١٧‏/١٢‏/٢٠٠٩

حوار مع الشاعر علي جازو : علي جازو شاعر يعمل بحرفية الصائغ الذي يشتغل بمهل, يقلب جملته على أوجه متعددة, ويهتم بلغته إيما اهتمام, إلى درجة تشعر أن دواوينه تحتفل بلغة المعاجم دون أن تغادر لغة الشعر. حول شعره وحياته ولغته كان لنا معه هذا الحوار : حاوره محمد ديبو - من يقرأ دواوينك ستلفته اللغة المشغولة بعناية فائقة, ذلك البذخ اللغوي الذي تشتغل قصيدتك به..هذا البذخ اللغوي هل هو نتاج حالة شعرية محض أم أنك تشتغل على القصيدة وتعيد العمل على لغتها بعد اندلاع شرارتها الأولى؟ بداية أبدي شكري لاهتمامك المستمر، وهذا الاهتمام لا ينحصر بالشعر والشعراء فقط. أعتقد أن الفصل الآلي بين ما هو " بذخ لغوي " وما يعتبر " حالة شعرية محض " غير دقيق. إنه عمل إجرائي وأسلوب نقدي لا يمكن الركون إليه دائماً. حسناً. لنفترض أنني الآن أنظر في جدار مقابل. ثم يحدث دون سبب واضح أنني أطيل النظر. فجأة أتذكر أو أحاول أن أتذكر كم من الوقت مضى على وجود هذا الجدار في مخيلتي. اللحظة الأولى من المراقبة محض عمل آلي وعابر، لكن طول المراقبة يحول ما هو آلي وسريع إلى مكان آخر. يغدو الاهتمام متعلقاً بالذاكرة والتخيل. يمكن أن يمنحني الجدار فرصة غير متوقعة للتأمل. لا يتعلق الأمر بفعل إرادي جامد. إن النظر والملاحظة تمضي وتنحرف إلى شأن جديد. الدفق الأول من الكتابة يظل مجهول السبب، لكن ما يعقب ذلك يغدو شيئاً شبيهاً بالتورط والتحمس ممتزجين. الاهتمام باللغة لا يأتي من محل بعيد عن الاهتمام بما نلاحظ ونرى. صورة ضئيلة أو عاطفة بسيطة، تدفعنا إلى انهماك غير بسيط. البساطة وصف نفسي شائع. لكن الاهتمام بما هو شعري ليس بتلك البساطة المفترضة. إننا ننزع عن الأشياء غموضها والتباسها عبر تحويلها من خلال التأليف اللغوي إلى تبسيط نفسي. لا أعتقد أن البساطة وصف مناسب. إنه شعور يتلق بمزاج شخصي. الشعر أيضاً مزاج شخصي. والأمزجة لا تتماثل. لكن دوماً هناك ميل إلى التبسيط. هذا شأن غير مريح. إنه ضربٌ من التكيف والتلاؤم. لكن أتظن أننا بسهولة نتكيف ونتلاءم. قد يكون بناء الجمل بسيطاً لكن معانيها أبداً ليست كذلك. يبقى الشعر مرهوناً في قوته وجماله بمعناه. وهذا المعنى لا يصدر فقط من الاهتمام غير العادي باللغة أو من تقليل شأن الاهتمام باللغة. أعتقد أن الشعراء ، أو قسم منهم، لا يملكون طاقة كافية للتحدث عن كتابتهم بشكل واضح وحاسم. إننا نتبدل وربما أثناء الكتابة نغدو أشخاصاً آخرين غير الذين نتحدث عنهم الآن. س- ديوانك الأخير "ممرات الشمس" يدور كله حول فكرة واحدة هي فكرة الشاعر وعلاقته مع محيطه الداخلي والخارجي و.. السؤال هل تتقصد أن تجعل من فكرة معينة هي محور الديوان ثم تتفرع أسئلة أخرى وأغصان شعرية أخرى عن هذا المركز.. وألا تخشى أن تفقر الفكرة الواحدة الديوان بحيث يغدو متشابها في الكثير من دلالاته ومعانيه؟ لم أتقصد الأمر بداية. حدث ذلك بالتدريج. فترة الكتابة في ممرات الشمس جد صغيرة بمقارنة بالديوان الأول – الغروب الكبير – لذلك ربما انحصر الاهتمام بمكون مركزي. كانت حماستي أشد وأعمق من تأملي. حدث التشابه الذي كنت تخشاه. وهذا أفقر الديوان كثيراً. مع ذلك أشعر بقرب ما من هذا العمل المتواضع. كان فرصة لتجريب جديد. تمرنتُ وربما كان تمرني سبباً لتمحور الديوان حول فكرة مركزية. - أيضا في ديوانك الأخير نفسه نقرأ : هو الشاعر يتوهج في الجوع والموت نضرا بيأس وخوف, بالغناء الشاذ, كالنباح يرق, كلّما أمسك كلبٌ بعظام كلمة لماذا تترافق كلمة الشاعر لديك بكل هذا الحزن والموت والجوع.. أليس هناك مكانا للفرح؟ وألا تخشى أن تكون تعيد بعض "الأساطير الشعرية السابقة" التي تقول أن الشعر ابن الألم وابن الموت وغير ذلك مما يقصي الحياة عن الشعر, وهو ابنها أولا وآخرا؟ لا السعادة ولا الألم، لا الحزن ولا الفرح بشأن كبير لدى الشاعر. الشعر ربما تجاوزٌ خائب ومستمر لكل تناقض. في الجوهر – حسبما أرى - يطمح الشعر إلى تحقيق نوع من الانسجام. بهذا المعنى، أنا أكثر انسجاماً مع الموت. إنه يمدني بطاقة هائلة. وهذه الطاقة لا تتوجه ضد الحياة وضد الفرح بالحياة. ليس الشعر فقط ابناً للألم. الحياة كلها ابنة الألم. وربما الجمال نفسه ابن للموت. - بين ديوانك الأول والثاني فرق كبير لجهة اللغة والتخفف من جزالتها, حيث يبدو ديوانك الثاني أكثر وضوحا أو أقل انغلاقا وأكثر قربا من القارئ..ماسر هذا التحول؟ هل أنت مدرك له؟ أم أنه جاء كنتيجة طبيعية ضمن مسارك الشعري؟ طمحت في ممرات الشمس إلى نوع من التعري الشامل للشاعر. رأيته مثلما نرى الشمس. لكن النتيجة لم تكن سوى الخيبة. الشعر لا يمكن أن يتسلسل ويتناسل بعضه من بعض وفق مسار تصاعدي. هذا يعود لكل شاعر بمفرده. أحياناً يكون العمل الثاني أضعف من الأول. وهذا ما حدث معي. - إلى جانب كتابتك الشعر تعمل في الصحافة وإن بشكل خفيف, هل يأتي مزوالتك للعمل الصحفي كتتمة لعملك الشعري أم بسبب ظروف العيش؟ وكيف ترى العلاقة بين الشعر والصحافة, خاصة أننا في زمن يمكننا القول فيه أن كل شاعر هو صحفي بنفس الوقت؟ عملي الصحفي ليس ثابتاً. إنه نوع من الهواية الجدية. ثمة أفكار وآراء وتعليقات نحب أحياناً طرحها في مدى أكثر رحابة. تسمح الصحف والملاحق الثقافية بهكذا انشغال. لكن الصحف ليست بديلاً جيداً عن الكتب والقراءة المعمقة. إنها لا تصلح لتقييم فعلي ورصين. هل بإمكانك أن تتذكر أن مقالاً صحافياً ما زال عالقاً بذاكرتك؟ أبوسع مقال صحفي أدبي أن يحدث قلقاً عاماً أو اهتماماً حقيقياً. لا أعتقد ذلك. ربما ظروف المعيشة الرديئة تدفع معظم الشعراء إلى الكتابة الصحفية. وهذا شأن يجعل من الاهتمام بالصحافة من قبيل الاهتمام بالحصول على مصدر إضافي أو وحيد للعيش. لكننا نستسهل الأمر غالباً. وها الاستسهال يغدو عادة. والعادة تجرناً بسرعة إلى ما هو رديء في الأعم الأغلب. - كيف ترى الشعر الجديد في سوريا؟ هل يقدم انزياحا ما عن شعر الأسبقين؟ هي يمكن القول أن هناك حساسية شعرية جديدة ؟ أم أن الأمر مجرد تكرار لما سبق باساليب أخرى؟ هذا سؤال ضخم. لا شك أن ذوقاً جديداً في الكتابة قد تشكل. التربة السورية خصبة شعرياً وفقيرة نثرياً. رغم أن معظم الشعراء شعراء نثر. ثمة كم شعري هائل. من الصعب علي في حوار واحد إجمال التجربة الشعرية الجديدة في سورية. يمكننا التحدث عن شعراء محددين. شعراء قرأنا لهم لأكثر من مرة. على كل حال، الشعر السوري يتطور بوتيرة مكثفة وشديدة التنوع. وهذا أمر يبعث على تقدير كبير. - كيف ترى تعامل النقد والصحافة السورية مع منتج الأجيال الجديدة ..هل تفيها حقها من النقد والمتابعة؟ أم أن الأمر خاضع لشلل ومنافع متبادلة وفق معادلة (اكتب عني أكتب لك) في ظل أن الكل شاعر وصحفي بنفس الوقت؟ أجو أن تعفيني من الرد على هذا السؤال. - العام الماضي انتهت احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية, وكان للشعر حصة أثارت انتقادات كثيرين . كيف تنظر للأمر وكيف تراه ؟ أصدرت الاحتفالية كتباً أنيقة. لا يمكن بالطبع أن تتمكن الاحتفالية من تقديم كل الشعراء. وزارة الثقافة يمكنها فعل ذلك. - من هو علي جازو؟ طفولتك ؟ كيف تكتب الشعر؟ كيف تعشق وتحب وتشاكس ؟ علي جازو شخص كسول، مدخن شره. وهو من مواليد حرب تشرين التحريرية. لا أعتقد أنه سيعمر طويلاً إذا استمر على هذه الوتيرة من التدخين، سيما أن دخانه من نوع مهرب ويدخل البلاد بلا رقابة صحية. يقيم معظم الوقت في المنزل ويتذكر أصدقائه كثيراً. يسكن حجرة ليست سيئة. لديه كومبيوتر معقول ملئ بالفيروسات. صديقه سعد يخلصه من الفيروسات، لكنها سرعان ما تعود بأعداد أكبر وأنواع أخطر. يقرأ الصحف بنهم كبير في الفترة الأخيرة. صار محامياً منذ ستة أشهر. لكنه عاجز عن العمل الدائم بالمحاماة. ثقته بوهم عالم الشعر أفضل لديه من ثقته بوهم العدالة. أصبحت لديه اهتمامات فكرية طارئة ذات طبيعة سياسية واقتصادية. ويطمح أن يتمكن يوماً ما من تأليف رواية ضخمة جداً عنوانها ( حكاية الرجل الذي تأثر بكل شيء). طفولتي .. . كانت رحلة بين النساء. كنت محاصرا بهن. قضيت معظم الوقت بصحبة عائلة سيداتها نساء متمكنات رصينات جادات قاسيات حانيات. لا زلت محاصراً بالنساء، وقد تم إضافة عدد جيد من الأطفال( حوالي خمسة عشر طفلاً ومراهقاً ومراهقة لثلاث عائلات تسكن في بيت من طابقين في بلدة أقصى شمالي شرقي سوريا العزيزة). كتابة الشعر عمل شديد الصعوبة والخطورة. عناء كبير ولذيذ. لذات الشعر رائعة. وأنا مدين لها بالكثير. - ماذا تريد من الشعر؟ ماذا قدم لك ؟ وإلى أين تريد أن يصل بك؟ أريد من الشعر ما أريده من الحياة. كل شيء. وهذا طموح مستحيل. ساعدني الشعر على الشفاء النسبي من أمراض مزمنة. وبفضل الشعر تعرفت على أصدقاء طيبين. أريد من الشعر أن يكون أرض صداقة وأخوة. نص للشاعر: قصيدة الى آرثر رامبو: سأتلوّى على نفسي في فجرٍ يشبه أوراق زنابق خضراء داكنة مغموراً بسماء ندية، تهدهدني معابرُ الأثير ذات الصدى الأرجواني. ولسوف أحترق وأنا أرى دمي المراق، أذوبُ وأنا أتكلم مع ظلال فاترة، جاذباً الشمس إلى فمي المشلول، لن أحسّ بشيء ـ لا أعبّر عن أي شيء! غير أن قلبي سيصعد إثري، وأنا أهبط وحيداً مثل جمجمة طفل ميت، عبر رحم الأرض العارية، سعيداً خائفاً كأنني أولد مع الله!(شوكوماكو - 1247346000 أدب دمشق\12\7\09 شوكوماكو)