١١‏/٨‏/٢٠٠٩

 
فرج بصلو

طرزان كيفو طرزان اسكندر
تخيلت نفسي أخطو على الغيم ...
سيستر جوزفين معلمتنا, تطلق علينا أسم جماعي "فراخي". بشوشة جوزفينتنا. تقبلنا على الخدود. كلٍ بدوره. بفستانها الناصع وأزراره الكالحة المقصبة تبدو كأنها ملاك من السماء السابعة. خبرة التلاميذ بمواد التعليم تبهج.  أنجح في تعليمي. لا تقل علاماتي عن المئة. علاقاتي بزملائي من صفي تتعزز. على ما يبدو الشاطر محبوب في إطار الكتاب, القلم والدفتر. الصف والباحة...
أثناء الظهر, حكو القبضاي الضخم  ينتظرني على أم الطريق. ما يعزز ثقتي بالمرور مع كافة الطلاب على الدرب الصحيح للدار مباشرة. أكتافه العريضة الصلبة, وصلعته تهدد الشارع بأكمله. فبعد الشجار العنيف الذي حصل صار الجميع يحترمونه ويخافون منه. بعد وخلال عودتي من المدرسة يفوت معي الى حوشنا ويشاركني الغذاء. إنه شخص لا يتردد. ويشعر عندنا كأنه في بيته. ينادي جدتي: جدة! ووالدتي: حرمة معلمي. ليس فقط من هيبة الدار, أو الكبار, حكو يبدو أخلاقي ومنسجم معنا, ويعاملنا باحترام. يرد على تسخيره بأي شيء كان بنعم! وبحركة خفيفة للغاية يقضي الطلبات. دلو المياه. تزكية النار. فك كيس شعير للدواجن والأغنام وباقي حيوات البيت. نقل أي شيء ثقيل من مكان لأخر. لا يستعصي عليه شيء. مجواب هذا الحكو يرتب علاقة جيدة مع داهودو, التوتر الذي كان بينهما تبخر وزال, ويبدوان لي كأنهما صديقان. له خبرة بموادي الدراسية. حين جلوسي في الحوش لتكملة واجباتي (أحضر الأغلبية في المدرسة) يجلس معي ويساعدني إذا لزم الأمر. ياريت جلس معي والدي كذلك. يظهر لي هذا الحكمت, صاحب معرفة في الأدب, التاريخ والرياضيات. معرفة متكاملة. هذا الشاب الضخم والصارم أحياناً,  الذي يمسك الدربكة, ليدربك عليها بإصبعين فقط, يستظهر عشرات السطور من شعر المتنبي, وأبي علاء المعري. عندما سألته مرة: حكمت ليش ما بتكمل دراستك؟ كان جوابه: في هذه المدينة ومدارسها لا أجد ما أتعلمه. وإن أردت تكملة التعليم, عليّ السفر إلى الشام لأتعلم بالجامعة, ففقط التعليم الجامعي يناسبني, مثل عمي اللي صار ضابط كبير. ولما يلمح خيبتي من رده. يضيف "هنا ايضاً مازلت اتعلم, إنني أتعلم في معهد الإستعراض واللياقة البدنية, كل هذه العضلات أملكها هي من المعهد, وقد يبدأ معهدنا المسمى أيضا نادي, إقامة أستعراضات ومبارايات قوى, رفع أثقال, جمال جسماني وغير ذلك, على خشبات المسارح والسينما, وخصوصاً فيما قبل عرض افلام هرقل (هركولس) أثناء الفصل. صرت أرفع مئة كيلو. جماليات جسمي تشبه "ستيف ماكوين". يدفعون لنا أجر لكل هذه الإستعراضات التي تكتظ بمتفرجيها دور السينما.
-    قللي حكو هناك إمكانية اخذي معك لإحدى الإستعراضات؟
-    طبعاً! إي مو على راسي يإبن معلمي. بس بإذن معلمي, أبوك, إذا قبل.
-    شو رأيك: تطلب منو. ولو محاولة؟
في أحد أيام الجمعة وعلى طلب منه إنتظرته على باب سينما حداد. عج المكان بالناس. زحمة وضجيج. على واجهة السينما رفعت لافتة بحجم هائل, بطرفها الأيمن تباين ستيف ماكوين "هرقل" بجسده الأسمر, وكأنه جبل من العضلات. خصر ضيق رفيع على ساقين صلبتين هائلتين. وعلى الطرف الأخر مجموعة كاملة من رياضيي العضلات في قامشلونا, يتوسطهم حكو. ياله من حشر مريع يطبق على مدخل قاعة السينما, علي العبور وسط جمهور ضخم وضغطلا يطاق, أكاد أختنق. أحس كأني أمضي على قوى ليست لي. مع ذلك أصل داخل القاعة المهتزة من الصياح والتشجيع. وهذا قبل أن يبدأ  شيء. يمتليء المكان حتى في المعابر. يدق الجرس. يثور بركان من التصفيق والتصفير. مدير المباراة يدعو رؤساء الفريقين إلى خشبة العرض أمام الشاشة, وبلحظة يصعد "طرزان كيفو", هو طرزان الأرمن, يتلوه "طرزان اسكندر" هو طرزان السريان. جبلان ضخمان. لا يلبسان سوى مايو, وأجسادههما بعضلاتها المفتولة مددهونة بالزيت تلمع وتشع تحت إشعاعات الكهرباء القوية. يشبه طرزان كيفو هرقل له المايو الأخضر. كل جسده عضلات. على جبينه خصلة شعر صغيرة مجعدة. له وجه كوجه ألهة الإغريق. "طرزان اسكندر" أضخم منه جسدياً, أطول بكثير, يفوقه برفع الأثقال, يتمكن من رفع مئة وخمسين كيلو له المايو الأحمر, ولكن "طرزان كيفو" يعرض جسم مثلث متوازي الساقين, جسد كله عضلات, له ابتسامة هادئة وواثقة. يلتاع الجمهور ويتلقى منه تصفيقاً يدوي إلى ما خلف خلف الجقجق. فيعرض اسكندر بعض التمارين والمواقف التي لا تخلي أحداً بدون إكتراث. هو مختص بما يسمى "poza" من الأنحاء. يعرض خصره ثم يدور يميناً وشمالاً متبوعاً بالتصتفيق الهائل. يعرض عضلات السواعد, ينحني إلى الأمام ليعرض وعلى الطرف ليعرض, مفتوح الساقين, شماله على خصره, ويمناه مرفوعة بقبضتها المغلقة. زاوية التسعون درجة, سمعتهم يهتفون. القاعة تعج. ترتج. تعلو في الهواء الدبق... وبانتهاء الجزء الأول, يتصافح الطرزانان مبتهجان, ويتفضلان باستلام كأسان لامعان من لجنة التحكيم. يرفعان الكأسان في الهواء وأيديهم الحرة متشابكة ببعضها ترتفع أيضاً. فيثور الجمهور ويرتج سقف القاعة, أرضها وجدرانها, ترتج قامشلوكي محبة لطرزانيها. ليبدأ عرض الفيلم, عند فاصلته أثناء الفرصة سوف تتم المباراة بين الفريقين.
شاهدنا فيلم الرحلات التاريخية لهركولس (هرقل) متوترون وتائقون لقدوم الفرصة. حتى هرقل ومغامراته حثونا على التصفيق الحار والتصفير المنفعل. وأخيراً في الفاصل أخبرونا: بنهاية المباراة والفيلم يمكننا شراء صور الطرزانات. قيمة كل صورة فرنك سوري. فكل شيء يكون المرء بانتظاره ويتمنى وصوله وحصوله, يحصل. امتلأ المسرح بطرزانات صغار. شعّت الزيوت والدهون من ابدانهم مشكلة أقواس قزح مصغرة في صخب الأنوار. حاول المتبارون عرض قواهم برفع أثقال مختلفة. بطريقة الكسب والخسارة. وكفة الترجيح مالت مرة مع الكيفويين ومرة مع الإسكندريين. عرضت عضلات تكفي رؤيتها عمر كامل. كل وقفة وكلوز أب (poza) ألهبت المتفرجين من جديد. حتى انا فرحت وصرت أصيح وأصفق بحرارة عندما رفع ناطري الشخصي حكمت بكأس فاز به على لياقته الجسدية متفوقاً على خصمه من الفريق الأخر, وبنفس الوزن طبعاً. وكأساً أخراً ناله حكو جراء رفعه مئة وخمس كيلوات بعد فشل خصمه في ذلك. اما بطلي العظيم وبعد زفرة مدوية ونداءات تشجيع دفع الحدائد في الهواء وكأنه رفعني معها من على مقعدي. والحاصل أخيراً: إنحنى أمامنا كل الرياضيون والطرزانات والهرقلات, شاكرون لتشجيعنا لهم. وبأيديهم الجبارة كؤوس لامعة. وأخلي المسرح لتتمة عرض الفيلم.
حين عودتي إلى الدار وصور الطرزانان الكبار, كيفو واسكندر بيدي, وحكو يخطو بجانبي, تخيلت نفسي أخطو على الغيم. راح بطلي المتوج بكأسين يتلو علي تكاثر النوادي في المدينة. نوادي لياقة ورفع أثقال. يقول " النوادي مليئة بالشباب من شتى الأجيال. أنا نفسي أتمرن باولى ساعات ما بعد الظهر. ساعة  كل تمرين. وبعدها مع مدرب خاص لمدة ساعة ونصف. في كل يوم من أيام الأسبوع. فاذا يقبل الأستاذ أبو فرج سوف أخذك معي لترى النادي, وتتبع له قاعة بيلياردو ضخمة جداً. والبيبيفوت هناك أيضاً. كل المؤسسة موجودة شمالي المدينة في شارع البريد". وأجيبه متحمساً ليترجى والدي في السماح. يأتيني بالبشرة وعدم القبول ليقول: لا تيأس, سأحاول إقناع الأستاذ. ما عليك غير الرجاء وتكبير الخالق!.
أنجح في تعليمي. لا تقل علاماتي عن المئة. علاقاتي بزملائي من صفي تتعزز. وأكثر من هذا, مع أساتذتي. ثمة سباق ذو بأس يجعلنا نتفوق. الكل يساعدون الكل. سيستر جوزفين معلمتنا, تطلق عليان أسم جماعي "فراخي". بشوشة جوزفينتنا. خاصة لما يمر القس (ابونا), المراقبة ومدير المدرسة على صفنا, ليفحصوا مرتبة معرفتنا. كل سؤال يطرحوه يجابه بغابة أيدي ترتفع. خبرة التلاميذ بمواد التعليم تبهج قلوبهم. فاستاذتنا وكامل صفها يحظون بتقديرهم ويعلنون "الصف الممتاز لمدرسة البروتستان". يتم الإعلان بيوم الأحد في الكنيسة, بعد قداس الصباح في الساعة العاشرة. مباشرة بعد إنتهاء صلاة الكبار من أبناء الطائفة البروتستانية. يوم الأحد هو يوم عطلة. والغير مسيحي لا يلزم بالمجيء إلى القداس. ولكن الجميع يأتون. كل أفراد الصف يعتلون المنبر بعد نداء الأبونا وتلبية لطلبه. نقف على يمين الكاهن وسط تصفيق الجميع. نتصافح مع كافة الأساتذة. ثم يتلقى كل تلميذ وثيقة فخرية. الأنسة جوزفين, مربيتنا تقبلنا على الخدود. كل بدوره. بفستانها الناصع وأزراره الكالحة المقصبة تبدو كملاك من السماء السابعة.
تخيلت نفسي أخطو على الغيم...
ألست عريف الصف طوال الأيام؟.
العلم والمعرفة سقف أيضاً
يتوجب علينا رفعه دائماً..
أخطو على الغيم ومعي أساتذتي وزملائي
أفراد صفي. تخيلنا نكسب كأس الكوس
رمز نجاحنا ونجاح مربيتنا
ذات الفستان الناصع   
والأزرار المقصبة...
اللوحات المرفقة للفنان والشاعر فرج بصلو. ابقوا مع ذاكرته في حلقات تتبع...