١٢‏/٧‏/٢٠٠٩

رسالة من سليم بركات، محمد بيجو - دمشق
ما زلت حزين القلب كزجاج ضرب بحجر, وروحي كما هي, لم ترممه رسالة منك أو هدية, ولم أشأ أن ترتب بقاياي امرأة غيرك بيدين صغيرتين.
كأني الآن غيمة أمرّ علي درب ترابي يوصل حنين قرية بأخري.
يقيني: مفتاح قلبي معك, ولن يسعفني غير الشعر بالبقاء علي قيد الحياة.
ازور إبراهيم حسو في داره المرمية هناك, أطرق الباب بحجر كبيضة الدجاج, فيفتح لي الباب ابنه ( دليار ) الحزين دوماً ويسير أمامي ـ وهو يغني ـ إلي أبيه المتكئ علي خشب مكتبته في غرفة مخصصة للبكاء والحنين, حاضنا وردا ذابلا وورقا تدربت الأقلام عليها كثيرا و تلألأت في عينيه نجمتان من دمع, هاذيا بكلام لا افهم منه غير " هو ليس بخير "
أقول هو من ؟ فلا يجيب و يضحك ليلملم علينا الجيران, فتاتي النساء متشحات بالأزرق الحبري, ظلالهنّ ظلال شجر وأصواتهنّ أجراس, نساء يرمين أوراق الغار علي وجه إبراهيم ويقرأن له شعراً من ديوانه الوحيد, فيرد إبراهيم : ما أتفه هذا الشعر وكاتبه، اخرجن .. اخرجن من البيت وخذن معكنّ هذه الظلال وتلك الأجراس التي تعلقت بالنافذة حتي حجبت عني الشمس, فهو ليس بخير .. تقول النساء بصوت واحد: هو من؟ .. هو من؟
يرد إبراهيم : أعود إلي القامشلي وفي بالي وداع رجل لا اعرفه, ثم ينظر إليّ: لأنك لست الرجل الذي لا أعرفه ضع إحدي رسائل سليم بركات القديمة, في الدواة ثم دعها تشرب كفايتها فالحبر يجعل البياض رحيما علي الورق, ثم قرّبها من صوت قلبي واتركها تنام علي جبيني إلي أن تمطر هذه الغيمة ويشير إلي قلم مهشم قرب كرسي مقلوب, وقل للريح أن تكف عن الغناء كي أري ماذا سأفعل بكل هذه النجوم التي تجرح روحي وروح من يعرف أنه ليس بخير وحزين للغاية, فأغمس إحدي رسائل سليم بركات في الحبر وبعد أن تأخذ كفايتها من الزرقة أضعها علي جبين إبراهيم لينام كطفل أتعبته طائرات الورق, تأتي فراشة من النافذة التي تعلقت بها أجراس تشظّت عن صوت النساء وتحطّ علي رسالة سليم المتدلية علي جبين إبراهيم فيستيقظ كمجنون لدغته نحلة وتطارده أخري, ليهذي من جديد فلا أفهم منه غير " هو ليس بخير " أقول من ؟ يقول : شجرة البرتقال قطفوا منها العنب .
ثم يقول للنساء: الكردي الذي لم تصله رسالة من سليم بركات وبخط يده لا يمكنه أن يكون شاعرا أو كاتبا أو سياسيا ثم يطلق العنان لضحكة تفزع الغزلان النائمة بين كتب مكتبته العالية فتنظر الغزلان بأعين مغرورقة وترمي بيني وبين إبراهيم قطعة مجففة من جلد أقرانها مكتوب عليه " هذه عادة إبراهيم حسو منذ سنوات, منذ أن صار هناك شيء اسمه الانترنت, فيبكي إبراهيم: نعم ولهذا هو ليس بخير .. أقول من جديد : هو من ؟ فيقول لي : ضع وردة بين أعين الغزلان كي تنام ولا تنس أن تقبّل قرونها النابتة، فهي تحب سليم بركات كثيرا وتسألني عنه قبل أن تنام وبعد أن تستيقظ .
استيقظ في الصباح الباكر علي نحيب وعويل شديدين أفتح الباب الواقف علي الرصيف منذ إحدي وثلاثين سنة لألمح إبراهيم حسو بين عدد من النساء المتشحات سوادا وعلي كتفيّ إبراهيم نعش كتب عليه " الشعر "
يناديني من بينهنّ تعااااااااااال ابكي معي علي الشعر, علي بحوره وموسيقاه وصوره, تعال فلم يعد هناك شيء اسمه شعر, شعر اليوم رسائل تكتب بيد مراهقين وان كان البعض منهم قد تجاوز ــ ت ــ سن اليأس لقد قتلوه علي غفلة مني وحين وصلت إليه كان جثة وها أنا أشيّعه وحيداً
- من قتله ؟
- اللذين أصبحوا عالة عليه منذ أن جاءنا الانترنت.
يقف إبراهيم حسو علي صخرة عالية في إحدي زوايا المدينة ويقول بصوت عال " ليس في بيتي ولا قطعة شعرية لإطعام هؤلاء الخدم الذين جاؤوني من آخر البحر ليعلموني السباحة في عينيك" فتضحك النسوة ويغضب إبراهيم كثيراً ويقول لهنّ: عليكنّ أن لا تضحكن حين تسمعن الشعر, عدن إلي بيوتكن واتركن لي ظلالكن , ظلالكن التي علي هيئة أشجار جميلة .. أقول له: هل كانت للمرأة جناحان كجناحي حمامة ولم تكن هناك شجرة تستحق أن ترتاح المرأة عليها لذلك استغنت عن جناحاها كي لا ترتاح أبدا؟
دعك من النساء وأغصانهن وخذني لبيت طه خليل, لأعرف ماذا عليّ أن أفعل بالشعر الميت..أصل مع إبراهيم وبعض ظلال النساء تتراقص خلفنا إلي بيت طه فنجده قد أتي للتو من صيد السمك وهو يتباهي أمام جاراته وأزواجهن بصيده الوفير هذه المرة, حيث اصطاد سمكة تزن اثنتا عشرة كيلو غراما, ويفسر كيف كان السمك أكثر من الماء وكيف كان الماء يبكي حين يلقي له قصيدة علي ظهر سمكة " جري " يقرفص طه أمام سمكه ويناديها بأسمائها الخجولة فتغمض الأسماك أعينها الخضراء حين تسمع إبراهيم حسو: يا أستاذ طه دعنا من أصدقائك السمك وتعال نتناقش في أمور الدفن … فيندهش طه حين يري جثة الشعر أمامه ليركع علي ركبتيه ويضرب صدره وقلبه العليل: كنت أعرف بأنه سيموت, علينا أن نذهب إلي الشيخ عفيف الحسيني فهو ابن وحفيد الشيوخ, وربما ليس هناك من يعرف أن يغسل جثة اللغة والشعر أكثر منه, نذهب إليه سيرا علي الأقدام وعلي أكتافنا ضريح الشعر .. نخرج من القامشلي عن طريق الهلالية متجهين إلي عامودا لنصل إليها بعد ثماني ساعات وطه قد سبقنا بسيارته إلي هناك, وما أن نصل إلي بيت الشيخ عفيف حتي يأتي ومعه كيس مملوء بغبار شرمولا, وهو يضحك: أصبح لي أربع سنوات وأنا أقرأ علي هذا الغبار قصائد لسليم بركات ومحمود درويش وجكر خوين, فينثر الغبار علي جثة الشعر ويقول: لي ثلاثة أبناء شعراء وطه رابعهم, عيناي كسولتان فكونوا لي عيونا أيّها الشعراء , الشعر شعر لا يموت وان توعك بعضه وأصيب بأمراض كاتبيه فهو يداوي جراحه خيالا فوق خيال هو لم يمت, أنتم واهمون.
يصعد طه خليل شرمولا لينظر إلي الجهات ففي كل واحدة له فيها قلب وروح , يتبعه إبراهيم حسو لينظر إلي سرب القطا فيرمي لها يديه مودّعا , وأنا آخر من يصعد لأنظر إلي الجنوب الغربي حيث دمشق وبيت طه خليل وأصوات بردي وامرأة ضربت زجاج قلبي بحجر قلبها ومضت.