١٩‏/١٠‏/٢٠٠٩

فتح الله حسيني: وجدت مدينة حلب كلها نائمة وغائصة في نوم عميق، بينما كنت أسهر فيها حتى منتصف الليل، وأنا أشرب مع أصدقائي، نعم وجدتها نائمة، وأنا لا أملك في جيبي سوى "خمسة عشرة" ليرة سورية فقط، لا تخولني الذهاب من حي إلى حي آخر.
مَنْ لا يعرف فتح الله حسيني ؟ . إنْ دُعيَ لندوة أو أمسية يأتي الصخبُ عنيفاُ معه , يحملُ فتح الله أسئلة عاصفة تحرّكُ الأجواء الراكدة المتعطشة إلى الحوار , الحوارُ معه يتنوّع : أسئلة الشعر تتحوّلُ إلى أسئلة السياسة ...إلى الفنّ التشكيلي ...إلى الأصدقاء , ومنْ ثمّ إلى الشعر ثانية . فتح الله حسيني الذي يكتبُ دائما في سما كرد , ونشرتْ مؤسسة (سما ) مجموعة شعرية له . حول أسئلة النقد والشعر و السياسة والأصدقاء كانَ هذا الحوارُ معه : 1 – أنت شاعر تكتبُ بالعربيّة و الكردية، ومحرر. وكاتب زاوية وسياسي، أينّ يجد فتح الله نفسه من بين ما ذُُكِر؟. ج* لم أقصّر يوماً في واجبي تجاهَ ما أستحقه، عندما أكونُ شاعراً، وهو معظم يومي، طبعاً، فلأني شاعر، له أحلامُه المتراكمة، وله ثماني مجموعات شعرية، وهذا ليس ماضياً، بل هو الحاضر بعينه، والكتابة بالكردية أو بالعربية، شئ مزاجي، ومزاجي يُملي عليّ في اختيار اللغة، وفي اختيار اللعنة معاً، ومللتُ من ترهات الفرق بين اللغات، ويا ليت اللغة الكردية كانتْ في منزلة اللغة العربية لكنا شعبٌ يا رجل، شعبٌ بكل ما في الكلمة من معنى. في يوم اللغة العالمي، استضافتني فضائية "شعب كردستان" في حوار مباشر لأتحدث عن اللغة، وأنا اللغوي غير الضليع، فما كان مني إلا أنْ أهتف بأننا لسنا من مالكي مقومات الأمة، لأننا لا نملك لغة موحدة، فهل عيب هذا،؟ وهل العربُ أكثرُ براعة منا، رغم سخافاتهم، وترهاتهم، ولهجاتهم غير الموحدة، لهجة تشبه الزعيق وأخرى تشبه النعيق، ولكن على الأقل لديهم لغة موحدة، ولديهم شعاراتهم ليس من الفرات الى النيل فحسب بل ومن البر الى البحر، بحسب المقبور صدام حسين، ولديهم أعلامهم الملونة الكثيرة، ولديهم نسوتهم ولديهم شعراء البلاط، ولكن نحن ليس لدينا البلاط حتى، فعن أي لغة نتحدث، على كل شكراً لله على كل هذه الترهات، وأنا، وأعوذ بالله من كلمة أنا، عندما أكتبُ زاوية، فلأني أرتبُ لسهرة كحوليةً يومياً، لأرتب قصائدي، فالكتابة بالنسبة لي أضحتْ نوعاً من الاغتراب عن ذاتي، لأن الصحافة تأخذ نشوتي، وتمردي ووضوحي، وشفافيتي، لأناي أصبح مسؤولاً عما يكتب، ولأني بحاجة أن أكتب عن "الحمير" لكي أكسب ثمن ليتر من الويسكي الشيفاز، ولا أشرب غيرها، رغم أنها غالية وباهظة الثمن، ولكنّ الشعراء الجميلين مثلي يشربون ما يليقُ بهم. أما عن السياسة، فو الله، لم أكن أرتب شأني سياسياً لو كان في شعبي رجلٌ سياسي واحد، واحد فقط لا أكثر، كلهم حزبيون متزمتون، ولكنهم ليسوا قادة، ولكنهم مزاودون، وعندما أتحدث في السياسة أو أمارسها، أنما أدرك، معاناة شعبي، وأني والله اخلصت للسياسة أكثر من الأمناء العامين الرتيبين وأكثر من أولئك المدعين بأنهم يمارسون السياسة وهي في أوجها، لأني كردي، وكرديتي تملي عليّ أن أكون وفياً، على الأقل لأولئك المناضلين الذي ضحوا بأجمل أيام أعمارهم في سجون وأقبية النظام السوري في أطراف ووسط العاصمة دمشق، او أصدقائي الذين هم هنا الآن في كردستان، الذين دفعوا الضريبة من الألف الى الياء من أجل السياسة، بينما كان قيادييوهم يساومون على لقاء بعثي رث، لا غير، والسياسة هي لعبة الاذكياء لا لعبة النوايا الطيبة. بصريح العبارة، أنا فتح الله حسيني، أجد نفسي في كل شئ. 2- أصدرتْ عدّة مجموعات شعرية، ولم يتناولها أحدٌ بالنقد، إلامَ تعزو ذلك؟ *عن أي نقد تتحدث ، ومَنْ من جيلنا الابداعي تناوله قلم تائه بالنقد، ثم وهل هناك نقاد، وهل هناك أصلا كتاب في واقعنا الساذج، ها، الكلُّ يحلم بالفتات، لا الفتاة طبعاً، المهم أننا ننشرُ، ونكتبُ، لا يهم النقد ولا تعابير النقاد السخيفة، وكل ناقد هو شاعر فاشل، وكل شاعر فاشل أصبح ناقدا بقدرة قادر، وكل ناقد هو غير واضح، وكل غامض هو ناقد حثالى، فعن أي نقد تتحدث يا رجل. النقد؟؟.. هل من انتقد كاتبا بجد، وهل من كتب عن كتاب بجدية، وكل ما يكتب هراء في هراء، عبارة عن انطباعات شخصية نابعة من علاقات شخصية أو تزكية أو مكافأة أسمها الـ"خمسين دولار". 3- مجموعتك ( طريدٌ لا محالة) انتقدَها كثيرون نقداً غيرَ أدبيّ. ما كان سببُ تلك الحملة ضدّها ؟ *مجموعتي " طريد لامحالة" رفضها اتحاد الكتاب العرب في دمشق، واستلمتها من نافذة وزارة الثقافة السورية، لا من بابها مختومة بالشمع الأزق لا الأحمر، لكي لايترتب على الوزارة ولا الاتحاد أي ترتيب، ثم أخذتها الى بيروت ومن ثَمّ إلى عمان، ومن ثم آتي بها مرة أخرى إلى بيروت، لأحصل على ناشر متمرد، وفي النهاية وقبل الطباعة بدقائق حذف النشر "لوغو" داره عن الكتاب، لأن الكتاب يحمل بين طياته تعابير لا أخلاقية، نعم لا أخلاقية يا صديقي، أن تكتب عن اللاخلاق في زمن واهم فأنت أخلاقي واضح، إذاً، لكن بالنهاية، نشر الكتاب وأتيتُ به إلى حلب وفي منتصف الليل وصلت من بيروت الى حلب، بعد أنْ دفعت ثمن حمله في الباص أكثر من خمسمائة دولار، لأنه تهريب، ومع ذلك وجدت مدينة حلب كلها نائمة وغائصة في نوم عميق، بينما كنت أسهر فيها حتى منتصف الليل، وأنا أشرب مع أصدقائي، نعم وجدتها نائمة، وأنا لا أملك في جيبي سوى "خمسة عشرة" ليرة سورية فقط، لا تخولني الذهاب من حي إلى حي آخر بالتاكسي، أو بالأصح من كراج البولمان إلى حي أعرفه، ذهبتُ الى مقهى السياحي، حيث كنت أرتاده كل مساء مع أصدقائي الكتاب والفنانين، فوجدته فارغاً، لأنهم غادروه ، ذهبت إلى بيت أخي، بالتاكسي، مغامرة، كان مغادرا الى الجزيرة حيث بيت أهلي، فذهبت الى بيت أخي الآصغر فكان مغادراً هو الأخر، كانت الدنيا عيدا، الجميع يسافر الى الجزيرة، ذهبت الى بيت صديق، وجدته مسافراً، فالى المدينة الجامعية حيث أصدقائي القدامى الجدد، الكل مسافر الى أجواء العيد، ثم تذكرت أن لي صديقاً في حي الشيخ مقصود، وصلت الى بيت صديقي الراحل فرهاد جلبي فجراً، والتاكسي معي ولا أملك سوى أجرة سفرة واحدة، ناديته، وأنا في التاكسي، جلبييييي.. ليخرج من البلكون.. ليقول :حسيني أيها المزعج.. قلت له تعال واجلب معك أجرة سائق التاكسي، ليقول: والله عرفت أني في انتظار شاعر.. أتى الراحل فرهاد من الطابق الثالث، وحاسب صاحب التاكسي، وحمل معي كتبي الى بيته، لنشرب سوية الى الصباح الباكر، احتفاء بصدور كتابي. بعد كل هذا التعب، يأتي نقاد تافهون وينتقدون الكتاب بشكل لا أدبي، وماذا يعني، لأن الكتاب حوى بين طياته مفردات تحمرّ لها الوجنات، ها، هل أقولها أم ستخجل أنت أيضاً، نعم الكتاب احتوى على مصطلحات عظيمة تتعلقُ بالأجزاء الدقيقة في جسد المرأة.. هل هذا عيب، لماذا نسمي الإصبع إصبعاً، ولماذا نسمي الوجه وجهاً، ولماذا نسمي الصدر صدرا، أمّا ما يتعلق بجسد المرأة , لِمَ لا يحق لنا أن نسميه بمسمياته، أليس عضواً من تقويمات الله.. فعن أي أخلاق نتحدث إذاً. 4 – بدّلتَ اللغة بأُخرى، والمكان بآخر، ماذا يعني لك هذا التبديل ؟ أنا حر، ومزاجي الى حدّ الموت، ولا يهمني الأمكنة ولا الأزمنة، لو عرفت العبرية لكتبتُ بها، جربت الأكمة المتاحة لي، من الدرباسية الى القامشلي الى حلب الى دمشق الى اللاذقية الى طرابلس الى بيروت الى دياربكر الى باتمان الى حسن كييف الى استانبول الى نيقوسيا والى لارنكا والى دهوك وأربيل والسليمانية..لا يهمني التبجيل ما يهمني راحتي..هل أعجبك هذا.. 5 – الشاعر والسياسيّ متناقضان، كيف يُوفقُ فتح الله حسيني الشاعر بمواكبة فتح الله حسيني السياسي ؟ لا أتفق معك في هذه المقولة، ومتى كان الشاعر غير سياسي، ومتى كان السياسي غير مسؤول، طبعا بعيداً عن المصطلحات والطلاسم، أنا سياسي، ولكني أرتب لمزاجي ما لا يرتبه شاعر آخر، فبعض الأصدقاء يمارسون التجارة ويقولون نحن شعراء، والبعض الآخر يدعي السياسة وهم لا يعلمون بأي فقه يفقهون، فأنا ذخر لقضية شعبي، يتملكني واجبي الجاد تجاه هموم شعبي.. أنا صفحي وشاعر وسياسي، لأني كردي فحسب. 6- عملتَ طويلا مع الشاعر المرحوم فرهاد جلبي في المجال الأدبيّ، كيف تتذكره؟. *الصديق والشاعر الراحل فرهاد جلبي كان صديقاً عزيزاً، وكان شاعرا بكل ما في الكلمة من معنى، وهو كان مثلي، متنوع الأدوار شاعراً وصحفياً وسياسيا، أليس كذلك ؟، ولكنه وفقَ بينَ السياسة والأدب، نحن شعب مسكين يا رجل، كتبت أكثر من مرة جهاراً اننا شعب ما زال يفتخر بشاعر ومطرب وليس بيننا سياسي أو رمز سياسي، لكن الكثيرين انتقدوني، ولكنهم خافوا، من لساني ومن قلمي، نحن شعب يجب أن نعمل في السياسة والأدب والصحافة لكي نليق بكرديتنا، لأن كرديتنا تتطلب منّا أكثر مما نمنحها. فرهاد جليي صديقٌ عزيز، وشاعر عملنّا سوية في مجلة "زانين" لفترة طويلة إلى جانب ابن عمي الصحفي عبدالباقي حسيني، ثم عملنا وجمعتنا مجلة "كوليستان" ومن ثم مجلة "المثقف التقدمي"، وكان لنا منتدى خاصٌّ في جريدة "النهار" اللبنانية، وكان لنا مهرجان سنوي، يجمع أكثر من ثلاثين شاعراً وشاعرة من مختلف مناطق ومدن سورية، نسكر معهم ومعهن إلى الصباح، ليكون المهرجان صاخباً وناجحاً، فرهاد جلبي، كان صادقاً كالموت. آخر مرة سهرنا في بيت صديقنا عبدالحليم يوسف، في عامودا، لكي نودعه قبل السفر، وسافر حليم، ودعناه بحرارة لأننا أدركنا أننا لن نراه ثانية، فعامودا لا تشبه القامشلي، ولا القامشلي تشبه كردستان. فرهاد شاعر، تليق به الذكرى، لأنه أخلص لقضيته كما لم يخلص لنفسه. 7 – نشاطات مؤسّسة (سما) كثيرة وهامّة، فقد نشرتْ لك مجموعة شعريّة , ما انطباعُكَ عنها ؟ قلتُ أكثر من مرة، إنّ نشاطات مؤسسة سما، نشاطات رائعة وجميلة، وحين أصدرت لي هذه المؤسسة مجموعة شعرية افتخرتُ بها، من حيث الطباعة، ومن حيث النشر، وشاءت الصدف أنْ التقيتُ برئيس المؤسسة الحاج عارف رمضان في مدينة أربيل في مهرجان خاص بالشاعر العظيم جكرخوين، الذي أهداني نسخة من كتابي، كما أكنّ احترماً خاصاً لهذا المؤسسة التي يشرف على موقعها الالكتروني صديقي العزيز هوزان أمين، الذي التقيتُ به في مدينة حلب إبّان كنتُ طالباً في جامعتها ، ثم التقيتُ به في بيروت حينما كنت صحفياً حراً، لألتقي به، لاحقاً، في كردستان في دهوك، أنا شاعراً وهو صحفياً، مؤسسة سما، بايجاز، هي مؤسسة جديرة بالاحترام كردياً، لأكن باذخاً، في تحياتي لأقول لمراسلها عبداللطيف الحسيني لك أيضاً تحياتي، لأنه شاعر استثناء.
الشاعر الكردي فتح الله حسيني في ضيافة سما كرد.