٢١‏/٧‏/٢٠١٠

تباً لك يا دجلة.. دلاور زنكي
ترجمة: توفيق الحسيني.

في عشية يوم من أواخر الشهر الأخير من الخريف، كانت السماء تمطر بغزارة وينسكب الماء وكأنه ينبثق من أفواه القرب، وكانت البروق تلمع وتومض بين حين وآخر وتضيء الأرجاء وتحيل الليل إلى ما يشبه النهار قليلاً ثم تخمد وتتلاشى، ومن بعد ذلك يزداد تدفق الأمطار فيخيل إلى المرء أن السحب قد عادت وتصدعت فسالت المياه بهذه الغزارة. كانت العجوز "زين" تتناول اطماراً وترقع هنا وهناك، وكلما دوّى صوت الرعد قالت بخشوع: -اللهم إني أسألك الرحمة واللطف بالإنسان، كما أسألك أن تشمل بها حتى الذئاب في ذرى الجبال فهي أيضاً مخلوقات بائسة تستحق الشفقة. وكان العجوز "حسو" يتكئ على وسادة بجانب حفيدته "نرمين" وقد ألقى ساقاً على ساق ووضع ذراعيه على صدره وأرخي قبعته على عينيه ويتمتم بأغنية "ممي آلان"، وكانت العجوز "زين" تردد من بعده بصوت خافت كلمات الأغنية بين حين وآخر وتتأوه وتقول: -أيها الفلك الدوار كم واريت عيونا حوراء تحت الثرى، وكانت ألكنة "روزين" قد انكبت على مهد وليدها الذي لم يتجاوز من العمر ثلاثة أشهر تفك أربطته وتناغيه هادئة يفعم صدرها فيضً من السعادة، وكانت مسرورة كل السرور بما تفعل فلو كانت لها أجنحة محلقت في الفضاء فرحاً وابتهاجاً. لقد أنقذها مقدم هذا الوليد الصغير من ألْسِنةِ الجارات وكلماتهن الجارحة ووشاياتهن، إذ لم يكن ينقضي يوم واحد دون حضورهن إلى حماتها قائلات: -أيتها الجدة "زين" ها هي كنتك قد أجدبت وعقمت وها هي أربعة أعوام تنصرم على ميلاد ابنتها "نرمين" دون أن تنجب ولداً... إن ابنك والحمد لله كأمير من الأمراء... فلماذا لا تزوجينه من فتاة ذات حسب ونسب، وفي غضون أعوام قليلة سيعج بيتك بالأطفال. فكانت العجوز تقول متحسرة متألمة: -وماذا افعل يا بناتي... أيخيّل إليكن أنني لا أرغب في ذلك؟ الست أتمنى أن تزدهر دارنا كغيرنا من الناس بالأطفال؟ ليت هذه الغمة تنجلي عنا وليت هذا البلاء ينقشع ويعود ابننا إلى البيت وإذ ذاك سنتدبر الأمر وسنصنع ما يجب أن نصنع.. كانت ألكنة "روزين" قد نسيت أحاديث الجارات وأقاويلهن التي تؤرقها وتحرمهـا النوم وتجعل لياليها مملة مضجرة، ولم يعد يشغل خاطرها سوى هذا الرضيع المدرج في اللفائف. أما "نرمين" فعلى الرغم من بلوغها خمسة أعوام من العمر فهي ما تزال في كنف جدها وجدتها لا تكاد تفارقهما. في تلك الليلة ودون توقع وعلى حين غرة قرُع الباب وسمعت طرقات عنيفة، فكفّ العجوز "حسو" عن الاسترسال في أغنيته واستوى جالساً وقال: -عسى أن يكون الأمر خيراً.. من هذا الذي ضل طريقه في مثل هذا الطقس الذي تخشى فيه الدببة مغادرة أوْجِرتها وجحورها... يا "روزين" يا ابنتي هيا انهضي وافتحي الباب. ثم قال بينه وبين نفسه متوجساً حذراً: "أليس الطارق من الجندرمة؟ أولئك الاندال". منذ ثلاثة أعوام وحتى الآن لم يدعهم الجندرمة وشأنهم ولم يألوا جهداً في تكدير عيشهم وتنغيص أيامهم، لقد دأبوا على الحضور إلى القرية قائلين: -يا "حسو كورو"...احضر إلينا ابنك.. فقد نضطر إلى إلقاء القبض عليك وأخذناك بجريرته. فكان العجوز "حسو" يجيب قائلاً: - أقسـم لكم.. أنني لا اعرف عنه شيئاً ولا أدري إن كان في الأحياء أو في الأموات. لكن قسمه لم يكن يجديه فتيلاً، فكانوا يخرجونه من الدار ويذهبون به، ويحتجزونه أياماً، وبعد أفانين من الضرب والتعذيب والإهانة وبعد أن يقسروه على دفع مبلغ من المال يطلقون سراحه، وذات مرة حاول "الجندرمة" إلقاء القبض على "روزين" فاصطحبوها إلى الخارج وأرغموها على امتطاء السيارة، بَيْد أن نساء القرية تألبن على الجندرمة وارتمين أمامها واعترضن سبيلها، وشنت بعضهم غارة عليهم ورشقنهم بالحجارة حتى أطلقوا سراحها صاغرين. سارت "روزين" الى الباب يجتاحها الذعر ويملأ نفسها الرعب وفتحته بيد مرتجفة.. وما ان فتحته حتى اقتحم الدار ثلاثة أشخاص كالمردة وقد ابتلت ثيابهم وغسلت الأمطار الهاطلة أجسادهم من قمة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم. كان أحدهم رجلاً نصفاً، وكان الاثنان الآخران يافعين في شرخ الشباب، ولم يكن الرجل النصف سوى "جكو" قال متهلل المحيا طلق الأسارير: -عمتم مساءً.. فضجت العجوز "زين" منتحبة باكية من سعادتها التي هبطت عليها برؤية ابنها الذي طال غيابه وهي تقول: -أهلا بكم.. جئتم على الرحب والسعة. فداء أنا لضيوفي.. فداء لصناديدي وأبطالي. ثم نهضت العجوز وقبلتهم واحداً بعد آخر.. وأخيرا وجهت حديثها للشابين المرافقين لولدها "جكو": -مرحباً بكما يا ولديّ.. لا فرق بينكما وبين ولدي "جكو".. إنكما بمثابة ولدي هذا. انتم جميعاً سواسية. تشبثت "نرمين" بساق "جكو" قائلة: -أبتاه.. ماذا جلبت لي هذه المرة؟ حملها "جكو" وضمها إلى صدره ولثمها وقال: -لقد جلبت لابنتي الغالية أشياء كثيرة.. دعيني أقبل يد جدك أولاً.. ثم.. بعد مراسم اللقاء وتبادل كلمات الترحيب، خلع الثلاثة ثيابهم المبتلة وذهبت "روزين" ورجعت وبين يديها شيء من الحطب فملأت المدفأة من هذا الحطب وأوقدت النار في المدفأة، وفي دقائق معدودات انتشرت النار في الوقود وتأججت ثم شرعت تقلي بيضاً لعشاء الضيوف على هذه النار وبعدما اطمأنوا في مجالسهم، أشعل "جكو" لفافة تبغ وقدم لفافة إلى العجوز "حسو" وقال: -أبتاه.. لعلكم لا تعرفون رفيقيّ هذين.. ولا بد من التعريف بهما. ثم أومأ بيده إلى ناحية اليسار وقال: -هنا الرفيق يدعى "شيار" وقد تلقى الدرس في المعاهد العلمية وهذا الرفيق هو "جوان" وكان فيما مضى موظفاً في أحد المصانع قبل زمن الاضطهاد والتعسف وقد كنا في مهمة في العراق وها نحن قادمون من هناك. عرك العجوز "حسو" حبات السبحة بين كفيه وقال بوقار: -على الرحب والسعة يا أولادي. كانت العجوز "زين" قد بسطت رجليها تهز مهد الوليد وتهدهده بأناة. ولكي تجذب انتباه "جكو" والضيفين المرافقين تدخلت في الحديث قائلة: -على أيّ حال تركتم أولئك الذين غادرتموهم.. عسى أن يكونوا بخير...؟ وحين التفت عينا "جكو" بالمهد نسي أن يجيب عن سؤال العجوز "زين" وتذكر ان "روزين" قالت له قبل أن يغادر الدار: "أنني حامل وسوف يكون لنا ولد" وها هي العجوز "زين" تهز السرير فلم يتمالك نفسه وسأل: -أماه... ناشتك الله... أليس هذا السرير خاوياً؟ فقالت العجوز برقة يشوبها الخيلاء: -آه يا ولدي... وكيف أهز سريراً خاوياً؟ في السرير طفل كالحمل حفظه المولى ورعاه. كان "شيار" مولعاً بالأطفال شغوفاً بهم وما ان لمح الطفل حتى كرّ على السرير وانتزعه وطفق يقذفه إلى الأعلى قليلاً ثم يتلقفه... وفعل ذلك مراراً ولما كان الطفل حديث عهدٍ بالنوم وآثار النعاس ما تزال ترنق في مقلتيه فقد بدا عابساً مكفهر الوجه.. يتلمظ، ولما قضى "شيار" وطراً من مداعبة الطفل خاطب والده متفكهاً: -"جكو".. يا أخي.. ابنك هذا يعبس في الوجوه ويقطب منذ الآن ويهدد الآخرين ويتوعدهم ومتى ترعرع وشب عن الطوق فلن تستطيع إرغامه على المكوث في البيت وملازمة الدار وإن وثقته بالأمراس، فتضاحك الحاضرون. ثم التفت إلى العجوز "زين" وقال: -آه... حقاً ما اسمه؟ أي اسم أطلقتم عليه؟ فردت العجوز: - والله يا ولدي ما أطلقنا عليه اسماً بعد وكنا قد نذرنا، وآلينا على أنفسنا أن لا نطلق عليه إلى حين أوبة أبيه... وها قد حضر أبوه فلكم أن تطلقوا عليه من الأسماء ما تشاؤون. ألقى "جكو" نظرات حوله في حيرة واستحياء وقال: -أنني أفوّض أخي "شيار" لتسميته بالاسم الذي يراه مناسباً. -حسناً.. مادمت مكلفاً بتسمية فتى عزيز فاقترح اسم "كاوا" لأنني- كنت منذ الصغر- مغرماً بهذا الاسم. كانت "روزين" قد أعدت الطعام فأحضرته ووضعته أمامهم فاختلس "جكو" نظرة ورنا إليها وابتسم وبادلته "روزين" الابتسامة ولكي تخفى ابتسامتها عن الحاضرين غطت فمها بلفاعها. امتد السهر حتى الهزيع الأخير من الليل... والأسئلة تتدفق على "جكو" ورفيقيه عن السجون والزنزانات وعن التعذيب واضطهاد القرويين واستلابهم وانتهاك حرماتهم وعن المجاعات والتجويع القسري، وقصف منازل الأبرياء الوادعين القريبة من المناطق الحدودية... فكان الثلاثة يتعاقبون ويتناوبون في الشرح والتفسير، موضحين ما آنبهم من الأمور بكل الدقائق والتفاصيل. كانت العجوز "زين" تهمس لـ"روزين" وتقول: -انك ترين هـؤلاء الفتيان.. إنهم يعـرفون أشـياء كثيـرة وكأنهم طاعنون في السن. لهم حكمة الكبار وتجاربهم.. وكأن في هذا العالم أناساً كُلفوا بإبلاغهم عن كل ما يطرأ على العالم من أحداث. استيقظت العجوز "زين" كدأبها في الصباح الباكر وأعدت لهم طعاماً فلما نالوا قسطهم من الأكل تقهقروا إلى أماكنهم حيث كانوا يحبسون، وتوجه "جكو" إلى العجوز "حسو" وقال: -أبتاه.. أنني- كما تعلمون- خارج على القانون في نظر النظام الفاشي، ولهذا السبب لا يمر يوم دون قدوم "الجندرمة" إلى القرية وإيذاء القرويين والاعتداء عليهم لا يفرقون بين صغير وكبير، وما دام معي بعض الرفاق فإني راغب في اصطحاب "روزين" والطفلين إلى حيث نحن ذاهبون إليه.. هناك قد نجد ظروفاً موائمة يرتاح فيها الطفلان من عناء أولئك العتاة من "الجندرمة" وجورهم وهناك سيجدان الطمأنينة والأمان، ومتى جاؤوا إليكم وسألوكم عني أجبتم: -لقد حضر إلينا وذهب بأفراد أسرته الى حيث لا ندري، وسوف أزوركم كل ثلاثة أشهر، فلنا مهام هنا في هذه الأنحاء ولن أدعكم وشأنكم ولن أتخلى عنكم. اختلس العجوز "حسو" نظرة إلى العجوز "زين" و "روزين" فطأطأتا رأسيهما وكأنهما يقولان: "افعلوا ما بدا لكم". ثم استكان الى الصمت قليلاً وأضاف: -حسناً يا بني.. إنهم أفراد أسرتك.. زوجتك وطفلاك.. ولا نظنك تبغي لهم سوى الخير.. اذهب بهم إلى حيث تشاء وتريد وما داموا مقيمين هنا فلن يهدأ لهم بال ولن تستقر أحوالهم. ألم يبلغك الخبر؟ في العام المنصرم حاول "الجندرمة" السفلة أن يذهبوا بـ"روزين" المسكينة. فإن حاولوا ذلك مرة أخرى وذهبوا بها فماذا نحن فاعلون؟ وهل في اليد حيلة؟. احمرت حدقتا "جكو" غضباً وألقى نظرة نارية على الأرض وسحب نفثاً عميقاً من لفافته ثم سحقها في قاع المنفضة وهيمن صمت مريع على الجميع هنيهة من الوقت. قالت العجوز "زين": -آمل أن تمضوا معنا – هذه المرة- وقتاً طويلاً يا ولدي. -لا.. لا يا أماه.. سنغادر متى حل المساء فإن الشقة بعيدة والرفاق ينتظرون أوبتنا. كانت العجوز "زين" تنشج وتبكي بصوت خفيض وتقول: -يا الهي ماذا فعلنا حتى تلمَّ بنا هذه الرزايا. استدارت الى "روزين" وقالت: -انهضي يا ابنتي واعدي العدة.. وتأهبي للرحيل، فهذا هو قدرنا المحتوم. خيم الظلام على الأرض، وكانت الأمطار قد كفت عن الانهمار وهبت رياح باردة، تهدر في الجبال والوديان والغابات، تحمل معها الأوراق التي تقتلعها من الأشجار وتحمل القش والأغصان المتكسرة والحشائش المتناثرة هنا وهناك وتمضي بها الى الوديان السحيقة الغور. كان المرء يشعر إذ تلامس هذه الرياح الباردة وجهه ويديه وكأن سوطاً من النار يصفعه، ويدرك أن السماء ستكون صافية الأديم بعد هطول تلك الأمطار الغزيرة في الليلة البارحة. تأهب الجميع للرحيل.. وخرجت "روزين" من هذا البيت الذي أمضت فيه ستة أعوام بكل مسراتها وأتراحها، وليس معها من متاع الدنيا سوى صرة تحمل فيها ثيابها وثياب طفليها وفي الحقيقة لم يكن لديها من الأمتعة سواها.. ولئن كانت لديها أموال أو أمتعة أخرى فهل كانت تستطيع حملها في هذا الطريق الطويل الذي يعيا فيه المرء بحمل جسمه. جرت مراسم الوداع والتوديع، ولكن العجوز "زين" لم تدعهم يسـيرون فقد قبلتهم واحداً واحداً وكررت ذلك مراراً. واحتضنتهم وطوقت أعناقهم بذراعيها وهي تقول: -آه... لقد قوضتم أركاني.. وكيف استطيع العيش في هذا المنزل المقفر الذي خوى من "كاوا" و "نرمين" وكيف سيهدأ لي بال..؟. رفعت يديها إلى السماء داعية متضرعة: -اللهم انتقم من أولئك الذين كانوا سبب هذه المأساة. هل اقترفنا إثما؟.. أي ذنب ارتكبنا؟ اللهم سلط عليهم الأوبئة... ماذا فعلنا حتى تنصب على رؤوسنا الويلات وتحل الرزايا والمصائب في ساحنا؟. كان الجميع صامتين هادئين سوى "نرمين" التي كانت تتشبث برداء العجوز "زين" وتقول لها: -جدتي.. جدتي... لماذا تبكين؟ سنعود بعد سنة... هكذا قال أبي. فتناولتها العجوز واحتضنتها وألصقتها بصدرها وقبلت وجنتيها وقالت: -آه.. يا أبنتي الغالية.. ليتني أكحّل عيني بمرآك مرة أخرى ولأمت من بعد ذلك. كانت العبرات تنهمر من مقلتيها وتنساب على خديها المنتفختين ثم تنحدر وتتساقط على الأرض. أما العجوز "حسو" فكان يتكئ على باب الردهة صامتاً، ويرمق العجوز "زين" والضيوف بنظرات بائسة خالية من الأمل وقد حار في أمره لا يدري ماذا يقول وماذا عليه أن يفعل. حين غادروا المنزل لم تتمالك العجوز "زين" نفسها من الخروج في أعقابهم لتهتف في "روزين" قائلة: -يا ابنتي "روزين" احرصي على "كاوا" واهتمي به وشددي به العناية، ولئن أصابه مكروه فلن يكون لحياتك معنى آنذاك ومن الخير لك أن تلقي بنفسك من حالق الى الهاوية. ثم أضافت في صوت خفيض: إه يا "كاوا" الحبيب... يا حمل جدته.. الأثير الى قلبي... بأبي أنت.. سيروا والله يرعاكم وينصركم. ويحميكم. هذا هو اليوم الثالث وهم ما يزالون سائرين... بين الغابات والأدغال حيناً وطوراً في الوديان وبين شعاب الجبال الضيقة.. وتارة بالقرب من مخافر "الجندرمة" ومراكز المراقبة ومراصد الحدود... وأحيانا أخرى في أعماق الوهاد السحيقة الغور... كانوا بين حين وآخر يستجمون ويستريحون من وعثاء السفر وعناء السير الدؤوب في كهف مظلم بارد أو في بيت بعض الأصدقاء الذين يثق بهم "جكو" ويعرفهم معرفة جيدة. كانت "روزين" دائمة القلق والاضطراب، مشوشة الذهن، مشتتة الفكر تسأل بينها وبين نفسها: "إلى أين نحن ماضون؟ وكيف تكون هذه البلاد التي نقصدها ونتوجه إليها، وهل يكون سكانها على شاكلتنا؟ ولكن أيّان لي أن يطمئن لي بال في بلاد الاغتراب دون أليف أو أنيس؟" مثل هذه الأسئلة كانت تعشش في رأسها وتزدحم حتى تصبح معضلة ولا تجد جواباً. ولكنها في نهاية المطاف كانت تهوّن الأمر وتعزّي نفسها قائلة:" وأي شأن لي بالصديقات والخليلات، يكفيني انساً وسعادة قربي من طفلي "كاوا" و "نرمين"... يكفيني كوخ صغير يأوينا وكسرة خبز نقيم بها أوْدنا... إن تكن الصحة موفورة والبال خالياً فلا حاجة بي الى مال الدنيا ومتاعها". في تلك الأيام الثلاثة من السير الدؤوب، كان ذهن "روزين" مشغولاً بمثل هذه التأملات. في ظهيرة اليوم الثالث وهم لائذون بركن صخرة في الجبل لينالوا قسطاً من الراحة، انقشعت الغيوم الداكنة وتكشفت عن قرص الشمس التي أرسلت أشعتها الذهبية على الكون وبثت الدف في أوصالهم فانسلت تيارات من الوسن الى عيونهم ودب الفتور في أجسادهم. تفرق "جكو" و "شيار" و "جوان" هنا وهناك يجمعون الحطب ليحتسوا شاياً ساخناً. أما "روزين" فقد أوت الى صخرة قريبة اتقاء الأنسام الباردة، معرضة جسدها لحرارة الشمس. ولما كان الصغيران قد نالهما التعب والإرهاق أكثر مما نال الكبار ولكي تنام "روزين" لماماً فقد دثرت ابنتها "نرمين" بمعطف زوجها "جكو" وأرخت قليلاً أربطة الرضيع "كاوا". ثم دست رأسه في صدرها وألقمته حلمة ثديها فتناول الثدي بنهم وشراهة كذئب طال جوعه ورنت الى الوجه الطفولي البريء بود وإشفاق ومسدت بيدها رأسه وهي تهمس: "آه... يا ولدي الغالي.. يا كل أملي... يا موئلي وملاذي... لقد جعلت صفحتي بيضاء ناصعة لدى الجارات وغيرهن وأنقذتني من أقاويلهن ودسائسهن.. ولولاك لكانت حياتي كلها عذاباً وآلاما.". وتحت وطأة لمسات الأشعة الدافئة تسلل النعاس الى أجفانها فأسندت ظهرها الى الصخرة واستسلمت لسلطان النوم ونامت نوماً عميقاً وابنتها فوق ركبتيها والرضيع على صدرها. "مدينة واسعة شاسعة... المباني شاهقة سامقة تناطح السحاب.. الشوارع مكتظة بالسابلة الغادين والرائحين مزدحمة بالآليات والسيارات ووسائط النقل وحافلات المسافرين... تتحرك في هدير وديّ وزعيق، تتزاحم كما تتزاحم جماعات النمل في بيوتها، فلو أنك ألقيت تراباً لما سقط منه شيء على الأرض لكثرة المارين. إنها تقيم في هذه المدينة العجيبة، وقد كبر "كاوا" وكبرت "نرمين" والتحق الاثنان بالمدرسة. نهضت في الصباح الباكر، واعدت لهما الفطور... ألبستهما ثيابهما النظيفة التي أخرجتها من خزانة الملابس. حمل الصغيران دفاترهما وكتبهما وأقلامهما وخرجا من البيت وقد تشابكت يداهما حتى بعد خروجها من الباب الخارجي، ثم لوّحا بيديهما لأمهما وهما يثبان ويقفزان.. هي أيضاً لوّحت لهما بإحدى يديها بينما هي واقفة لدى الباب تراقبهما وقالت: -افدي ولديّ العزيزين.. افدي تلميذيّ... اذهبا بسلام. كانت يداهما ما تزالان متشابكتين وهما يجتازان الشارع للعبور الى الجهة الأخرى مسرعين، وفي منتصف الشارع داهمتهما حافلة من حافلات البلدية، وقذفت "كاوا" و "نرمين"، طرحت كلاً منهما على أحد جانبي الطريق. وسقطا جثتين هامدتين. ولما أبصرت "روزين" ما حل بولديها صرخت مذعورة بكل قوتها: "واويلتاه... واويلتاه... ولداي.. وامصيبتاه..". صرخت حتى جف حلقها ونشف ريقها. بح صوتها... لكن صوتها لم يبلغ مسمعاً، ولم يهب أحد لنجدتها. وأخيراً استفاقت من هذا الحلم المرعب وهي ما تزال تصرخ فتلمست ولديها. كان الاثنان نائمين.. آه.. إن ما حدث لم يكن إلا مجرد حلم ثقيل مخيف... مجرد كابوس... تنهدت بعنف.. لم يكن ما رأته حقيقة لقد كان وهماً من الأوهام. كان قلبها يخفق ويضطرب، وفي سرها تعوذت من إبليس ومن هذا الحلم المزعج. كان "جكو" يقف قبالتها وفي حضنه بعض الحطب وسألها: -ماذا دهاك؟ لماذا أنت خائفة؟ -لا شيء.. لا شيء البتة.. لقد كنت احلم وحسب. ثم وصل "شيار" و "جوان" أيضاً. تعاون الجميع على طبخ الطعام ثم تناولوه واحتسوا شاياً ساخناً. الوقت هو قبيل المساء... قصف الرعد، وتكاثفت الغيوم وتلبدت في ناحية الشمال... كانت قشعريرة من البرد تنتاب جسم المرء فيشعر وكأنه يعاني البرداء. ألبست "روزين" الطفلين ثيابهما التي جففتها تحت أشعة الشـمـس وبدا الطفلان متغضنين ذابلين كوردتين قطفتا عن أفنانها. لفت نظر "روزين" وهي تدثر الطفل بلفائفه ارتعاش فكيه وتجهم قسمات وجهه وكأنه يقول:" ماذا تبغون مني؟ مرت ثلاثة أيام وانتم تجرونني في هذا الزمهرير بين الجبال والوهاد والشعاب الوعرة... انني الآن في شهري الثالث.. أليس من حقي-على غرار أترابي- أن أتناول حليباً ساخناً حتى الشبع من ثدي أمي وأنام على صدرها وهي تناغيني في بيت دفيء. أما "نرمين" فلم تكن تكف عن التذمر والشكوى وهي تدأب على القول:" أماه أني مقرورة.. انني مرهقة.. تعبة.. إني جائعة يا أماه... أشعر بالنعاس... أماه... إلى أيْن نحن ذاهبون؟ أين تقع المدينة التي نزمع الرحيل إليها؟.". وفي الحقيقة، هي أيضاً لم تكن تعرف إلى أين يتجهون أو إلى أية ناحية يذهبون، فلم تتمالك نفسها وسألت زوجها "جكو": -إلى أين نتوجه يا رجل والى أين نحن ذاهبون. فها قد مضت ثلاثة أيام ونالنا من التعب والنصب الشيء الكثير... ألم ينته السفر؟ متى سنبلغ الغاية التي نسعي إليها؟ أين هو المكان الذي نقصده؟. تناول "جكو" يدها وذهب بها إلى ذروة الصخرة ووضع إحدى يديه على كتفها ولوّح بيده الأخرى مشيراً وقال: -أترين تلك المدينة الرابضة في ذلك الوادي. -أجل.. إنها كبيرة جداً... لعلها تعادل عشرة أمثال من قريتنا أليس كذلك؟. -إنها مدينة كبيرة.. إنها "جزيرة بوتان":..." لا ريب انك تذكرين أن الجد "حسو" كان يروي لنا قصة "ممي آلان".. لقد جرت أحداثها في هذه المدينة.. في هذه المدينة ضريحا العاشقين الشهيدين "مم و زين". -كم أتمنى أن نزورهما. -انظري.. ما أوسع السهول في هذه المنطقة... إنها شبيهة بسهول ماردين الواسعة... الناس يعملون في هذه الأنحاء كأسراب النحل لتحصيل قوتهم وادخار زادهم لأيام الشتاء، وهل تشاهدين تلك المباني الصغيرة؟. -أجل... إني أراها. -إنها دور مخافر "الجندرمة"، قد أحاطت بنهر دجلة لحراسة الحدود وفي الطرف الآخر توجد مخافر عراقية.. إن نهر دجلة يمثل حدود الدول الثلاث... في هذه الليلة سنمر بتلك المخافر وسوف نجتاز النهر والحدود المصطنعة للعبور الى "الجزيرة"... السورية. -وكيف سنعبر النهر ومعنا هذان الطفلان؟... لقد فررنا من نار "الجندرمة" فهل جئنا لنلقي بأنفسنا بين أيديهم؟ -وماذا سنفعل؟ - أننا مكرهون وليس لنا حيلة أخرى. كان المطر ينهمر رذاذاً ولم يكن بوسع المرء أن يفتح عينيه بسبب هذا الهطول... كانت قطرات المطر الصغيرة تنساب فوق الثياب وتتغلغل الى الأجساد، فلا تترك رقعة دون ابتلال. مرت ثلاثون دقيقة وهم يسيرون بحذاء ضفة دجلة مطرقي الرؤوس مقوسي الظهور بخطوات حثيثة.. وبعد فترة أخرى وصلوا الى سفح رابية فأسرع "جكو" و "شيار" و "جوان" الى إلقاء إثقالهم على الأرض.. أخرجوا أربع إطارات من المطاط، ونفخوا فيها الهواء وحين امتلأت هواء ربطوا كل إطار بالآخر. كانت "روزين" تجلس عن كثب-القرفصاء قريبة منهم ولكي تحمي الصغيرين من لسعات البرد فقد دثرت "نرمين" بمعطف "جكو"، وألصقت "كاوا" بصدرها، وشرعت تنتظر إليهما نظرات مرتعبة لا تنطوي على مغزى، خالية من كل معنى. قال لها "جكو" مشجعاً: -مهـلاً.. فمتى عبرنا هذا النهر لم تبق أمامنا أية متاعب أخرى.. فعلى رسلك... وما عليك سوى العناية بالصغيرين والاهتمام بهما واحذري أن يبكيا فإن المخافر تحيط من كل جانب، ومتى شعروا بنا ساءت أحوالنا ولم نأمن على حياتنا. كان نهر دجلة يفور ويغلي.. لأن الأمطار المنهمرة تذيب الثلوج المتراكمة فوق الجبال فتجرف التربة وكل ما تصادفه في طريقها وتنصب في النهر فيزداد ماء النهر ويفيض... وتتلاطم الأمواج وترتفع مع هبوب الرياح العاتية وتصطدم بحافات النهر وترتطم بضفافه فتلحس الأوراق وتلعق القش والحشائش وتعود بها الى النهر بهدوء. صعد الجميع الى الفلك المصنوع من الإطارات المطاطية... . كان كل من "شيار" و "جوان" قد امسكا بقطعة خشبية لتكون بمثابة مجداف وشرعا يجدفان بهما ويخوضان في المياه العكرة بكل عزم وقوة، يتعجلان بلوغ الضفة الأخرى. كان "جكو" قد وضع "نرمين" في حضنه وتشبث بها بكامل قوته وقد جلس القرفصاء، وكانت "روزين" قد غطت "كاوا" ببطانية ولفتها حوله بإحكام وكأنها تخشى أن يتخطفه الخاطفون من يديها، لذلك كنت تراها تشد الوليد الى صدرها بكلتا يديها وهي جالسة. وقد صعد قلبها الى حنجرتها رهبة ورعباً وفزعاً. بدا النهر من تحتهم وكأنه ثعبان هائل هائج يتحين الفرصة لينهشهم، وأضواء المخافر المحيطة بهم من الجهات الأربع بدت كعيون الضباع الخبيثة تتربص بهم. لم تصدر من أحدهم نأمة... كان الجميع ساكنين صامتين، لا يُسمع سوى صوت المجدافين اللذين يدفع بهما "شيار" و "جوان" مياه النهر ليمخر "الفلك". وصلوا الى اللج المتلاطم في وسط النهر.. هبت عاصفة هوجاء فازدادت الأمواج عنفاً ووحشية وارتفاعاً.. أدرك "شيار" و "جوان" أن الزوبعة عاتية وستقهرهما وتغلبهما على أمرهما فجدفا بمزيد من البأس والعنفوان... بيد أن الزوبعة اشتدت وازدادت ضراوة كلما مرّت الدقائق... كانت أمواج النهر تتلاطم وتتصادم وكأن بينها ترةً أوْ عِداءً... تلطخت ثياب أولئك القابعين على "الطوف" المطاطي بمياه النهر الملوثة بالأوحال والطمي.. وتأرجح الطوف صاعداً هابطاً مع حركة مياه النهر التي لا تدوم على حال.. كان يعلو ويهبط ويعود أخيرا الى سيرته الأولى. كانت "روزين" تمسك كتف "جكو" بإحدى يديها بإحكام، وباليد الأخرى تشد "كاوا" الى صدرها ومن شدة ما يختلج في صدرها من رعب حبست نفسها على الطوف نصف جالسة او نصف مستلقية تراقب الأمواج:" إنها أشبه بذئاب مسعورة ضارية منها بأي شيء آخر تهاجم الطوف من الجهات الست". في خضم ذلك النهر الواسع العريض، المتلاطم الأمواج، كان يخيّل إليهم أن عزرائيل قادم إليهم لقبض أرواحهم.. لم تكن "روزين" تفكر في نفسها أو تبالي بحياتها:"آه لو سَلِم الأطفال وليكن من أمري ما يكون". لكن الأمواج لم ترأف بهم.. ولم يكن لهم من مسعف أو مغيث.. وتحسب أن السعد قد تنكر لهم بل تحول إلى عدو لدود.. وفي تلك الحال من اليأس والقنوط وانقطاع الرجاء أشفقت على هذا المآل فتوجهت الى النهر وكأن للنهر أذنا يسمع بها أو قلباً يستجيب للتوسل، قالت راجية متضرعة: "ماذا تبتغي منا أيها النهر إن كنت لا تشفق علينا فارأف بنا من أجل هذين الصغيرين البريئين، وامنحْنا بعض عطفك واعف عنا.. إننا بائسون يائسون.. لا حول لنا ولا قوة... إننا لم نظلم أحدا ولم نعتد على أحد ولم نسيء الى أحد ولم نسلب أحدا ماله.. إننا عابرو سبيل... فلقد خلّفنا وراءنا أرضنا وأهلنا.. فماذا تريد منا؟ فدتك نفسي.. دعنا نمضِ في طريقنا... دعنا نذهب لطيتنا رأفة بهذين الطفلين البريئين البائسين". وبينما كانت تجأر بالدعاء وتبتهل وتتوسل إلى النهر دهمتهم موجة عارمة قذفت "الطوف" بعيداً فكاد أن ينكفئ لكنه ما لبث أن استوى على صفحة المياه واستعاد حالته الأولى. وفي هذه المعمعة انكبت "روزين" على وجهها فوق الماء. لكن "جكو" أسرع إليها من الخلف وأمسك بردائها، واذ هما في الاضطراب سقط من بين يديها شيء وغطس في مياه النهر... حدقت في المياه... لم تر شيئاً طافياً على السطح.. وبغتةً حدثها قلبها:" تباً لك... لقد سقط وليدك في الماء فماذا تنتظرين؟". تلمست بيدها هنا وهناك... ضغطت على الملاءة التي دثرت بها "كاوا" كانت الملاءة خفيفة...خالية. أحست بآلام شديدة في دماغها وكأن ألف مطرقة هوت على رأسها... أصابها الدوار، وغشي على بصرها... لم تعد قادرة على التنفس... أوشكت على الانفجار... . لم تكن تريد أن تصدق بأن "كاوا" هوى إلى أحشاء الثعبان، فطفقت من جديد تتلمس بيديها ما حولها في ذلك الظلام الدامس متذرعة بأمل واهٍ بحثاً عن ولدها "كاوا"... عبثاً كان سعيها ... إن ما كانت تحاذره قد وقع وانتهى الأمر... لقد ضاع "كاوا" كانت ترغب في الصراخ والعويل بكل ما لديها من أيْدٍ وبأس:" أيها الناس أيها الثقلان... أغيثوني... النجدة أيها البشر... أيها العالم... ماذا صنعت حتى يُحكم عليّ بهذه القسوة؟ أية مصيبة حلت بي... أية طامة وقعت على أم رأسي... الموت خير لي من هذه الحال... فماذا افعل وأنا البائسة المحطمة النفس والقلب والجسد؟". لكنها لم تستطع أن تنتحب وتبكي وتصرخ كما تشاء... المكان مطوق بمخافر الجند، فلو فعلت ذلك لأحس بوجودهم الجند وكان مصيرهم الهلاك. ضاقت بها الدنيا بما رحبت... لا تدري ماذا تفعل وماذا تقول. فخبأت وجهها بين يديها، وهي تحترق وتتلظى في صمت... تذكرت كل أيامها... مرت بها صور حياتها كشريط سينمائي... تذكرت العجوز "زين" تذكرت كلماتها: "روزين... يا ابنتي... اعتني بـ"كاوا". والله لئن أصابه مكروه فخير لك أن تلقي بنفسك الى هاوية، وما معنى حياتك من بعده". تذكرت وشايات الجارات وأقاويلهن... ولكن ماذا لو عرف "جكو" ماذا حدث؟.... وأي معنى لحياة ليس فيها "كاوا".
عن سماكورد