١٣‏/١١‏/٢٠٠٩

عماد فؤاد: "سليم بركات".. الكردي الذي كشف عن سحر جديد في لغة العرب: السِّيرة الذَّاتية حين تُنْزَفُ شعراً وعنفاً. يستطيع "سليم بركات" أن يطعنك منذ اللحظة الأولى، أن يجرَّكَ مسْحولاً بين متاهاته وفخاخه التي ينصبها بمهارة صائد فرائس محنَّك، وكيف لا؟ وهو الذي رصد طفولته بسطوة لصٍّ قديرٍ في كتابه "السِّيرتان" فيقول لنفسه: "كِبارٌ نَحْنُ أيُّها الطِّفْلُ، كِبارٌ يَلْهونَ بِقَعْقَعَةِ الحَديدِ أمامَ بابِ الوَقْتِ، وَيَذْرُفونَ الفِلْزَ البَارِدَ. كِبارٌ نَحْنُ، لا نَبْسُطُ أقْدارَنا لِسُنونُوَةٍ عابِرَةٍ أوْ لمَرَحٍ، ولا نَلْبَسُ إلّا حِكْمَةَ البَطْشِ. فإذا هَمَمْتَ، ثانيةً، أن تَخْتَبِئَ من الأرْضِ وَرَاءَ فَرَاشَةٍ فلا تَنْتَظِرُنا، لأنَنا سَنَقِفُ هُنا، تَحْتَ هذا الصَّليلِ الصَّامتِ للأدْوارِ الصَّامتَةِ، رافعينَ قُرونَ الماعِزِ في مَهَبِّ المَلْهاة". ستشعر بأن ثمة شيء غامض يلفك، من أمام ومن خلف، عن يمينك، وعن يسارك، روح كاملة في غموضها الأعلى، وسحرها العفوي المجنون، ستملأ خلاياك وأنت تسوح في هذا الكتاب الغريب، فليس ثمة من شاطئ، وليس ثمة من يد تسحبك جثة من وسط المياه، كل ما في الأمر هذه المرَّة، أنَّك ترى الصِّور من زاوية الشِّعر، ومن زاوية الشِّعر وحده، فيما تتراكم الحكايات والذِّكريات والمشاهد والشَّخصيَّات التي لا تستطيع يد الإمساك بجوهرها الزئبقي داخلك، لتصبح، بعد صفحات تعد على الأصابع، مشحوناً بروح كاملة، تحتل جسداً اسمه "سليم بركات". اكتشفت الآن فقط لماذا قرأت هذه السيرة أكثر من سبع مرات، منذ أن وقعت يدي لأول مرة عليها في العام 1999 أثناء إحدى دورات معرض القاهرة للكتاب، يومها ظللت أرجو البائع اللبناني أن يخفّض لي سعر الكتاب دون جدوى، ودفعت ستة وثلاثون جنيهاً – لم يكن معي سوى عشرون جنيهاً، واضطررت إلى اقتراض ستة جنيهات من صديق -، الآن أكتشف أن طفولتي الحقيقية وجدتها في هذا الكتاب، في شخص "سلو.. سليمو، باڤي غزو، ابن الملا بركات"، السطور التي قرأتها مرات بلا عدد لم تزل تتحرك أمام عينيّ: "سَيَقولونَ لَكُمْ كَمْ أحَبّوا، وكَمْ كَدَحوا، وكَمْ سَدّوا مَهَبَّ أقْدارِهِم بالجَساراتِ، سَيَمْتَحِنونَكُم بِما لم يَمْتَحنوا أنْفُسَهُم بِهِ، وسَيَرْفَعونَكُم قَليلاً قَليلاً كالقِطَطِ إلى صُدورِهِم، مُتَمْتِمينَ: "تُصْبِحونَ على خَيْر، أيُّها الطَّيِّعون". "سليم بركات" حين يكتب عن طفولته وعن صباه، لا يشبه أحداً، هو لا يشبه سوى نفسه فقط، وحتَّى هذه، يكتنفها الغموض في أحايين عدَّة، حين كان طفلاً بلا طفولة، وصبياً بلا صبا غائر الروح، والأيام كعهدها، تمر أسفل عينيه المحدقتين سريعة ومتلاحقة، لها رنين إيقاعي "كجرس في عنق قط"، والعينان لا تدع الأيام تمر بلا استيقاف، تعقبها الأسئلة وعلامات التعجب، بل يشبه الأمر مخزناً هائلاً من الذكريات الأولية للعين، الذكريات التي طالها سن القلم، فبدأ النزيف المرّ. هنا، في "الجندب الحديدي" أو "السِّيرة الناَّقصة لطفل لم يَرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيُّها القطا"، والذي صدرت طبعته الأولى في العام 1980 في بيروت، يثبِّت "بركات" شبح طفولته، جازماً بحسرة شيخ: "كل طفولة ميثاق ممزق.. كل طفولة محنة"، عبر خمسة فواصل متتالية متعاقبة، تشبه الحركات الموسيقية في سيمفونية مطموسة معالمها، تفتتح بمدخل عفوي، يوقفنا على بوابة المنفصلات الخمسة في السيرة الناقصة: "العنف الهندسي"، "في ارتطام الجهات"، "في الحريق وفي الصيد"، "في انهيار بريڤا"، و"في الثلج والخراب". ومن ثم، نصبح قادرين على تلمس نموذج مثالي للسيرة الذاتية، عبر وشائجها القوية بالرواية، لا سيما في هندستها أو انطلاقها من حدث فاصل، ذو سمة روائية صريحة، ويبرع "سليم بركات" في جمع خطوط وخيوط الالتقاء والتنافر في نسيج سيرته، أو في تلك الكثافة اللغوية والمجازية اللتين تسمان عمله الروائي في مجمله، خصوصاً أن المادة التي يشتغل عليها "بركات" في سيرته، هي المادة نفسها التي تكوِّن محور أعماله الرِّوائية والشِّعرية؛ الأراضي الكردية المحصورة بين شمال سورية والعراق والحدود التركية. أهي ملهاة أم مأساة، ما يربطنا ويشدنا بهذا / ولهذا الشعر السردي المنغم، الحاد والرَّهيف في الآن نفسه، الشعر القاطع الباتر، اللامع كحد موسي، حين يفرح بانعكاس نقط الدم الحمراء في بريقها على الجلد، أي علامة استفهام تقف قوية أمام أسئلة "سليم بركات" الألف، وأي قدرة تتحمل كل هذا القهر الذي تحمله: "إثْنا عَشَرَ أرْنباً حَصيلَةُ المَجْزَرَةِ، وَعِشْرونَ يَوْماً من التَّسَكُّعِ حّوْلَ البَيْتِ دونَما جُرْأةٍ على دُخولهِ، أنامُ بيْنَ شُجَيْراتِ القُطْنِ في حقْلٍ قريبٍ، وآكُلُ ممَّا يسرقُهُ لي إخْوَتي". ما الذي لا يجعل هذه السطور شعراً؟ دائماً ما شعرت بهذا السؤال يطوِّف حولي كلما أعدت قراءة كتاب "سليم بركات" هذا، "سليم بركات" الكردي الذي جاء ليكشف عن سحر جديد في اللغة العربية، وياللمفارقة، تلك اللغة التي فُرضت عليه وعلى أبناء عرقه الأكراد، الذين حرموا من التحدث بلغتهم باعتبارها ممنوعة ومحرمة، وأجبروا على تعلم العربية في المدارس السورية، في العديد من أجزاء سيرتيه يكتب سليم بركات شعراً لا شبهة فيه ولا ريب، كأنه حين جلس إلى "سليم بركات" الطفل لم يجد سوى الشعر يعبر عما عاشه واختبره بطفولته وصباه، يقول في أحد أجزاء الكتاب: "كُنّا أطْفالاً آنَئِذٍ، يَأْخُذُنا الدَّهَشُ مِنْ عَنود – الأُنْثى الَّتي تَرْتَدي حَطَّةً كالرِّجالِ، ودشداشةً كالرِّجالِ، وسترة كالرِّجالِ، وتتمنطق بمسدس كالرِّجالِ". فهل من إجابة لمن يريدون أن يكشفوا عن الجنس الأدبي لسيرتا "بركات"؟ ليس ثمة من إجابة، فالقهر والخراب المأسوي اللذين يهدف "بركات" إلى التعبير عنهما في سيرتيه، يتخلَّقان أساساً عبر نص أدبي، يتخذ تكأة روائية كدعامة، رئيسية لصيرورته ودوامه، ومن ثم يصير السؤال بحجم الخراب: "ما الذي يجعل هذا الكتاب بجزئيه سيرة ذاتية وليس عملاً روائياً مثلاً؟"، أهي الإشارة التي يخدعنا بها الكاتب على الغلاف فتقودنا بدورها إلى حيث يشاء، أم هذا التواطئ الفرح والمكتوم بيني كقارئ جائع إلى خرابات الرُّوح، وبين "بركات" الحكاء الذي ثقُلت على كفيه الجروح والانهيارات، فتهاوت لامعة كحبات النَّدى من بين أصابعه؟ أياً تكن الإجابة، فالأمر ليس مهماً إلى هذه الدرجة، الأهم هو الكتابة، تلك التي تبدأ من صرخة المدرسين في صفوف التلاميذ الصغار مثل فراخ الأوز، حين كانوا "واقِفينَ على طَرَفَي الشَّارع كَسُطور الكِتابَةِ": "انْتبِهوا، لوِّحوا بإيْديكُم حين يَمُرُّ الرَّئيس"، ويمر الرئيس، فتتهاوى الصفوف الهندسية "إلى كُتلٍ سوداءَ مُتَدَحْرِجةٍ" من لحم التلاميذ، وتصطدم الأجساد والأرجل النحيفة بطفولة "سليم بركات"، ليبدأ العنف الهندسي في مدينة صغيرة قرب جبال طوروس، العنف الذي يصفه كاتبنا بقوله: "كان عنْفُ الفرّح "الرَّسْميِّ" عُنفاً يفوقُ طاقَةَ طِفْلٍ لا رَسْمِيٍّ، ومع ذلك كان عليَّ أن أتحمَّله في خضوعٍ ساحقٍ، وأن أصيرَ عنيفاً بدوري، عنيفاً إلى درجةٍ تفوقُ طاقةَ طفلٍ". هذا العنف الذي يتدحرج حتى يصل إلى ذروته، بعدما ضيق كل شيء حول طفولة "بركات" غير الموجودة أصلاً، ليصبح أكثر قسوة وعلواً وهديراً: "أنتَ كُرْدي، الأكراد خطرون، ممنوعٌ أن تتَّحدث الكُردية في المدرسة، ومن ثمَّ، يبدأ وعي جديد؛ الكراهية سلفاً لا لشيء إلّا لأنَّك كُرْدي"! إنه التاريخ "حين ينفلق كمشمشة"، والغضب حين يقول كلمته بعنف، فاللغة لدى "سليم بركات" أو "سلو" .. "سليمو بافي غزو ابن الملا بركات" تظل هي السطح الذي يشف فيظهر ما تحت العمق، وهي المرايا التي تنعكس من فوقها الوجوه والحكايات، وما يتجلى في هذه المرايا من تقنيات، من سرد وشعر وحكي وقص، تلفها جميعاً سخرية حادة ومأسوية، يسبر "بركات" عبرها الطفولة المحنة، والصبا الملهاة، ليصبح التاريخ الشخصي ليس أكثر من تأريخ لوطن وعرق تشعبت به الأرض ونفته الثقافات. وإذا كان "بركات" قد افتتح سيرته الأولى بنزيف أولي: "طُفولَتُك حُرَّةٌ منْكَ لأنَّها يقينُ نفْسِها، وأنْتَ جَهالةُ الوقْتِ المُنْحَدِرِ إليكَ بلا طُفولةٍ، فانتظِرْها، طُفُولَتَك، قدْرَ ما تَسْتَطيع، أجِّلْها قَدْرَ ما تَسْتَطيع، مَوِّهِ الطَّريقَ إلَيْكَ كَيْ لا تَصِلَ، أبْقِها في المتَاهَةِ لأنَّكَ لَنْ تُمْتَحَنَ بإرثِها بَعْدَ الآنَ، لقَدْ تَقوَّضَ الأبَدِيُّ"، فإنَّه يبدأ سيرته الثانية "هاتِهِ عالياً، هاتِ النّفيرَ على آخره.. " بإيذان مبدئي، ونفير هادر: "لَسْتُ أُغْويكُم. المَكانُ يُغْوي لِتَكونوا لائِقينَ بهِ، فأشْعلوا حُروبَكُم قبْلَ أن يُشْعلَ الآخَرونَ حُروبَهُم، واتْبعوني!". إنَّ "سلو.. سليمو بافي غزو، ابن الملا بركات، استطاع أن يحرر فينا كل طفولتنا المغدورة، وكل صبانا المغتال، عبر هذا التداعي السردي الذي اتخذه وسيلة لحفر هذه المحنة، وهذه الملهاة، استطاع أن يبني وببراعة قالباً جديداً لا هو بالسيرة الذاتية، ولا هو بالرواية، لكنَّه شعر يقف على برزخ بين البرزخين، لغة أشبه ما تكون بمجمع إبداعي مكثف، لغة لا تختصر كينونتها في نوع بعينه، بل عبر أنواع وأنماط متفارقة ومتشابكة في الآن نفسه. الكتاب: السيرتان المؤلف: سليم بركات الناشر: دار الجديد – بيروت 1998
موقع الشاعر عماد فؤاد.