٢٢‏/٨‏/٢٠٠٩

القصصي حليم يوسف: الشيخ عفيف كان يسعى لحمايتي من كيد مريدي بعض الشيوخ  : إن اشتياقي إلى لحظات الجلوس في بيت أستاذي جميل داري في عامودا والتحدث معه عن الأدب وسماع قصيدته الجديدة أكبر من اشتياقي إلى الجلوس في بيت أهلي والتحدث مع إخوتي . : مبادرة السيد عارف رمضان لها أهمية مضاعفة, لفرادتها . : عملي في برنامج ( الخطوة الثالثة ) النافذة الوحيدة التي أتنفسُ من خلالها نسيمَ الأدب والكتابة الإبداعية . 1- عامودا :( المكانُ المعادي و الأليف ) يلاحقكَ في كلِّ ما كتبته و تكتبُه و ما تقدّمُه مِنْ لقاءاتٍ متلفزةٍ . بعدَ العيش و السكن فيه سنواتٍ طوالاً . ماذا أفادكَ هذا المكانُ , و بماذا أضرّكَ كتابياً ؟ من الصعب التحدثُ عن مكان سكنتْ فيه أمي التي حملتني في بطنها جنينا , وسكنني منذ الولادة وحتى الآن. لا زلتُ أكررُ محاولاتي الفاشلة في السعي إلى مغادرة هذا المكان. على صعيد الكتابة, لهذا التوحّد مع المكان الأول وجهان. وجه يكسوه البياضُ من حيث اعتماده منهلا ومنبعا للكتابة الابداعية نظرا لكثرة المواد الخام اللازمة للكتابة الإبداعية, إلى جانب العمق الروحي الذي يكسب تلك الكتابة ألقا إضافيا. الوجه الآخر يكسوه السواد من حيث إبقاء الروح أسيرة المكان الأول – القديم وتعكير حياة المرء في المكان الجديد بحيث لا يستطيع أحدنا التلاؤم مع المكان الجديد كما يجب, ولا يستطيع العودة إلى المكان الأول. فيبقى الجسد قلقا و تظل قدما الروح معلقتين في الهواء. لقد خنتُ المكان الأول بتركه ورائي وإلى الأبد, ويخونني المكان الجديد بالإصرار على الإبقاء على مسافة من حجر بينه و بين روحي القلقة. هذا الانفصام بين الروح وبين الجسد, أقصد هذاالقلق يتحول مع الأيام إلى حزن رصاصي يذوبُ في الأعماق ليتحول إلى كتابة, إلى قصص وروايات. عشتُ في عامودا غريبا وأعيش الآن غربة أخرى. كان هناك سوءُ تفاهم دائم بيني وبين المكان القديم ذاك, يتحمل المكان تبعات سوء التفاهم ذاك. الآن غيرت المكان وبقي سوء التفاهم قائما مع المكان الجديد, وأعترف بأنني أتحمل تبعات سوء التفاهم هذه المرة. ثمة خلل دائم رافق علاقتي مع المكان. عامودا لم تكن يوما ما وطنا هادئا لروحي التي كانت في غربة دائمة. والمفارقة أن روحي تتوق إليها في غربتي الجديدة. أحاول على الدوام الإمساك بعنق هذه المفارقة وتشريحها كتابيا. لاهنا ولا هناك, لم أعش كما يجب. هناك كل شيء يأتي متأخرا وبعد فوات الأوان. الناس يعيشون في وقت متأخر, يذهبون إلى العمل متأخرين, يأتي الأوكسجين بعد الموت والحياة تأتي متأخرة. وهنا الحياة في أوجها, كل يأتي في وقته, لكنني ... جئتُ متأخرا. الكتابة لدي نتاجٌ شخصي بامتياز, وهي حصيلة احتراق ذاتي هائل, وأنا أحمل هذا الاحتراق العظيم في داخلي في كل الأمكنة وأينما حللتُ. أنا أكتب نفسي ولا أكترث بتفاصيل المكان الا من باب السعي إلى فهمه. 2 - ابتداءً بالرجل الحامل ( المجموعة القصصية الأولى لك ) , و القصة التي احتفى بها شوقي بغدادي في ملحق الثورة الثقافي . وانتهاءً بالخوف الأدرد . المترجمة من الكردية إلى العربية بترجمة فواز عبدي : ثمة خوفٌ و قهرٌ و استلابٌ وموتٌ يلاحقُ شخوصَ كتاباتك , السؤالُ : ما البعدُ النفسيُّ لهذه الصفات : ( الخوف و القهر و الاستلاب .. ) التي قتلت الإنسانَ عندنا . وما زالتْ تفتك به ؟ في اعتقادي أن بساط الحياة انسحبَ من تحت أرجلنا على غفلة منا. لطالما أرقتني فكرة البحث عن أسباب هذه الصدفة المشؤومة, صدفة المجيء إلى هذا العالم في تلك البقعة الجغرافية بالذات, المغضوب عليها من البشر والمنسية من الله. هذه البقعة الجغرافية استلبت حتى من اسمها. اللعنة بعينها هي أنْ تولد كرديا على حدود مزروعة بالألغام والعسكر. يرى الكرد هناك أنفسهم جزءا صغيرا من وطن كردي مجزأ بين دول تقودها وحوش بشرية. تحرس الفكرة هذه جيشا ,عساكرُه الخوف و الفقروالسجون. والدولة تراهم عربا أو مهاجرين غرباء و تعتبر نفسها جزءا صغيرا من وطن عربي مجزأ بين دول تقودها رجال تلتصق مؤخراتهم بكراسي الحكم حتى الموت. تحرس الفكرة هذه جيشا مدججا بالمخابرات والأسلحة الثقيلة والبطش. هل يمكنك تصورُ النتائج الناتجة عن تصارع هاتين الفكرتين على روح طفل يكبر في مدينة, أجمل مكان فيها المقبرة. كنتَ أنت وكنتُ أنا يوما ما, ذلك الطفل. لازلت مذهولا بمدى ضخامة كمية القهر التي تجرعها ذلك الطفل المسكون في داخلي مرغما. لا لشيء, الا لكونه ونتيجة لحظة شبقية ما لرجل سرختي –من فوق الخط (تركيا) – وامرأة بنختية – من تحت الخط (سوريا)- جمعتهما صدفة الزواج , ولد في هذه البقعة المحاصرة بالخوف واليأس و دماء اللغات و رفض الآخر و التلعثم والأمية والجنون والتي سماها غيرنا عامودا. أنا معجب ببطولة ذلك الطفل لمجرد بقائه حيا. كبر ذلك الطفل فينا و كبرت معنا آلامنا, أحزاننا, أمراضنا النفسية و قساوة ضحكاتنا التي تنطفئ قبل الأوان. أحيانا, تكون الكتابة الأدبية نتاجا مباشرا لتلك الأمراض النفسية التي حملناها معنا منذ أيام الطفولة \السعيدة\ تلك. ولأن الكتابة لدي نتاج تجارب ذاتية, فإنني لا أستطيع الكتابة عن تجربة شخص آخر إلا بعد ذوبانها في داخلي ومرورها بمختبري الذاتي, بالمعنى المجازي العميق للكلمة. لذلك فان جميع الشخوص في قصصي ورواياتي تحمل دائما شيئا ما مني. غالبا ما تشبهني شخوصي ولذلك يعتقد البعض خاطئا أنهم يقرأون سيرتي الشخصية. باختصار أقول, إذا أردت معرفة البعد النفسي لصفات شخوصي توجه إلى تل شرمولا المتآكل, اجلس وحيدا فوق ترابه لدقائق وانظر حولك بشيء من التمعن. ستنفجر بين يديك بالتأكيد عشرات الينابيع القادمة من بحر الإجابة على سؤالك الصعب. 3- كلُّ إصدار ٍ كتابيّ لك كانَ يُحدثُ ضجّة ( غالباً : ضجة غير أدبية ,أقصدُ غير نقدية ) إلامَ تعزو ذلك ؟ أعزو ذلك إلى أمرين. أولهما أنني في الكتابة لا أخون الحقيقة. أحمل المرآة في النهار وأضعها أمام الوجوه المشوهة. لايستطيع صاحب الوجه الذي قبحه التشوه تحمل رؤيته في المرآة وتقبل الحقيقة وهي عارية, في حين أنه يقدم نفسه للآخرين على انه حامل الوجه الأجمل في الكون. تصدمه الحقيقة المجسدة \كتابيا\ فيثور ويزبد وأول ما يفكر فيه هو اللجوء إلى العضلات, لأن حامل المرآة بين ظهرانيه ويمكنه النيل منه بسهولة. فيحاول تكسير المرآة على رأس حاملها. وهذا ما يفعله بعضهم لدى صدور كل كتاب جديد لي. الأمر الأخر أنّ عامودا مدينة صغيرة وأنا أختارُ كل شخوصي من حولي ومن تجاربي , ولدى الكتابة عن صفة ما تتوجه الأنظار مباشرة إلى فلان أو علان الذي يحمل الصفة نفسها. والمضحك أن بعضهم يصر على أن هذا الشخص هو فلان رغم عشرات الصفات التي لا تتطابق مع مواصفات ذلك الشخص المعني. علاوة على غياب النقد الأدبي وانعدام العلاقة السليمة مع الأدب. لايوجد لدينا قراء, بالمعنى السليم العادي للكلمة. كثيرون قرأوا كتبي لا لأنهم يتابعون الإصدارات الأدبية ولدوافع ذوقية, قرأوها فقط لأنني ابن منطقتهم و لأسباب أخرى غير أدبية. لذلك فالضجة التي كانت تحدث كانت غير نقدية لأن الدوافع وراء قراءة كتبي غير أدبية. وتحول الأمر فيما بعد لدى بعضهم إلى التفتيش اللامجدي عن ملامح فلان وعلان في تلك القصة وتلك الرواية. وأعترف هنا أنني في كتابي الأول \الرجل الحامل\ أخطأتُ بذكر بعض الأسماء الحقيقية في القصص, وكلفني هذا الخطأ فيما بعد إلى تهجم بعض الأشخاص علي لتشابه أسمائها مع أسماء شخوصي. علما أنني لم ألتق بهؤلاء في حياتي و الصدفة وحدها كانتْ وراء تشابه الأسماء. وقد ارتكبت ذلك الخطأ في حينه لاعتقادي بأن أحدا لن يقرأ الكتاب وسيمضي الأمرعلى خير ونظرا لطرافة تلك الأسماء وخدمتها لسياق القصة المكتوبة. فيما بعد, رغم الحرص على عدم تكرار الخطأ, تكررت الضجة و ذهب مفتعلوها إلى أن الأشخاص يمكن معرفتهم رغم اختلافها في الأسماء. أعتقد أن الانغلاق والعلاقات القروية و غياب النقد و غياب القراء وانعدام الحريات ودور المحاكم وغياب تقاليد القراءة الأدبية في مجتمعاتنا تساهم سوية في نشوء مثل هذه الأزمات. 4- أنتَ كمؤلفٍ . كيف تقيّمُ ترجمة كتبك إلى العربية , كناقدٍ تتقنُ اللغتين ؟ كتبي الأولى, كتبتها بنفسي باللغتين. فيما بعد وبعد الهجرة انقطعتْ علاقتي مع العربية في الحياة اليومية واقتصرت العلاقة على القراءة عن طريق الانترنيت ومشاهدة الفضائيات. بدأت العلاقة مع لغة مختلفة وجديدة تماما – الألمانية -. عدا عن إعادة ترتيب الحياة المعيشية بكل تفاصيلها الصعبة. في هذه الأثناء تراجعت لدي الكتابة بالعربية لصالح الكردية. إن الأجواء الديمقراطية هنا في ألمانيا , فيما يتعلق بإتقان لغتي الأم, أتاحت لي المجال لسد الفراغ الذي كنتُ أعاني منه في الوطن, والاطلاع على كل ماكتب في هذه اللغة التي تحتاجنا ككتاب نصوص أدبية, أكثر من أي وقت, للاستمرار في الحياة والمساهمة الكثيفة في الانتعاش الذي تعيشه لغتنا الكردية الجميلة. انشغلت بهذا الأمر ولأنّ الوقت لايكفي للقيام بكل ما يتمناه المرء, فكان ذلك كله على حساب الكتابة بالعربية. ولأن الصديق فواز عبدي صاحب تجربة في الكتابة القصصية ولأنني أثق بإمكانياته في مجال الترجمة فقد أسعدني قيامه بهذا الأمر. قرأت الترجمة قبل النشر. في أماكن كثيرة, لربما ترجمتها بطريقة أخرى. راودني هذا الأمر أحيا نا وهذا طبيعي , لأن النص المترجم , شئنا أم أبينا, سيحمل شيئا من خصائص مترجمه وهذا حقه. علما أنني حتى الآن لم أرَ الكتاب في ترجمته العربية. أتمنى أن تصلني بعض النسخ قريبا. 5- أيضا كمؤلف , هل وجدتَ نقدا حقيقيا واكبَ تجربتك القصصيّة و الروائية ؟ تجربتي مع النقد الذي رافق كتاباتي الأدبية شديدة الخصوصية. علي أن أشير أولا إلى كتابين نقديين صدرا عن تجربتي الكتابية. الكتاب الأول (عالم عبدالحليم يوسف التعبيري – الجزء الأول من سلسلة تجارب جديدة في القصة السورية) لمحمد محي الدين مينو, الذي تناول فيه تجربتي القصصية في كتابي (الرجل الحامل) و (نساء الطوابق العليا). الكتاب الثاني ( دراسة نقدية تحليلية لرواية سوبارتو – السيرة الذاتية لمكان منهوب) لمسعود حسن, الذي تناول فيه تجربتي الروائية من خلال رواية (سوبارتو). أنا أعتز بهذين الكتابين وبأراء وتقييمات الكاتبين اللذين بذلا جهودا كبيرة لتسليط الأضواء النقدية على تجربتي الأدبية التي كلفتني كل حياتي حتى الآن. هناك أيضا العشرات من المقالات النقدية التي استفدت منها وكذلك العشرات من المقالات الصحفية السريعة التي اقتربت من النقد حينا وابتعدت عنه أحيانا أخرى. هذا جانب من النقد الذي أعتبره (حقيقيا) وأعتز به. وقد تعلمت من هؤلاء النقاد أن الروح الصاخبة وحدها لاتصنع أدبا. وأن للعقل حصة هائلة في مدى جمالية النص الإبداعي. وبعيدا عن النشروالاعلام, هناك ناقد لم يقرأ له أحد شيئا عن كتاباتي وأنا مدين له ولازلت, وهو الأستاذ جميل داري الذي بذل جهدا نقديا كبيرا وتابع بداياتي في الكتابة الأدبية بروح شاعر وبصبر أبوي. قرأ قصصي الأولى واحدة إثر أخرى وأرفق كل قصة بملاحظاته النقدية التي كانت بالنسبة لي بمثابة المياه التي تحتاجها شجرة الكتابة لتنمو. كان باب بيته دائما مفتوحا لي , يسمع تأتأتي الأدبية ويقرأ ما أكتب وينقد و الآن فقط, بعد أن أصبحتُ أبا, أدركت مدى صعوبة ما كان يفعله هذا الرجل النبيل لأصبح قادرا على شق طريقي في مجال الكتابة القصصية. أما الجانب الآخر والذي أعتبره نقدا (عاموديا) – إنْ صح التعبير- وهو النقد بالأيدي واللكمات وتراشق المسبات والتهديد بالضرب والقتل أحيانا. وقد رافق تجربتي القصصية والروائية هذا النوع المرعب من النقد. أنا مدين لهؤلاء النقاد بأن علموني مدى عظمة تأثير الكلمة المكتوبة ومدى جدية المسألة بأن يكون أحدنا كاتبا صادقا مع نفسه في بلاد منكوبة كبلادنا المسلوبة الروح. 6- منذ سنواتٍ وأنت تقدّمُ برامجَ و حواراتٍ نقدية و أدبية و فكرية , هل أضرّ حليم الإعلامي بحليم الأدبي ؟. لا أعتقد أن عملي في الفضائيات الكردية قد أضر بكتابتي الأدبية. على العكس تماما, فأنا أعدّ وأقدم برنامجا أدبيا (الخطوة الثالثة) منذ تسعة أعوام, أي منذ وصولي إلى ألمانيا وحتى الآن. ويعتبر عملي في هذا البرنامج النافذة الوحيدة التي أتنفس من خلالها نسيم الأدب والكتابة الإبداعية. وقد حاورت حتى الآن من خلال هذا البرنامج أكثر من مائتي كاتب وأديب وناشر و باحث وناقد من جهات كردستان الأربع ومن مختلف المهاجر. وناقشت مع المؤلفين أكثر من مائتي كتاب أدبي. كل ذلك زاد من رصيد قراءاتي واطلاعي على الأدب الكردي بشكل عام والحديث منه بشكل خالص. عدا عن التواصل الدائم مع الكتب الصادرة حديثا ومع الكتاب على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الأدبية والسياسية. يعود الفضل في ذلك بالطبع إلى هذه الفضائية العريقة روج تيفي على اعتبارها امتدادا لميديا تيفي كأول فضائية في تاريخ الأكراد. مايضر عملي الأدبي هو الاضطرار إلى القيام بأعمال أخرى لاعلاقة لها بالأدب والإعلام وإنما لها علاقة بتأمين مستلزمات العيش. هذا الأمر يهدر الكثير من الوقت الذي يمكن استثماره في القراءة والكتابة. 7- مؤسسة (سما كرد ) للثقافة والفنون مؤسسة مستقلة طبعتْ كتباً كثيرة , وكرّمتْ كثيرين من الفنانين و الكتاب و العلماء . وأخرجتْ عدة كليبات فنية لمغنين كرد . كيف تنظرُ إلى هذه المؤسسة المستقلة , خاصة وقد تمّ - عدة مرات - الحوارُ بينكَ وبين مدير هذه المؤسسة الأستاذ عارف رمضان في (Roj تي في ). تعتبرمؤسسة سما للثقافة مؤسسة فريدة من نوعها على الصعيد الكردي. فمن جهتي لم ألتق على الإطلاق برجل أعمال كردي فكر بتخصيص جزء ولوصغير من رأسماله لخدمة الثقافة الكردية, أو تمويل مجلة أو مشروع أدبي أو فني. ومن هنا تمتلك مبادرة السيد عارف رمضان أهمية مضاعفة كونها خطوة سباقة في هذا المجال. خاصة فيما يتعلق بطباعة الكتب الكردية أو التي تتناول الموضوع الكردي. ما أتمناه هو أن لاتراوح المؤسسة في مكانها وأن تتطور أكثر فأكثر باتجاه توزيع الكتب أيضا, وعدم الاقتصار على طباعتها. كما أتمنى أن يبادر آخرون ممّن تتوفر لديهم الامكانيات المادية وهم كثر بالتأكيد, إلى الاقتداء بالسيد عارف رمضان والقيام بخطوات مثيلة تساهم في رفع الغبن, أو بعضه, الواقع على لغتنا الكردية وعلى النشاط الإبداعي الذي يشهد انتعاشا ملحوظا رغم سياسة المنع والقمع و التذويب الممنهج الذي فشل فشلا ذريعا في سعيها إلى إنزال الضربة القاضية بها وإزالتها من الوجود. ما قلته هو مجرد تمنيات, وان كنت يائسا تماما من الوضع المزري ومن الذهنية العاقرة ثقافيا التي تتحكم بعقول وأفئدة أصحاب الرساميل الكرد وهي الذهنية نفسها التي تمتلكها قيادات أحزابنا الكردية المسكينة. 8- ثمة حقائقُ , قد تعلمُها , وأنتَ البعيدُ جداً : المكانُ الأوّلُ لكَ ماتَ : ثقافيا و فكريا و فنيا , و قبل هذا كله : المكانُ مات مكانياً ( لقد ُقتِلَ ومُثِلَ به) , هل مِنْ كلمةِ رثاءٍ لكَ بحقه ؟ أفهم تماما ما تصبو إليه, لكنني أرى المكان الذي تتحدث عنه بمنظار أخر. عندما نتحدث عن قتل المكان فهذا يعني أنه كان حيا في يوم ما. وهذا ما أختلف فيه معك تماما. كان المكان ميتا عندما كنا سوية فيه, وكان منتهكا في عرضه ومستلبا من قبل كلاب الشم وبياعي الشرف ومباحا للقوادين والسفلة. لم يكن للحب فسحة ولوضيقة للحياة. كان المكان ولا يزال نحن. أنا المكان. أنت المكان. المكان بناسه. كنا نحن نحاول, بإمكاناتنا الدونكيشوتية, أن نبعث الروح فيه. كنا ننجح حينا ونخفق كل الأحايين. لكل منا مكانه الذي يختبئ تحت جلده. يحمله أينما ذهب. المكان ذاك , ساكنه مريض لقربه منه, و المبتعد عنه مريض أيضا, لالتصاقه الدائم بروحه. أنا مثلا, وبعد كل هذه المسافات الزمنية والجغرافية الهائلة, اندثر المكان في داخلي. تحول إلى حنين إلى تفاصيل كنت أظنها صغيرة وعديمة الأهمية حينها. على سبيل المثال, ان اشتياقي إلى لحظات الجلوس في بيت أستاذي جميل داري في عامودا والتحدث معه عن الأدب وسماع قصيدته الجديدة أكبر من اشتياقي إلى الجلوس في بيت أهلي والتحدث مع إخوتي. أحن إلى المشي, قبل الغروب, مع صديق باتجاه كري شرمولا, حيث قبر أبي. أحن إلى سماع تداخل الأصوات في عراصة عامودا والى صوت آذان الملا محمود في الجامع الكبير. أحن إلى طعم الشعبيات في دكان اسماعيل كوسة, ذلك الطعم الممزوج بنكهة أخر قصيدة لأدونيس. أحن إلى الرجوع من ملاقاة صديق طفولتي الشهيد ملك شيخ بكر في بيته الواقع باتجاه اشي علاوي وطرق باب دحام عبدالفتاح وسؤاله عن اخر كتاب صدرله. أحن إلى الهرب من قيظ الصيف في شارع –بيت وتحيا- والالتجاء إلى غرفة صديقي الشيخ عفيف الحسيني وهو يتحدث عن الأحجبة التي صنعها لأبي والانشغال بحمايتي من غضب مريدي الشيخ الذين كانوا يبحثون عني لقتلي ورد كيدهم عني.... علي أن أتوقف هنا خوفا من الاطالة. مختصر الكلام, إن المكان الذي تدعوني إلى رثائه بات يسكنني على شكل تفاصيل صغيرة لها علاقة ببشر ذلك المكان , وهؤلاء أحبهم. 9- سؤالٌ من الشاعر الكردي ياسين حسين : أبدعتَ قصصيّا بخلاف المرحلة التي كانتْ موارة بالشعر, وحيث الكلُّ يكتبُه , سواءً في عامودا أو حلب , و للتذكير : ثمة مقاطعُ شعرية راقية في رواية سوبارتو تبرهنُ أنكَ عاشرتَ الشعرَ و أهله . ما تفسيرك ؟. في صغري كنت مأخوذا بالنثر أكثر من الشعر. كان يمتلكني إحساسٌ دائم بأنني أحمل في داخلي شيئا يجب قوله بوضوح , والشعر عاجز عن القيام بهذه المهمة نظرا لإبهامه, أو هكذا كان يتبدى لي. اكتشفتُ مبكرا نوعا ما متعة السرد, متعة أنْ تكتب حكاية يستجيب الآخر لتفاصيلها. كنت دائما أجد ما أقوله وكان النثر, سواء القصة أو الرواية, هو الأوفر حظا لأن يحظى بشغفي به وبقدرته على تهدئة نيران الحكايات المستعرة في روحي على الدوام. وبالتالي أصبح لجوئي إليه مع مرور الزمن خطيئة ممتعة أرتكبها لدى تفاقم محنة الكتابة. الصدفة وحدها تقف وراء عثوري على النثر كمفتاح قادر على فتح باب الحكاية على عوالم الروح. علما أنني قارئ نهم للشعر أيضا. ويعوداختياري لتغليب اللغة النثرية في السرد القصصي أو الروائي إلى موقف أدبي , تكنيكي, ذوقي, له علاقة بالمعايير الفنية للنص الإبداعي, واللجوء إلى اللغة الشعرية في الحالات و المواقف والأحداث التي تتطلب استخدام تلك اللغة, ومن خلال الضرورة التي يفرضها السياق السردي. بمعنى الإبقاء على اللغة النثرية بشكل دائم, واللجوء إلى اللغة الشعرية في الحالات الشعرية ولدى الضرورة الفنية. وهذا ما فعلته في سوبارتو أيضا. إن خصوصية الحالات والمواقف التي تغص بها الحكايات المتناثرة في متن النص الروائي الذي يتمحور حول قصة حب, دفعت اللغة الشعرية إلى الواجهة في الكثير من الصفحات. وعندما يتطلب الموقف حضور الشعر ويخدم ذلك سياق النص في تصاعده الدرامي فانني أفتح جميع الأبواب أمام الشعر ليقوم بدوره في تعميق البعد الجمالي للنص الروائي. في رأيي أن النص الروائي يمتلك هوية خاصة, أؤيد حضور الشعر في حدود الحفاظ التام على تلك الهوية الجمالية وأنا ضده في حال سعيه إلى إلغاء تلك الهوية الخاصة.
 حليم يوسف :الحِوَارُ الخامِسُ مَعَ الرّوائيّ والقاصّ والإعلامي الكرديّ : حليم يوسف , بمناسبةِ ترجمةِ روايتهِ ( الخوف الأدرد ) من الكرديّة إلى العربيّة , مِنْ منشورات مُؤسّسة سما كرد .
عن سما كورد.نت