عبدالرحمن عفيف: بطابقي الوحل والحشائش. قلتُ، أرى القصر، ينخفض في قلبي بعد أن تعبتُ في أن أحبّ. وقال صديقي، أرى قصرا بطابقين من الاسمنت وهو ليس حيث تقصد في الشارع الطّويل الذاهب إلى "قشمليا". أجبته موافقا، لأنّني في الحقيقة لم أكن أعرف أيّ بيت في هذه البلدة المقصودة هو أوّل بيتٍ وأيّ قصر هو الثاني من القصور. وفي تاريخ البلدة من الأحداث والناس ما أنساني نهائيّا أن أمدّ التفكير مدّه اللازم للتعيين الجدّي والتفرقة. ورأيتُ آنذاك كم الحشائش القصيرة تدقّ على أوتار ما أحسّ، كم الأعشابُ الواهية هي هي في الأعياد والمناسبات التي تتكرّر. كنتُ كوظيفة أخذتها بنفسي على نفسي، أخذتها من لقاء أنّني أمشي في اللّيل على عاتق أن أفكّر في القصر وسكّانه. يقابل القصر دكّان السمّان البدين الذي يبيع البطيخ الأحمر والبطيخ الأصفر وأسلّم عليه على الرّغم من المعرفة القليلة التي أملكها بصدده. هو قصد منّي أن أدخل في حديث معه وأن أطيل في الحديث إن حصل. نظرتُ. أمّا دكّانا " الدوندرما"، فأوّلهما يصنعها بألوان عديدة، بكلّ الألوان الموجودة في الطّبيعة تقريبا والدكّان يسمّى " مرطّبات أورفللي" وقُرىء الاسم أحيانا هكذا على سبيل التندر" أورفلللي". اسم منسوب إلى مدينة" أورفة" على الجانب الآخر من الحدود، ربّما معي الحقّ، لا أعرف على الوجه المحدّد، كوني أخلط تاريخيّا. هذا الدكّان أو مالكوه يبالغون في ترطيب المرطبات حيث تصل إلى درجة التثليج والتجليد أقصد بدل أن تبقى بين بين، تسيل على اللسان وتذوب عليه، فإنّها أحيانا كثيرة تكون أشبه بالجليد وصاحب الدكّان المقابل واسمه " زيادو" قد احترف المهنة احترافا عميقا. أدرك كنه الموضوع وفحوى " الدّوندرما" اللّذيذة، "فدوندرماه" هي بين بين، تسيل على اللّسان وتشرح النفس والبدن كما يليق. دكّان " زيادو" هو قبلة محبّي النّوع الراقي من المرطّبات واخترع في فترة من الفترات ما يسمّى ب" الكلاسيه" وعلى قمّة قائمة مرطّباته يأتي كازوز الكراش الأسود. نفسه الشّارع الأسود تشرب على ضفّته اليسرى هذا الكازوز فيذيب ثلجه قلبك من حشيشة حامضة كنتَ تلوكها، لكنّه على الرّغم من احتوائه على الغازات المعدنية الكثيفة، لا يستطيع أن يجعلك تبدّل تفكيرك وتتذكّر بدل ضفة الطريق العام شيئا آخر، شيئا سوى ما كنتَ تحسّ به من شهوة وتخيّل في ذلك اليوم الذي أدركت فيما بعد أنّه هو الذي وضع أساس مدرسة المعرّي، زرع ضاحية " آشي علاّوي" ناحية الدرباسيّة، هو من بنى الشبابيك الكبيرة وجعل هو التلامذة يمرّون أمامها وهو من أوقعك أن تخلط تقويم يوم وليلة وأنّ أشجار الصّنوبر خضراء مشبعة. هكذا تثليج النّهار بالفجر ولم يكن لصاحبي الدكانين أيّ علاقة في ذلك الموضع. لم يضعا لذة مرطباتهما تحت وفوق لسانك ولم يكن لك أيضا علاقة بالقصرين. من فعل هذا اليوم الذي نشر كلّ الاحساسات مع الشّمس التي طلعت برقة ونشرت ما نشرت بكلّ شمس تملكها في ذرّات نورها. والشّارع أحيط من الجوانبِ بأحجار مربّعة، حجرة بيضاء وأخرى سوداء. لا يجوز لنا أن نصبغها إلاّ حجرة سوداء ثمّ بيضاء. حجرتان سوداوان بعدهما حجرتان بيضاوان، هذا ممنوع. ولو أنّني وحبّي عند نفسي للابتكار، طلبتُ هذا، ثلاثة أحجار بيضاء واختلاف من الرسوم لها. يُرى القصر وهو بالفعل قصر ليس له قصرٌ يزامله في كلّ أرجائنا. من الاسمنت وقبله فقط هو بيت الصرّاف من تراب التلّ، من الوحل الذي هطل عليه المطر في الخريف ونبت حشيشٌ فوقه وفي جوانبه. وصارت كومة الوحل طينا واشتدّ عود الطّين. ليس بالطبع هذا البيت ذو الطّابقين قصرا، أو هو قصر من نوع لا كالقصور العادية. عليه في الطّابق الثاني خشباتٌ على الشّرفة، هكذا تكون الشرفة. للأسف الشارع تحت الطّابقين ضيّق، للأسف الشديد حين نظرتُ إلى الحشيش الذي نبت على كومة الوحل. نفسه هو سطح البيت هذا، تهبّ ريحٌ عليه وعلى وجهي، الرّيح غير مقتصرة على أن تجعل من التراب الذي على السّطح غبارا، ووجهي أن يعرف أنّه تهبّ الرّيحُ وتهتزّ الحشائش تحت عواميد الشّرفةِ وفوق كومة الطّين الباقية من بناء البيت ذي الطّابقين. الصّيف نظرَ بدل أن تنظر عيناي في عينيّ إلى حجرٍ ضربه الفجر الذي استيقظته مع صديق في معسكر الصفّ العاشر، هناك مداوما على مناوبة تمّ اعطاؤها حقها وأكثر ممّا تستحقّ بكثير من اليقظة والمشي والمجيء والاياب وخاصّة الحديث القويّ، بصوت مختلف حيث القصر مختلف. أشكر السمّان شكرا معبّرا إن أحضر كازوزة سينالكو لي ولصديق لي إلى الطّاولة. هو كان يبشّ ويبتسم وبدانته تليق بشخصيّته، لأنّها أضفت عليه مسحة من التسامح والتفاؤلِ. وكنتُ أعرف أن جلوسي ومروري أمام هذا الدكّان سيطولان. لأنّني في ذلك اليوم، أمام مدرسة المعرّي الثّانوية، أكثرت في الحديث عن تأثيرات النّور بين الفجر والظّهرِ، لأنّني أسهبتُ أكثر من اللائق في الحديث، أصبحت أرى القصر من تلك المسافة والحمامة البيضاء التي لبست القميص الأبيض في عصر آخر من عصور البلدة، من البياض ومن البياض في تفكيري في فجر المدرسة. وجدت أنّه من غير مناسبة أن أجري وأمشي على الدّوام في نفس هذا الشّارع، غير مناسب لي حتى وإن ظلّت الحمامة بيضاء ولم تبدّل ملابسها بملابس ابنة عمّتها على القصر. وقلتُ في نفسي، لكنتُ أكثر حمدا وشكرا لو مشت الحمامة مع ابنة عمّتها على القصر بطابقي الوحل والحشائش التي نبتت على وحله قبل بنائه ونافذته من الطين المشويّ جيّدا جدّا مثل الحلويات التي تصنع في بلدتنا بمناسبة قدوم العيد الأضحى وهو الذي نسمّيه العيد الكبير والعيد الصّغير هو العيد الذي يسبقه وكان ينبغي أن يكون الأمر معكوسا. لكن تذكّرت أثناء رفعي لنظري إلى الشّرفة الألم وأنّ الأخ الأكبر في العائلة يتزوّج قبل الأخ الأصغر وأنّ هذا التّرتيب هو ترتيب العيدين. وتذكّرت أنّ الحلويات واسمها " كوليجة" تؤخذ إلى فرن " كاملو" لتحمّص على النار وهي تحوي سمنها وسكّرها وطحينها وبهاراتها وأشياء غير مادّية، من مثل النّور، جرّ المياه من الآبار، جرح اليدين بالسكين الحادّة، التعب وفرصة النظر إلى يدين انثويّتين أثناء الغسيل. كنتُ أعرف طبعا إن قصصت هذه الأمور اللاماديّة لصديقي الذي كان يتمشّى معي فإنّه سيضيف إليها أشياء أخرى تضاف إلى صنع " الآيس كريم" الذي نسمّيه " الدوندرما"، حيثُ لعائلة الصّديق دكّان تبيع فيه وتصنع من هذا القبيل. الصّدفة الأخرى هي أنّ أقدم دكّانين لصنع" الدوندرما" يقعان في نفس الشّارع وهو الشّارع الذي جرّ على نفسه تقريبا كلّ الدكاكين المهمّة فأصبح هو أيضا شارعا مهمّا وعليه أيضا دكّان السمّان البدين الذي أحبّ أن أسمّيه حتى هذه اللحظة بصديقي. إنّ عملي هذا يقرّبني ربّما أكثر من كلّ أحاديثي من الحمامة. أبالغ قليلا بالنسبة إلى ما يتعلّق بالحمامة وهي حمامات واسعة. وأستعير تشبيه مجنون المدينة حين أطلق على فتاة ما اسم حمامة ولكن لبستْ له أو، لي، ذات يوم قميصا أبيض.
جهة الشعر.