٣‏/٨‏/٢٠٠٩

فرج بصلو"ولما ينتهي الإحتفال ويخمد الضجيج تنفك دوائر الكوفندة في الحوش والشارع القريب. ولما تسكت الزرنا تختفي المحارم بين أكتاف البشر. يمضي الأطفال وجيوبهم معبأة بالملبس. تفرغ الطناجر الهائلة من لحم الضآن, وتنقضي الأيام السبعة. تخلص التهنئة مع الضحك والنحيب. وتأتي أطوار التأديب للكنة عروستهم الجديدة, تلك التي بوسوها وحضنوها في الأمس القريب. خلعت ثياب العز ولبست ملابس الخدم."
أعددت لك الشاي بالنعنع, تناوله بعد الطعام. تقول والدتي وتضيف: سأحضره بعد لحظة. أريد إيقاد الشموع. رد على رجائي, عل مطالبي تتحقق. وتسحب عود الثقاب على الشخاطة ليندلع. توقد وتترجى. ثم تسير بطيئة مجسدة وبيدها قدح الشاي بنقوشه الذهبية. تضعه على المنضدة المتآكلة.
-ليش ما صبيتيلكي كمان؟
-فتُ في آوان الصوم!
يفرغ نصف قدح الشاي في قدح فارغ ويزفر في الشلال ليبرده. كل زفرة تبعثر بخار معطر يملىء فراغ الغرفة بنكهة النعنع. والسيمفونية تستكمل بغوغشة إحتساء الشاي الحلو الداكن...
غاصت الطاؤوسة الصفراء في سماء المغيب من زمان. غاص برواز الشباك بخيوط كالحة.
ينهض إلى الشرفة الغربية ليقفز منها إلى الحديقة. يقع وسط كومة من الفستق, ويتدحرج إلى البرتقال والليمون والنارنج. يشتاق لرغيف خبز حار مفتفت بالزبدة والسكر. يشتهي حز برتقالة. وجبة بدائية من خبز تنور ونارنج... . يمضغ لقمته ويستعيد كلامها من باطنه: أحد لم يسألني إذا كنت أريد الخطوبة. تصور! لم يكشفوا عن شخصية الخطيب. بدار أبوي  تهامست النساء العامرات فيما بينهن. بعدها باسبوع أتى جدك (والد أبوك) مع أقاربه حاملين حلية ذهبية, عبارة عن دبوس وعليه فراشة ناعمة لها عيون من فص أخضر. وأخبروني عن خطوبتي. وشكوا الدبوس في صدري. لم أكن أعلم بشيء. لم أجد ما أتفوه به. أبوك بشعره المدهون. الأسود المسرح بتسريحة فالنتينو. جلس بين جديك. خالتك وردة كانت أختي البكر. تكبرني بالعمر, ولزم عليهم تزويجها قبلي. لكن جدك توجه  إلى أبوي: يا إبن عمتي أريد نعيمة لداؤود. وانت تعلم كم دللناه. تعلم! أنجبناه بعد شقاء. سعدة زوجتي وضعت قبله أربع مرات. ولكن العمر من ربك. لم تعش المواليد والرضع حتى أربعين يوماً. كنا خائفين عليه من نفس القدر. كنا قلقين على الدوام. لم نحلق شعر رأسه من يوم ولادته. فلما أراد ترك المدرسة, وتصاحب مع الدقاقين والعازفين والمغنين, سمحنا له لفترة معينة. ولكن مثلما تعلم: الأعراس, وصحبة القشمروك لم تعجبني أبداً. فأخذته مديراً لمتجري. هو بكامل الصحة. كما ترى. بدر كامل وجاهز...
لم يسألني أحد. لست متأكدة من رؤية والدك قبل الزفاف. لا أذكر إن وافقت أم لا. الكبار هم الذين يتوافقون فيما بينهم. والرجال خاصة. هم أصحاب القرار. للرجال الكلمة وللنساء السكوت والقبول بكلمة الرجال. تصور, حتى عن ميعاد الزفاف لم يخبروني. انا اليتيمة من أمي. لم أجد أماً  غيرها لتفسر لي معنى الزواج. النساء العامرات قالت لي: سوف تتزوجين. لملمي المهر مما يجلبه لك والدك. أذكر كميات هائلة من الخياطة الجديدة بقياس وبدونه. إشتروا لي الحلي والزينة. كان والدي فاتورجياً. فانتقى من أحلى الأقمشة. كنت أول بنت يزوجها. كانت له مكانة في البلد, لأنه ما عدى الفاتورة شغل وظيفة مرموقة في دائرة النفوس. كانت له صلة بالبلدية. إحترمه الناس كما إحترموا أبناء خالته, المزارعين من أغنياء البلد. أصحاب كميونات وحصادات ومزارع حنطة وشعير... . والدي (جدك) كان مثقفاً. ينحدر من عائلة مثقفة لها نسب. أغلبية أفرادها يسكنون في دور إسمنت, من اولى دور الإسمنت في قامشلو. لهم الكهرباء. مواصير المياه. السيارات. دكاكين ومتاجر قمح ومحصولات. لهم محطة وقود على درب المطار. لهم علاقات طيبة مع شتى طوائف البلد والمنطقة, من أرمن ويهود, سريان وأشور, إزيديين ومحلمين, بدو وأهل ريف. غجر وقرباط... .
كل هؤلاء إحتفلوا زفافي مع وجهاء قامشلوا وأكرميها. تجار ومزارعون, موظفون ورؤساء أديان, سبعة أيام عرس. تدور الداهولي بين الراقصين ويرش الملبس على الزوار. ولما ينتهي الإحتفال ويخمد الضجيج تنفك دوائر الكوفندة في الحوش والشارع القريب. ولما تسكت الزرنا
تختفي المحارم بين أكتاف البشر. يمضي الأطفال وجيوبهم معبأة بالملبس. تفرغ الطناجر الهائلة من لحم الضآن, وتنقضي الأيام السبعة. تخلص التهنئة مع الضحك والنحيب. وتأتي أطوار التأديب للكنة عروستهم الجديدة, تلك التي بوسوها وحضنوها في الأمس القريب. خلعت ثياب العز ولبست ملابس الخدم, لأفيق في الرابعة ما قبل الصباح. علي إحضار فطور الصباح ياولدي. علي تجهيز الغنم والبقر وتسليمها للراعي. علي تنظيف المرابض من الروث, وإخراجه للتجفيف. كي نستعمله محروقاً ووقوداً. علي الغسيل, الطهي, الغزل والنسج. علي تخليل الخضار بكامل أصنافها لتصبح مكابيساً. فما بالك بالتنظيف, الخياطة, دلو المياه من البئر...؟ انا مع زواجي نقلت من دار النعمة إلى دار العبودية. ولكن للشفقة ياولدي إسم وكنية تحملها خالتك وردة. كان يبعثها جدك ليتأكد من أحوالي ومن عيشتي الزوجية. فهي بدورها صارت عاملة أخرى وإنتقلت معي من بيت العز إلى طبخ العدس والرز. تشاركني في كل همومي لتخفف عني. لتعززنني بكبرها وبحضورها وبيتمها وبعدها عن بيت كنا فيه أميرات. يالهول الصعوبة! كيف إنقلبنا إلى خادمات ولنا كانت سابقاً خادمات؟! لا شيء يخلص وينتهي إنه روتين, يوم بعد يوم, بعد يوم. تعب يليه تعب ياولدي العزيز! جدتك سعدة والدة أبوك تعطينا يدها فقط لنقبلها للطاعة. فبعد رضاها تلملم أردانها, تحني كفوفها وشعرها وتأمرنا برقة في كل شيء "لازم يا بنتي لازم". أحياناً, بعد غسيل الحنة تمد ساعدها للمعونة. أشياء طفيفة لا تذكر. فأشق الأعمال علي وعلى رأسي. ورغم كوني حاملة, الإعتناء بها بأبوك وجدك وعمك العزيز الغالي. الأمر لصاحب الأمر, لصاحب الحس المدوي إلى مسافات الجقجق. حس يهز البدن. يقلق. شيء لم ألمسه في حياتي من قبل. يذوق الطعام, وإن لم يعجبه المذاق. الطنجرة بما فيها على رأس الطباخة. مرات أنا وأحياناً جدتك. كم وكم تحنيت بالتوابل والمرقات دون أن يسأل أحد برأيي. ومع ذلك كان جدك كريماً, سخياً, يمون الدار على أحسن واجب. لا شيء ينقص. سوى أمر لم يأمر به بعد. توجب علي التعود لكل ذلك. فلما بكيت في خبايايا لم يسمعني أحد. شكيت نفسي لنفسي, حدثتها عن معاناتي وألمي. بكيت وأنا حامل بك. وجدتك الحامل بعمتك بهية وضعت قبلي بشهرين. سبب وواجب لمساعدتها أكثر من ذي قبل. للعبودية درب ما لها نهاية ياولدي! والرحمة من مالك الرحمة ياولدي! ولتلك الرحمة والشفقة إسم "جانا" بنت عمي عزيز. إبنته البكر يبعثها لمساعدتي...
- طيب ووين كان أبوي؟           
- ابوك؟ أه أبوك! كان... يا ما كان على السفر, على البضاعة على الرحيل إلى القرى المجاورة. فحين وجوده بيننا لم نسمع منه غير الأوامر. هذا الصوت المتغلغل العالي. عدم الرضاء بشيء. وفي مبيته بالبلد, يمضي باكراً, ويؤوب متأخراً. يختفي لأسابيع. ويعود كالفصول. وفي المساءات ما بعد بعد الليل وانا منهكة لا أحس به. إرادته ومزاجه واوقاته كما يريد... يأمر وينهي. كل ذلك ما عدى نهايات الأسبوع. قلة قليلة من أيام السنة. يغط في النوم, لا يبالي بصلاة الصباح. لا بصياح المآذن, لا بالدواجن, لا بالنواقيس ولا بالطير أو البشر. أبوك آمر. جدك آمر. عمك آمر, آمر لي رغم كونه يصغرني سناً. كل شيء بالعياط, بالزعبرة. الفلفل, الملح, الكوي بمكوات الفحم الثقيلة. لا طلب بحس ناعم. ورقيق. أمر بعد أمر. بدون رجاء, أو مفردة شكر. بدون نعومة, هاتييييييييي, حطييييييي, صبيييييييييي, خذيييييييييي!!!. لا أذكر لهم هدية جابوها لي. كتب على كتب مصاحف على مصاحف وكأنما تزوج أبوك بالكتب وإقترن المصاحف. الحروف والأقلام, المحبرة والورق. ربما لم يفكر في زواجه بتاتاً. ربما, ماعدى إرادته ومزاجه وتوقيته. لا يدري ولا يداري وضعي. حمولتي ووجعي, تعبي ويتمي. عبوديتي لا يكترث بها. أشهر تمضي ويأتي يوم أضعك فيه. مولود بكر. ويبدلون النمرات على واجهات بيوتنا بالحمر. أرقام حمراء خاصة بنا فقط. حارة كاملة. حرب بعيدة. تبرعات. إبتهالات. ملصقات داكنة على جام الشبابيك. حرس مدججون في شارعنا. حرس على ارواحنا. حرس لا يدركون ضغظ الزناد. بارود. عسكر. خوف. الهواء مليء بالخوف. وطهرناك على ركبة الحجي. سميناك فرج. فصار أبوك, أبو فرج. وجدك, جد فرج. وتبدل الضيق بالفرج. وحلّت أمور أخرى... لا تسألني عنها. إنني صائمة ياولدي! قواي ليست ملكي. لا أملك الآن سوى دموعي وابتهالاتي!.
وتسحب عود الثقاب على الشخاطة ليندلع. توقد وتترجى. ثم تسير بطيئة مجسدة وبيدها قدح الشاي بنقوشه الذهبية. تضعه على المنضدة المتآكلة.
اللوحة للفنان فرج بصلو- الجزء الثالث من نصوصه التذكاريّة.