٢٠‏/٧‏/٢٠١٠

الشاعر الكردي حامد بدر خان
اسمه في هواء الأممية تحت جبل حَسي خِدر
حسين حبش

حامد بدر خان شاعر الانتظار الطويل، شاعر الثورة القادمة من ألم الفقراء ومتاهات المعامل والكومونات. ما أن تصعد إليه، أعني إلى بيته المحفور في ضلع الجبل المسمى باسم عائلته (حَسي خِدر)، حتى تشعر بعبق الشعر يفوح منه، بدءاً من العتبة الترابية، وانتهاءً بآخر ديوان لـ ناظم حكمت، لوركا، جكرخوين، نيرودا وأراغون... ولد حميد بن حسن خضر، وهذا اسمه الحقيقي، في »شيه/شيخ الحديد منطقة عفرين عام 1924 لوالدين فقيرين معدمين، لا يفقهان من لغات الله غير الكردية. ونتيجة قسوة الظروف المعيشية، تنتقل العائلة إلى كردستان تركيا. هناك سيتعرف الصبي حميد على لغة أخرى غير لغته الأم، وهي التركية. يبدأ الدراسة بها، ويتدرج فيها بتفوق، حتى يدخل جامعة اسطنبول ليتخرج منها، قسم الأدب التركي، منفتحاً بذلك على تيارات الآداب العالمية، خاصة الأدب الفرنسي. وهناك يقيم صداقات عميقة مع ناظم حكمت، ممدوح سليم بك وعابدين دينو. ويستقر بعد ذلك في مدينة أضنة ويعمل في صحيفة "كونايدن" أي: »صباح الخير«، موقعاً باسم حميد أراغون. يتعرض الشاعر في هذه الفترة مع رفاقه وأصدقائه من الكتاب والشعراء إلى السجن والتعذيب بسبب أفكارهم اليسارية وانتمائهم إلى صفوف الحزب الشيوعي التركي، فتجبره هذه الظروف إلى الفرار من تركيا والعودة مجدداً إلى مسقط رأسه شيخ الحديد؛ »صومعة الفكر« ـ كما كان يسميها ـ وذلك في ليلة من ليالي عام 1951. وفي شيخ الحديد يتعرف على معلم المدرسة رشيد عبدالمجيد الذي سيعلمه اللغة العربية وسيلقى منه ومن عائلته كل عناية إلى حين وفاته. يبدأ الشاعر حامد بدر خان مسيرة جديدة من المعاناة الحقيقية في ظروف معيشية قاسية، فينتقل من مهنة إلى أخرى حتى يستقر به المقام آخر المطاف في قريته. كتب حامد قصائده باللغات: الكردية، العربية، التركية والفرنسية. وكان في مجمل كتاباته إنساني النزعة، فكتب عن العمال والفلاحين والمُضطَهَدين في كل بقاع العالم. كتب لأطفال قريته وطرق بقوة كل الأبواب الموصدة في وجه العدالة والمساواة والإنسانية.. وبقي على نهجه حتى خطفه الموت في 29 نيسان 1996 في مشفى حلب الجامعي. وفي الثاني من أيار نقل جثمانه في حشد كبير من الأدباء والأصدقاء إلى شيخ الحديد ودفن في مقبرة خاصة به وحده تحت سفح جبل حسي خدر وذلك بناءً على وصيته. وللشاعر ثلاثة دواوين مطبوعة بالعربية: (على دروب آسيا) ،1983 (ليلة هجران) ،1988 (مجزرة حلبجة) ،2000 ونشر في حياته أكثر من (900) قصيدة بمختلف اللغات التي كان يتقنها ـ كما أخبرني هو بنفسه ـ وقد قام أصدقاؤه بجمع قصائده لتحضيرها للطباعة وهي تشكل 17 مجموعة شعرية، منها 15 بالعربية وثلاث بالكردية.. ما عدا المكتوب باللغات الأخرى. بقي أن أشير إلى الكنية التي لازمته، فقد أسبغها عليه جلادت بدر خان بعد أن وجد فيه شاعرية ولمعاناً إبداعياً، ولخوفه عليه من أن ينكشف أمره ويتعرض للملاحقة من قبل الترك في حال بقي على اسمه الحقيقي لقرب قريته من الحدود التركية. وبعد.. هل حامد بدر خان الذي كانت له صداقات مع لويس أراغون وناظم حكمت وجكرخوين.. ولا يقبل إلا بمستواهم على صعيد الكتابة الإبداعية والنضالية.. هل ما زال ينتظر خطوات غيفارا، وصية البارزاني وعشق نيرودا وريتسوس وعنفوان أنجيلا ديفيز؟!.. الجواب نجده في مجمل سيرته ومجمل إبداعه.. وفي أنينه الصادر من قبره النائم تحت الريح.. أعلى المساق هناك.. هناك. رشيد عبدالمجيد وحديث عن الشاعر الراحل حامد بدر خان حاوره: حسين حبش أثناء زيارة السيد رشيد عبدالمجيد إلى ألمانيا وهو رفيق درب الشاعر حامد بدر خان وصديقه الحميم، تلك الصداقة التي دامت طويلاً وحتى رحيل الشاعر في نيسان 1996. اغتنمت الفرصة وحاورته عبر شريط الذكريات، حيث بدا مستعداً للحوار بحماسة.. وأدهشني لما يتمتع به من ذاكرة قوية وحفظه للكثير من أشعار حامد بدر خان عن ظهر قلب.. فتوجهت إليه بسؤالي الأول: الأستاذ رشيد لنعد بالذاكرة إلى عام 1951 حيث هروب الشاعر حامد بدر خان من السجون التركية إلى سورية، ثم وصوله إلى مسقط رأسه شيخ الحديد كيف تعرفتم عليه؟ ـ في الحقيقة كان هروبه من تركيا عام 1947 حيث وصل متخفياً إلى قرية راجو« شمال سورية، وتم نقله من هناك إلى مدينة حلب ثم إلى دمشق ويلتقي هناك بخالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري، الذي كان قد علم بنبأ فراره ورفاقه من الحزب الشيوعي التركي، وتكلف اللجنة المركزية للحزب أحد أعضائها بتأمين مسكن له والحفاظ على سلامته. وبعد مرور سنة من تواجده هناك يعلن الشاعر أمام خالد بكداش استقالته من الحزب الذي كان قد أصبح عضواً فيه، ليبقى شاعراً ماركسياً وللشعب. وخلال عام 1947 إلى 1951 كان يعيش متنقلاً بين حلب، دمشق والسلمية عاملاً في مختلف المهن.. حتى يستقر به المقام نهائياً في قريته (شيِّه / شيخ الحديد). وفي تلك الفترة كنت أعمل معلماً في مدرسة شيخ الحديد، سمعت بمجيئه، طلبتُ لقاءه، لكنه كان يتحاشى الناس مفضلاً العزلة وعدم الاختلاط.. لكنني قمت بكتابة قصيدة لناظم حكمت على قصاصة ورقية وأرسلتها إليه، فحضر إلى المدرسة فوراً. توطدت علاقتنا بعد ذلك. قمت بتعليمه اللغة العربية، حيث كان يحضر مع تلاميذ المدرسة لمدة سنة كاملة حتى تعلمها بشكل جيد.. لكن ما هي أسباب سجنه في تركيا وهروبه منها؟ ـ لانتمائه إلى صفوف الحزب الشيوعي التركي، الذي دخل مرحلته السرية في أواخر حكم مصطفى كمال أتاتورك، حيث قامت السلطات باعتقال جميع الكوادر الحزبية بمن فيهم أعضاء اللجنة المركزية. ومن كان من أصدقائه في السجن آنذاك؟ ـ ممدوح سليم، عابدين دينو وناظم حكمت... هل أخبركم عن أول قصيدة كتبها.. أو بالأحرى نشرها؟ ـ نعم، أول قصيدة نشرها في تركيا كان عمره لا يتجاوز الرابعة عشرة، وكان طالباً، وتعرض بسبب تلك القصيدة إلى الاعتقال، ونظراً لصغر سنه أخلي سبيله في تلك الليلة نفسها. ما الذي كان يشغله في حياته كثيراً.. همومه، آلامه..؟ ـ كان يشغله كثيراً؛ سيادة الخير والسلام، دنيا بلا حروب ولا أسلحة الدمار الشامل. وأن يكون للأطفال مكان جميل ولائق في الحياة.. وقد جسد كل ذلك في أشعاره وقصائده وحياته. رغم أن مكان إقامته الحقيقي كان في قريته شيخ الحديد لكنني قلما كنت ألاحظ تواجده فيها؟ ـ كان يرفض الاستقرار في بيت أو مسكن خاص به.. كان يحب بيوت الأصدقاء وأكواخ الفقراء، له قصيدة يقول فيها: أعرف بأنني سأموت ربما سأموت على قارعة الطريق أو في أكواخ الفقراء سأترك عظامي ولحمي للديدان ولكن الدماغ وما أنتجه سأتركه للأجيال القادمة. وهل كان له أصدقاء في الوسط الأدبي السوري؟ ـ طبعاً.. حنا مينا، شوقي بغدادي، محمد الجندي، علي الجندي، الراحل سعيد حورانية.. وغيرهم. وكان على علاقة حميمة مع الشاعر الكردي الكبير جكرخوين وكانا يلتقيان دائماً في بيتي.. وكانت تحدث بينهما خلافات حول شؤون الكتابة وشجونها، يختلفان تارة ويتفقان كثيراً. بمن كان متأثراً من الشعراء؟ ـ بوشكين، مايكوفسكي، لويس أراغون (صديقه)، بابلو نيرودا، ناظم حكمت (صديقه ورفيقه في السجن)، ولـوركا الإسباني.. حيث كتب عنه قصيدة ملحمية بعنوان (أفتش عن قاتل لوركا) ـ في ديوانه: على دروب آسيا ـ. في ثمانينات القرن الماضي سأله الشاعر والصحفي حسان عزت: أما زلت تبحث عن قاتل لـوركا يا حامد؟. أجاب: نعم.. سأبحث عن قاتلي لـوركا طالما الدم يجري حاراً في عروقي. فسأله: ومن هم قاتلو لـوركا؟. أجاب: قتَلة لـوركا كثر، بدءاً من الآغا في قريتي إلى الإمبريالية الأمريكية. يُتهم حامد بدر خان بأنه كان بعيداً عن قضايا شعبه الكردي.. ما ردكم؟ ـ يكتب حامد في إحدى قصائده: إنني ذاهب إلى القتال وبيدي العَلم الممزق أخضر، أحمر والشمس فوق رأسي إنني ذاهب إلى القتال ماراً بأصفهان ومهاباد... وهذه القصيدة بمثابة الرد على مثل هذا الاتهام، وله الكثير.. الكثير من القصائد التي تتناول قضية شعبه الكردي. متى كتب باللغة الكردية.. لغته الأم؟ ـ كتب حامد باللغة الكردية بعد عام 1970 بتأثير الشاعر جكرخوين. وكان يقرأ ديوان الجزيري وأحمد خاني.. وله ثلاث مجموعات شعرية بالكردية. كيف كان حامد يجسد قضية المرأة في كتاباته وأشعاره؟ ـ كان يربط الثورة بالمرأة والعكس، كان يريدها امرأة طبيعية، واعية، عاملة.. حيث كتب في إحدى قصائده: أكره المانيكور والأجفان المصطنعة أريد أن أراكِ في درب الحقول ويقول أيضاً: لنا موعد يا حبيبتي تحت أعواد المشانق ولنا موعد آخر يا حبيبتي يوم النصر وكان يتخذ من الأنثى رمزاً لقصائده، فتارة كان يسميها باسم ميريا وتارة باسم جيهان وتارة باسم آسيا وتارة باسم جانا.. أسماء الثورة. نعلم أنكم شكلتم لجنة لجرد وتصفية محتويات مكتبة الشاعر الضخمة في شيخ الحديد.. ماذا كانت النتيجة؟ ـ نتيجة التصفية كالتالي: 10 دواوين باللغة العربية، ثلاثة باللغة الكردية، كراسان يتضمنان الحوارات التي أجريت معه وترجماته عن اللغات الأخرى.. وكتابات أخرى كثيرة باللغة التركية.. حوالي سبع مجموعات شعرية تحتاج إلى مختصين للوقوف عليها.. وهناك أيضاً كتابات باللغة الفرنسية، ومذكراته الشخصية.. بالإضافة إلى كتبه المطبوعة. حـامـد بـدر خـان قصائد تنشر لأول مرة، كُتبت عام 1978

الطريق المعتم تامارا.. ضميني إلى صدركِ طفلاً حاجته؛ دفء الأمومة المغروسة في جسد الأرض.. أمي.. ارمقيني بشفقة من عينيك الذابلتين انتظاراً.. فبعض المذنبين يستحقون جزءاً من الشفقة.. وذنبي أنني أتيت العالم وحيداً.. أنسيني أنني أتيت العالم.. حافياً.. عارياً.. مغمض العينين ينتظر المجهول.. باكياً ينتظر مرضعته.. ومن يمسح دمعه.. تامارا.. لا تضحكي فهناك من يبكي النهار ليلاً.. لا ترفعي صوتك غناءً.. فالموتى نائمون.. يسترقون السمع.. لا توقظيهم من غفلتهم.. لا تتكلمي .. فالكلمة قوت للغد.. لا تلبسي الثراء.. فهناك من هم عراة تحت الشمس الراحلة في جنازة الفقراء الأبرياء.. اقتطفي زهرة.. وضميني إلى صدرك.. بجوار قلبك.. شمّيني حد الغثيان واسكري من رائحتي.. اشبعي عينيك مني.. وارسميني على قبرك.. قدميني إكليلاً لتلك الجنازة التي ترافقها الشمس.. تامارا.. لا تبكي.. فالبكاء صلاة المذنبين ليُكَفّروا عن سيئاتهم.. أخطائهم.. ونحن لم نخطئ.. بل كان خطأنا الوحيد هو مجيئنا إلى هذا العالم. من شوارع المدينة العانس تامارا.. أتجول في الشوارع بغير هدى.. ولستُ أدري لماذا أعبر الطرقات.. أود أن أفكر بشيء ينتشلني من الألم الذي في داخلي.. ولكنني أصل إلى محطات الفشل.. صُلِب فكري وتوقفت عقارب الساعة فوق أرقام الألم.. أحاول تحريكها.. فأجد نفسي جثة تحتاج لمن يحركها.. أحاول البحث عن كلمات تضحكني.. فأجدني نسيت شكل الضحك.. ألقيها على أناس لأتعلم منهم الضحك.. فأجدهم يضحكون ضحكات صفراء من قلوبهم.. ولا يعطونني سوى الألم.. وأعود بذاتي إلى أيام سعادةٍ عشتها.. فأجدها قد بعدت عني ونسيتني. لوحة في فراغ الحزن تامارا.. بات الشلل يسري في عروقي.. يحجب عني كل الماضي.. أحاول أن أتذكر أمي.. وأخلقها بخيالي لأراها وحدي.. فأجدني قد خلقتُ دموعاً جفت في مآقيها.. والابتسامة تيبست في وجهها.. أحاول أن أمسح دموعها.. فأجدها تتحول إلى دمعة في عيني.. وأنتظر من يمسحها.. أحاول البكاء فأجدني مقهوراً.. وتتساقط دموع الألم لتتحول إلى أرقام مبعثرة تتحول إلى أحرف.. فتشكل كلمات أغنيات.. أنشدها وحدي.. ولا أجد من يسمعها.. تامارا.. أنت أغنيات دموعي.. وحدي أغنيها.. ووحدي أسمعها.. أأشلّ صوتي أيضاً .. يا تامارا؟

ملاحظة: أنجزت هذه الكتابة قبل صدور الأعمال الكاملة للشاعر في مجلد ضخم في 2009
عن مجلة ألواح العدد 13 سنة 2002 وموقع الشاعر ح. حبش

اللوحة المرفقة من تشكيل الفنان خليل عبدالقادر