لنا أحد ما، أو مارق ما ، او صديق متعب "أنت شخص مزيف أو مزور على آخره". يكتب منذر المصري: يكلف المرء الكثير من الوقت، أن يتماسك، ولو فقط أمام حاسديه، لكنه بدا للجميع أقل حجماً، وأشد إثارة للشفقة، ومن جديد كان بوده لو ينسى: "كل ما فعلته في حياتي حماقات متكررة". ينتمي شاعرنا منذر المصري الى جيل شعري، لم يحّمل الشعر الكثير من الأعباء والكثير من المصطلحات، بل أخذوا بروح القصيدة كما يأخذون بجمال أرواحهم، ولم ينسوا أنهم شعراء في ضحكاتهم كما في حزن بكائهم وتأمل وحدتهم وفسحات ضجيجهم وهم على زرقة البحر أو في سعير الصحراء، هو في اللاذقية كما هو نفسه في لندن، وفي ملتقى جرش أو في مهرجان أدبي في ديار بكر، هو نفسه السوري الذي كتب ورسم المشهد الثقافي السوري بكل وضوح كأنه يرسم ملامح كادت أن تغيب بحبر أقلام كثيرة، أرخت بنيات غير محببة. يكتب المصري: "رفعت ناظري وأطلقته خارجاً، حيث مستطيل من سماء ضيقة، محشور بين أجسام الأبنية، وما عدت أذكر، أية أفكار كانت تسلو عني، قبل أن ألحظها.. في الرابعة والسبعين، بدا أشد حيرة، وأقل إيماناً بما لا يقاس: "في التاسعة عشرة، كان علي ألا أفعل ذلك، أما في الثلاثين، فقد كان علي ألا أفعل ذلك أيضاً" كان على عادته المرذولة، لم يقرر بعد: "أريد أن أعود للصفر". المشهد الثقافي السوري، أدبياً خاصة، يزهو بشاعر من قامة منذر المصري، كما يزهو المصري نفسه بهذا المشهد الذي ننتمي اليه، بكل ما أؤتينا من قوة، هو مشهدنا الذي يرسمه بين فينة وأخرى شعراء لهم باع طويل في التدوين ومنهم الشاعر منذر المصري المحتفى به هنا، الذي كنّ للشعر الإحترام والمحبة، فقدره الشعر بكل ما لديه من جمال كلمات، لتكون للكلمة أرقى وظائفها.