٣٠‏/١٠‏/٢٠٠٩

أمجد ناصر: لم أسمع بسليم بركات قبل مجيئي إلى بيروت عام 1977. قبل ذاك كنت في عمّان التي تقتاتُ، شعرياً، على فتات مائدة "النجوم". اكتشف سليم بركات في جنوب لبنان. في "مكتبة" القاعدة العسكرية التي كنت أحد عناصرها وجدت كتباً من إصدار "الإعلام الفلسطيني الموحد"، إثنين منها لسليم بركات. الأول، وهو يوميات عن "حرب الجبل" بعنوان "كنيسة المحارب" والثاني كتاب شعري بعنوان "للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الملك". استغربت، في البدء العنوانين خاصة الأخير (تركيبة النحوي، طوله، العُجمة التي استشعرتها فيه) لكن الاستغراب سرعان ما أخلى مكانه لدهشة عالية. لصدمة غير متوقعة هبّتْ، فجأة، من تلك الكتابة سواء من يومياته في "حملة عسكرية" في الجبل اللبناني المتوّج بالدم والحجل والثلج والكتائب أو من شعره الذي يخضُ هواء العربية ويبعثر مجازاتها وينسج، بنولْ رعويٍ محكمٍ، جهة أخرى للكتابة الشعرية لا علم لي بها قبلاً. كانت قراءة سليم بركات في قاعدة عسكرية في "وادي زفتا" في جنوب لبنان في أوائل عشريناتي واحدة من تجاربي، القليلة يومذاك، مع نصوص تأتي من مكان غير ذاك الذي يذكي ناره "كير" الإيديولوجيا الهائل الذي كان يرمي شرراً كالقصر. ففي ذلك الشعر وقعت على عالم يبدو غير مُسمّى وعلى لغة تسمّي، فيما كان كثير من عوالم الشعر العربي، حينها مسمّاة ولغته واصفة. عوالم (السائدة منها) معطاة. جاهزة. واللغة تأتي لتصف. لا لتنشئ. لا لتقيم كونها الخاص. وليس مرد العالم الذي يُسمّى في شعر سليم بركات عائداً إلى "بكارته" أو "وحشيته" ولا حتى "كرديته" فحسب فذلك العالم هو نفسه عالم الشمال السوري، لكن مردّ ذلك، في ظني، أن سليم بركات تطلّع إلى جهة شعرية (وليس جغرافية فحسب) لم تكن مألوفة ولا واردة في حسبان اللحظة السائدة. تطلّع إلى عناصر كانت أقلّ، أو أنأى، من أن يتطلع إليها شعر- شعار يرمي في أتون الكتابة صوراً - حطباً جاهزاً للاشتعال. وسرعان ما ضاعف سليم بركات "غرابته" (كان أيضاً غريباً في مسلكه وهندامه) وذلك عندما تقدم إلينا كناثر في "الجندب الحديدي". لكن الناثر في سليم بركات لم يكن جديداً عليّ عندما صدر "جندبه الحديدي" وقوبل بحفاوة نقدية كبيرة في بيروت. فقد كنت عرفته ناثراً في كنيسة المحارب الذي لا أدري لماذا أسقطه من ثبت أعماله. والناثر في سليم بركات متضمن في الشاعر. فلم يكن العروض العربي يمنع تدفق الناثر - السارد في شعره ولا يحدّ من تداعيه واستطراده ولا من تفجراته. من يقرأ سليم الشاعر يرى الناثر. لكن سليم، على ما يبدو، لديه ما يفيض عن الشعر. ما تضيق به بنية القصيدة التي مهما اتسعت ورحبت، كما هي الحال عنده، تظلّ محكومة بحدودها. هكذا سار الشاعر والناثر في سليم بركات كتوأمين سياميين لا تنفع معهما أي عملية جراحية... وعليك، شئت أم أبيت، أن تتعامل معهما كواحد. جسد واحد برأسين. *** هناك من الشعراء من لا يحب شعر سليم بركات وهناك من الروائيين من لا يحب روايته وبين هذين الفريقين فريق ثالث يستنكر عليه الجمع بين كتابين لم يُجمع بينهما (عربياً على الأقل) بنجاح. لكن سليم بركات ، على ما يبدو، لا يبالي بذلك. ولا يبدو أن قراء سليم بركات ومحبيه يبالون أيضاً. فهو يوالي، بعناده الإبداعي والشخصي الذي يعرفه فيه المقربون منه، الكتابة ويوالي محبو سليم بركات قراءته والبحث عن جديده... بل والتعصب إليه. وبعد انجازه العريض المتراكم ومنفاه الطويل هاهو يصير عند الأكراد رمزاً كبيراً، وعند العرب ظاهرة كتابية لا نظير لها في عربية اليوم. والرأي عندي أنه جمع بجدارة واستحقاق، الرمز والظاهرة معاً. فلا يمكن لك أن تفصل بينهما. إنه الكردي الذي "خدم" (تبدو هذه الكلمة مستهلكة، فاقدة لأي إشعاع ولكنني لا أجد أفضل منها في هذا السياق) شعبة من دون تبجح أو ضجيج، ومن دون أن تبدو قضية الأكراد مجرد قضية سياسية، والمبدع الذي حدب، بحب وتفان، على العربية لا لكي "يبزّ" بها العرب، كما يروج عند بعض الذين يقفون عند لغته، ولكن لأنّه، كما يحلو لي أن أتصور، مجبول بهذه اللغة. لأنها تسكنه. فلا أحد يمكن له أن يكتسب لغة مثل سليم بركات وتكون برانية. مجرد تحدٍ من "غريب" لأصحابها. إنه هو أيضاً صاحبها. فمن يكتب لغة كهذه هي له. ومثلما القصيدة والرواية كلُّ واحد عند سليم لا يمكن فصم عراهما فإن كرديته وعربيته هما كذلك: كائنٌ سياميٌ أيضاً. عن (القصيدة).