٣١‏/١٠‏/٢٠٠٩

لقمان محمود: الإقتراب من اللغة والمدينة الإقتراب من قيصر عفيف.  منذ أربعة أعوام، إكتشفتُ أنَّ المنفى أخذ مني الجهات، وترك لي بوصلة لإكتشاف الشعر. أخذ مني العائلة، وترك لي أصدقاء - شعراء. وأخذ مني الوطن، وترك لي غرفة مبعثرة بالكتب.. لتصبح قصيدتي وطني، وليصبح الجلاّد الأُميُّ، ليلٌ عابر في حياة القصيدة. فأنا شاعرٌ متسامح، يجري في عروقي الحبر، لا الدم. هكذا أواصلُ حياتي، هكذا أتواصل مع الكلمة، وهكذا أنجو من كوابيس الجلاّد، رغم أنَّ سياطه ما زالت نائمة في لحمي. مثلاً، يرسل لي الصديق الشاعر عدنان الصائغ مجموعته الشعرية «تحت سماء غريبة»، ويحيِّيني تحت هذه السماء الغريبة، ويتمنى أن نلتقي ذات وطن. ويرسل لي شاعر المغرب المبدع محمد الميموني أعماله الشعرية، ويشكرني بحرارة، لأنني مهتمٌ بشعره، ويؤكد أنني منحته لحظة فرح بريء، ما أحوج الشعراء إليه في هذا الزمن الرمادي الجاف. ويرسل أيضاً المفكر الكبير محمد عابد الجابري مجلة «فكر ونقد» شهرياً، لأنني أحياناً أقترب من العقل. بهذا الشكل، وعلى هذه الوتيرة أُبْعِد الموت قليلاً أو كثيراً عني. وهكذا تتجدد حياتي مع كل كتاب جديد يصلني، أو مجلة جديدة. وفي الآونة الأخيرة وصلتني مجموعة الشاعر قيصر عفيف، المعروف بالتمايز، والنزوع للإختلاف. فقوة الخبرة، والإحساس الإنساني والجمال بالحرية، جعلا من أدواته في الكشف والتنوير مكيفتان مع حالة الإبداع. فقصائده تبدأ من المادي، ثم تتطور إلى المجرد، حسب توسيع المجال الدلالي، بلغة تتحاشى التعميم والوعظ، وكأنَّ الشاعر حريصٌ كالمجوهراتي، حيث يستعمل الكلمات بدقة، فيضعها مثل حبات المجوهرات على صدر قصيدته. فمعظم قصائد «اللغة والمدينة» تعالج أمور الحياة اليومية، التي تثير مشكلة الحرية البشرية، يقول الشاعر: 1 - كل هذه المرايا مكسورة/ لكننا نرى وجوهنا فيها/ كل هذه الأماكن مهجورة لكننا نسكنها وتسكننا/ كل هذه الأحلام حجارة لكننا نبني بها قصوراً. 2 - السفر نوعان: دوران في المكان وكتابة. 3 - أهرباً من الموت/ أم من الحياة/ ننتقل من مكان إلى آخر؟ 4 - حين تجوب المساحات/ تتبدل لناظريك الأشياء/ وحين تجوب اللغة/ تتبدّل أنت. يمتلك الشاعر قيصر عفيف القدرة على تقديم الحقيقة - الحكمة على نحو عارٍ ومباشر وفوري، ومن المحتمل أن نسميها بالحقيقة الشعرية، حيث نكتشف الواقع المر، سواء في المنفى، أو في المنفى الآخر - الوطن.. لهذا نكتشف ذاتنا، وكانها - القصيدة - تتحاور مع ذاكرتنا بصورها البعيدة والقريبة، المستحيلة والممكنة، يقول الشاعر: 1 - أنا الغجري/ لا إسم لي يدلّ علي/ أو أستند عليه. أتفتتُ على الطرقات مثل ظلّ/ وأختفي في زئبق الأيام دون أثر، دون خبر. 2 - أمامي تسقط المدينة/ تختفي بيوتها/ تفرغ من سكانها لكن الضجيج لا يغيب/ هذه مدينة الخراف/ يملأها السراب يتخذ الإنسان فيها شكل حزن هائل/ وليس فيها ما يضيء المسافة/ غير الهرب. 3 - ليس الركوع علامة التقوى/ ولا السكر علامة البلوى أن تغني الأمل شيء/ وشيء آخر أن تكتوي بناره. هكذا هي ذاكرة الشعر، سوداء دائماً، وهي بحاجة على نقاهة طويلة. وكأنَّ لا فرق بين شاعرٍ وآخر. فجبران خليل جبران، ت. س. إليوت، أنسي الحاج، أدونيس، شيركو بيكه س، رامبو، سليم بركات، نزيه أبو عفش، محمد الماغوط، وقيصر عفيف.. إلخ، كلّهم أشجارٌ في غابة الشعر. فهذا اللاتناسق، وهذه الفوضى، وهذه “الخربطة” تقودني إلى الحقيقة أكثر، تقودني إلى الألم النبيل أكثر. فأنا لا أريدُ من الشجرة ثمارها، بقدرِ ما أُريدُ ورقة، ورقة وحيدة لأستر بها عورة آلامي، لذلك سأترك الفرح الكلاسيكي، وسأهتم بنقد الألم. يقول قيصر عفيف: 1 - لينتصب الحلم/ فالحلم باب آخر للمعرفة وباب آخر للأمل. 2 - لا نريد أن ننسى/ ولا نريد أن نتذكر/ كلّنا غرباء هنا عن ذواتنا/ عن أهلنا وأحبابنا. 3 - لم يعد الكلام سهلاً/ ولا البكاء مباحاً. آه.. حتى الشعر لم يعد كافياً. 4 - يعود من غربته/ إلى غرفته/ عابراً أدغال كآبته ساقطاً في متاهته/ ضائعاً في دهاليز الفلسفة محترقاً بنار القصيدة. إنَّ أيَ محاولة لشرح هذه القصائد - المقاطع، فإنها تؤدي إلى تدميرها، لأننا بذلك نعزلها عن صورتها الحقيقية. لأنَّ الجمال ليس بحاجة إلى أيّ شرح، اللّهم إذا قلنا أنَّ الحرب رمز آخر للكراهية، والحب رمز آخر للسلم، كمقاربة فقط لهذه القصائد - المقاطع المتألقة. فالمتابع لقصائد «اللغة والمدينة» سيجد نفسه أمام عالم مفتوح على الحزن، الفرح، الموت، الحياة، الله، الشيطان، المدينة، الصحراء، اللغة، الصمت، الوطن، المنفى، الغريب، الغجري، الخلاص، الهروب.. إلخ. فكلّما طرقنا باب قصيدة من قصائده خرجت مدينة بكامل مبانيها وشوارعها، وكلّما طرقنا باب لغته، خرجت القصائد. وربّما أفضل وصف لقصائد قيصر عفيف، وهو وصف أوكتافيو باز حينما قال: «القصيدة هي الفراغ الذي هو الطاقة. بحد ذاتها، إنها ليست الوعاء، وإنما منشئه، إنها ساحة حافزة مفتوحة من كل جوانبها للماضي، ومفتوحة من كل جوانبها أيضاً للمستقبل». بقيَ أن نقول لماذا الشعر، هل لأنه نوع من أنواع التطهير للروح؟ أم هو ترويضٌ للأمل؟ أم هو ساتر يحمينا من الموت؟ أسئلة مفتوحة على حيرتها.. لأنَّ الشعر لا يجلب لصاحبه سوى القلق وعدم الإستقرار، وبمعنى أدق: إنه يفسد على الشاعر حياته. وهنا أتساءل: ماذا يفعل قيصر عفيف للشعر؟ وماذا تفعل مجلته «الحركة الشعرية»، اقولها بصراحة.. لا شيء.. لا شيء. أقولها بمعناها الإحباطي، لا بمعناها الحقيقي - السطحي.. تماماً كما قال أدونيس: «لم استطع أن أفعل شيئاً إلاّ الشعر، وفي الشعر لم أفعل شيئاً». إذن سيبقى الشعر، إسماً آخر للحرية. سيبقى الموت - كعادته - في حياتنا، إسماً آخر للحياة. سيبقى المنفى قبلتنا، إسماً آخر للوطن. وسيبقى قيصر عفيف شاعراً، إسماً آخر للقصيدة.rojava.net