فاجأنا الصديق الأستاذ جان دايه بمقالة غريبة في جريدة «النهار» (10 نيسان 2011) يتحدَّث فيها بكل راحة ضمير عن مشاركته في مؤتمر انعقد عام 1995 حول «إبداع» معمّر القذافي! معدِّداً ما حصل من إهانات (سمّاها «مفاجآت»!)، واصفاً للقرَّاء لقاءه بالقذافي رفقة «مئة كاتب يجلسون القرفصاء» في خيمة العقيد... الذي ازدراهم جميعاً فتغيَّب عن «جلسات المؤتمر بما في ذلك جلستا الافتتاح والختام»!الباحث المعروف الذي أخذ الأمر على أنه مسألة طبيعية، وموضع تندُّر، لم يقرأ جيّداً - على ما يبدو - التحوّلات الكبيرة التي تحدث في العالم العربي. لم ينتبه إلى أن منظومة كاملة من الأفكار والنماذج بدأت بالانهيار... وعلى رأسها تعامُل المثقَّف مع نفسه ودوره بهذه الخفَّة.ما قرأتُه في مقالة جان دايه، ليس المثال الوحيد على ما أريد قوله. فقبله بأربعة أيام كتبتْ الشاعرة الأردنية زُليخة أبو ريشة مقالاً أكثر غرابة بعنوان «نحب الملك ونكره النظام» (القدس العربي، 6 نيسان 2011)، تفتتحه كالآتي: «نحن نحبُّ الملك، فهو رأسُ الوطن ورمزُه أيضاً. هو والعلم الأردنيُّ رمزان مجرَّدان عاليان مصونانِ لا يُمسَّان ولا يُناقشان»!وإذا كنت لا أفهم كيف لمثقف أن يستخدم جملة «لا يُناقَش»، كما يستخدمها أيّ شيخ دين متطرِّف وأُمِّي، فكيف لي أن أفهم ترويج المثقَّف العربي للأكذوبة الشائعة والبائخة في كل البلدان العربية عن أن الرئيس أو الملك أو السلطان من دُعاة الإصلاح لكنَّ مَن حولهم يرفضون ذلك! فلنقرأ: «النظام الذي نكرهُه ليس النظام الملكيَّ الذي نريده (...) النظام الذي نكرهه هو ذاك الذي كلما قال الملك: الإصلاح، كان يضع في أذنَيه سمَّاعات تُسمعه هدير الجماهير المنادية بحياته»!ولن أتابع أكثر في استلال الأمثلة المُعيبة من هذا المقال المليء بعبارات من مثل: «نحن نحبُّ الملك الشاب الذي تربَّى على حب الناس»، «نحبُّ الملك رمز استقرارنا»، «نريدُ المَلَكيَّة»... لأنني تذكَّرتُ حادثة أبلغ تعبيراً من كل ما سبق قوله، وملخَّصُها أنني أثناء بحثي عن طريقة للحصول على جواز سفر (إلى اليوم أنا محروم من جواز سفري السوري بسبب كتاب «أبي البعثي» ومقالاتي السابقة في «ملحق النهار»)، فوجئتُ بإحدى الصديقات تعرض عليَّ الحلَّ الآتي: «اكتبْ مقالة امدح بها الرئيس بشار الأسد فتُحلّ المشكلة»!!الصديقة، التي تنتمي إلى جيل جان دايه، عرضَت اقتراحها بكل صدق وعفوية، دون أن تُفكِّر أن في الأمر إهانة كبيرة لي وللطريق الذي اخترتُه. وأنا - رغم صدمتي الحقيقية بالخفَّة التي طرحت بها اقتراحَها المُهين - لم أردّ عليها بكلام قاسٍ، واكتفيتُ بالابتسام والصمت، لأنني لحظتها قلت في نفسي: إنها من نوع المثقَّف القديم.قِدَم الأفكار والنموذج، لا الزمن، هو ما أعنيه طبعاً بكلامي على المثقف القديم. فكم بين أبناء جيلي من مثقفين قدماء بأفكارهم البالية عن معنى المثقف ودوره، لم يتوانوا عن مديح زعماء وساسة، مقابل وظيفة أو مبلغ من المال أو حتى التقاط صورة.وهنا عليَّ الاعتراف بأن أكثر اسم آلمني وجوده بين الأسماء الكثيرة التي امتدحت العقيد القذافي مقابل أُعطيات مالية، هو اسم ميرال طحاوي. لماذا؟ لأنها شابة تحديداً.فأنا لا أستطيع تخيُّل الشباب عديماً من العنفوان الأخلاقي ومن ضمير أكثر توقُّداً. لا أستطيع فهم كيف يمكن لأديب شاب بيع نفسه وقلمه من أول الطريق.الثورة العربية الحاصلة اليوم، لم تكشف فقط فساد ووضاعة الطبقة السياسية التي تحكمنا، بل أيضاً كشفت تهافت المثقف العربي والوضع المأسوي الذي تحياه الثقافة العربية.ولولا استثناءات قليلة، لكنّا تماماً أمام صِبية يدافعون عن الأنظمة من جهة، ويتراشقون التهم والمزايدات والبطولات الوهمية من جهة أخرى، لا أمام مثقفين يضطلعون بدورهم التاريخي في مفصل تاريخي لا يتكرَّر.لذلك، وعوض أن تكون بيانات المثقفين المواكبة للثورة شهادةً حيَّة على دور المثقف القيادي، باتت شهادة هزليَّة على الدور الهزلي الذي ارتضاه المثقف العربي لنفسه. فعلى سبيل المثال صدر منذ أيام (28 نيسان 2011) بيانٌ يُدين مجازر النظام السوري، وأول موقِّعيه هو الشاعر العُماني الصديق سيف الرحبي الذي لم نرَ اسمه في أي بيان يُدين جرائم السلطان العُماني ضدَّ المتظاهرين السلميين. لا بل إنه في مجلته «نزوى» لا يذكر اسم السلطان إلا على الشكل التأليهي الآتي: «جلالة السلطان قابوس بن سعيد المُعظَّم حفظه الله ورعاه»!!ومن بين الموقِّعين على البيان أيضاً الشاعرتان السعوديتان فوزية أبو خالد وعبير زكي اللتان لم نسمع رأيهما في جرائم النظام السعودي بحق مواطنيه، والذي هو بلا شك أسوأ نظام قمعيّ في القرن الواحد والعشرين.وبالمثل، كانت حماسة المثقفين السوريين كبيرة في إصدار البيانات وتوقيعها دعماً لثورتَي تونس ومصر، لكن ما إن وصلت الثورة إلى سوريا حتى لم نعد نسمع إلا الشيء القليل القليل، رغم أن حجم العنف الذي يرتكبه النظام السوري أكبر بما لا يُقاس مع عنف النظامَين التونسي والمصري السابقَين.الشاعر السوري نزيه أبو عفش يكتب على صفحته في «فيس بوك» بأنه يعرف سلفاً أن اسمه سيُوضَع على قائمة العار!مع ذلك يستمرّ في موقفه المُخزي من الأحداث الجارية، مختزلاً ما يجري في سوريا بمجرَّد خلاف على الملكيَّة: «لماذا تطلبون منّي أن أكون سعيداً؟ البيت كلّه يوشك أن يتهدَّم فوق رؤوس ساكنيه، وأنتم تختصمون على مَن يحق له أن يحمل المفاتيح»!! كما كتب على «فيس بوك» أيضاً.كلام كهذا ليس تضليلياً فحسب، بل ويفتقد إلى الدرجة الدنيا من النزاهة. وإذا ما أردتُ الذهاب أكثر من ذلك أقول إنه ينبع - مع كل أسف - من حسٍّ طائفي. وهذه قضية خطرة كشفتها الأحداث الأخيرة، حيث وقع العديد من المثقفين السوريين الذين ينتمون إلى أقليات دينية في شرك الترويج لدعاية السلطة عن أن النظام الحالي هو السدّ المانع للاقتتال الطائفي، أو بالأصحّ لثأر «الأكثرية» من الأقليات كما يفكر ويُروِّج هؤلاء... عوض أن يكونوا السبَّاقين إلى دحض هذه الخرافة، أو إعادتها إلى حجمها الطبيعي. وإلا فما الذي يجعل أبو عفش الذي حيَّا الثورة المصرية يقف ضدَّ الثورة في سوريا؟أمراض. أمراض لا حصر لها أظهرتها الثورات العربية لدى المثقفين العرب. لم أتحدَّث بعد عن ظاهرة «مثقَّفي الأحاجي» الذين لفهم ما يريدون قوله عليك أن تكون خبيراً في علوم التنجيم وقراءة الكف. عن أؤلئك الذين يقفون في منطقة رمادية بانتظار جلاء النتيجة. لم أتحدَّث عن أمراض أخرى من أمراض المثقف القديم الذي آن عليه أن يرحل مع النظام الذي عاش معه وصفَّق له وصار على مثاله.حين ارتكب جابر عصفور صَغَارته الكبرى بتولِّي الوزارة على دماء المصريين، كتبت «الحياة» (1 شباط 2011) في الخبر محاوِلةً الالتفاف على القارئ بأن عصفور «استطاع أن يُضفي معنى مختلفاً للعلاقة المتأزمة دوماً بين المثقف والسلطة»!اليوم، هذا «المعنى المختلف» هو ما بدأ ينهار... وإلى غير رجعة.
المثقف القديم
ماهر شرف الدين
«الغاوون»، العدد 38، 1 أيّار 2011