١٠‏/١‏/٢٠١٠

محمد بيجو: كتاب “الهواء الذي أزرق”، هو المجموعة الشعرية الأولى للشاعر السوري إبراهيم حسو التي صدرت عام 2003. بعد رؤيتها النور بأيام تعدّ على أصابع اليد الواحدة سحب حسو أعدادها من المكتبات ومنازل الأصدقاء وبيوت الجيران ليحرقها أمام جمهرة من الصحافيين والكتاب، الأصدقاء منهم والأعداء، سائلاً الجميع أن يسامحوه على إصداره لهذا “الديوان التافه” بحسب قوله، ثم كتب بياناً يعتذر فيه من القارئ على كل ثانية أضاعها من وقته الثمين بقراءة المجموعة الشعرية المذكورة. بعد ستة أعوام بكامل شهورها من التردد، يجازف إبراهيم حسو بطباعة ديوانه الشعري الثاني، “الضباب بحذافيره” (دار الزمان). هو لم يعنون شيئا في هذا الديوان، مكتفياً بكتابة الضباب بحذافيره بخط أصفر شاحب على غلاف أخضر، مطلقاً بين طياته نصوصه هكذا شريدة. ما إن ينتهي نص بنقطة أو إشارة تعجب أو استفهام، حتى يبدأ آخر بحرف من حروف العربية، وقد كتب في المقدمة: “النصوص صالحة حتى 2015″. يكتب إبراهيم حسو بعيداً من لغة الحب الرقيقة والهادئة وقريباً من لغة الحجارة، لغة الاختلاف والصراخ والضجيج الذي تخلّفه عادة المواقف السلبية واللاضرورية في الحياة. كأنه شاعر يحمل أزميلا ومطرقة بيديه. ينحت على ورق بدل أن يكتب، كتغيير يبتغيه الشاعر للسائد والمطروح على انه شعر، خيالاً وصوراً تظل نائمة لا تحرك ساكنا. هنا الشاعر في طور تجربة شبه جديدة تقترب من السوريالية بحدّ، وتنفصل عنها بحدود أخرى. ربما يفشل أو ينجح، لكنه يقدم ما يمكن أن نطلق عليه شعرا جديدا بخيال لا يشبه خيال الشعراء العاديين المدافعين عن اللغة والأصالة: “كنت ألعب بالنسيان في حقل لا أسند ظهري إليه في ينبوع عاصف يستهويني ثمره كنت لا أسأل أحداً عن أبي الذي تشعّب وصار ذئباً أو أمي التي تئن كما هذه الجياد تحت حنين جارف كنت سأبقى إلا إنني مضيت. في بعض نصوص حسو، تغيب الفكرة تماماً لتبقى الحالة وحيدة بلا سند، مذهولة، لا شيء ينقذها من موت أكيد غير الخيال الذي لن يتعب في ترتيب الصور التي يشاهدها الشاعر، لأنها تكون في متناول العين. صور لا تشبه السائدة والتي ترد في قصائد الشعراء. هناك همّ وحيد، همّ المحافظة على الشعر. كأن شياطين الشعر تجتمع وتنتخب حسو ليحاول أن يتدرب على شعر غير عادي. لذا هو يخلط بين الحبيب والشعر، كما هي الحال في الكتابات الصوفية عادة، بل ويتجاوزه في أمره، حتى ليفضّل الكلمات وعشّاقها على المرأة. قارىء “الضباب بحذافيره” يصيبه نوع من هستيريا شعرية. يضحك ملء قلبه مقهقهاً بصوت يوقظ الميت حيث يرى طيوراً بأجنحة من خشب وآباء يتحولون اسفنجات وقواقع بحرية وأمهات على هيئة أشجار وأقمشة من الهند والصين الشعبية. لكنه، بعد جملة أو أكثر بقليل، يدفن وجهه بين يديه، أيضا ملء قلبه، ليوقظ هذه المرة خياله النائم بعمق، من السرد الشعري المترابط بين مألوف ونادر، وكأن شاعرنا يقيم علاقات ويبرم اتفاقات بين كل شيء في هذا الكون: “تلك الحجارة التي كأنها من قماش هندي قد تذوب في يديك في أية لحظة حب ذلك الطير الخشبي على ما أظن قد تطول إقامته في يديك في لحظة شعر طائشة أنا القائد المنهار دائما في يديك”. يهدئ ابراهيم حسّو من روع القارئ بعد أن يهدده بشعر ملغوم وبنصوص مفخخة تنفجر في كل لحظة، مخلِّفةً ضحايا. لن يسقط ضحية انفجار شعره، غير أولئك الذين يكرهون وبشدة كل المحاولات التي قد تجعل الشعر متجددا ومتألقا بشكل دائم. فقارئ حسّو نموذجيّ نوعاً ما، لا يشبه قراء “صفحة التسالي” (التسليات) عادة. هو قارئ مفكر، قلق دوماً على الشعر ومصيره المجهول. كأنك تقرأ مذكرات رحالة لم يغادر مكانه، على مفترق طرق طويلة وشاقة يأتيه زوار من أماكن عدة بحالات غير متشابهة ليسرد الجالس مكانه اللحظات والمواقف التي مر بها الضيف وهو في طريقه إلى مكمن الشعر الحقيقي وولائمه العامرة. يقدّم حسّو اللذة التي يريدها القارئ لنفسه ولذائقته الغريبة، والنصيب الأكبر لهذا الذي لا يريد للشعر أن يستريح. فالشعر عنده كائن لا يتعب من الحركة بل على العكس من ذلك. هو شاعر أمين لا يختزل شيئا، يروي ما يراه، عمدا كما هو. كل المواقف مهمة لديه، حتى تلك التي تُنسى في لحظتها ولا تبادلها الذاكرة وداً. يدوّن كمؤرخ شريف الحوادث التي تمر به أو يمر بها، بطريقة تليق بالشعراء فقط. يدوّن ويختبر اللغة كما تختبره هي بدورها، في عراك شبه جنوني. هو الخاسر غالباً وهي الفائزة أحياناً، وذلك كلّه في مصلحة الشعر، رصيداً ونقاطاً. جريدة النهار اللبنانية