٦‏/٧‏/٢٠٠٩

"نساء الطوابق العليا" لعبد الحليم يوسف هل هي نصوص سوريالية بدون قراء؟ ـــ إبراهيم حسو
عبد الحليم اليوسف اسم كاتب قصة كثير الطموحات، قدم إلى حلب دارساً في كلية الحقوق، وأجمل شيء فعله هذا الكاتب في حياته العملية أنه كتب عن حياته بصدق وبجنون غير مألوفين عن أقرانه الشباب، دون أن يكذب على نفسه أو يختبئ خلف الستائر.‏
فاشتغل على تقنيات كتابية متنوعة وفق تجسيد حي لتجارب تحكي عن حياة شاب محبط لا يجد ما يهمه في هذه الحياة سوى إشباع روحه بالمعرفة والاطلاع على أبعد مما هو موجود في حياتنا العادية، فأصدر بألم كتاباً ملفتاً، غير متوقع منه، كتاب فيه صراخ طويل وضحك مرير على هذه الحياة سواء عبر الكوميديا السوداء، والسخرية المريرة من مفارقات اجتماعية لا تثير سوى القهقهة أو عبر ذلك الحزن المقيت الذي يهز الواحد فينا، يدفعه نحو التهلكة برموزٍ مهمة وإشارات ودلالات تحوي الكثير من اللامبالاة الملغمة بهذا الواقع، وهروب واضح نحو الأماكن المظلمة في الأنفاق، وسمى كتابه الهروبي هذا "الرجل الحامل" دمشق 1991- بإخراج ملفت لأحمد معلا، فبدا كالبوم قصص وصور، تحسه أحياناً، أحد مفرزات العمل الكتابي السوريالي.‏
على كل حال، وزع هذا الكتاب وأثار ما فيه ضجة، تعرض بموجبها الكاتب إلى محاولات للاعتداء الجسدي، وما شابه ذلك، لأن الكتاب يشرح بطريقة ساخرة بعض حالات استثنائية لشخصية معروفة في بلدته "عامودا" على الأقل، فيه فضائح ومكائد. الجنس أولاً من ثم السرقة والدين وأخيراً ذلك الخيال المبهر الذي يضيع القارئ وينفيه.‏
واليوم ترك الكاتب "الرجل الحامل" ذلك الثالوث اللامقدس وبدأ بترجمة جديدة لحياته، حياة منزوعة أصلاً من هذا الانجرار البشري نحو الهلاك. فأصدر كتابه الثاني "نساء الطوابق العليا" بيروت 1995. ولا أدري لم يصر الكاتب على وضع نسائه في الطوابق العليا دائماً.‏
يقف عبد الحليم يوسف وقفة أخرى مناقضة لوقفته في "الرجل الحامل" وذلك لخروجه عن السخرية أولاً. والارتقاء بمواضيع قصصه من المستوى البيئي، الشعبي، إلى المستوى الكوني، الحسي، ومن ثم تفكك اللغة لديه وبحثه المستمر في الغموض للغوص فيه ووضع اليد على ما هو غير مرئي في الإنسان واستنطاقه، إلا أن لغته هنا نشطة إلى أبعد حد، وهو في نشاطه يجمع بين اللغة ومنظوراتها المختلفة، التي تنطوي كثيراً على الجدل القائم بين اللغة نفسها كأداة توصيل واللغة التي هي أنظمة من العلاقات الخارجية للنص القصصي. تعمل بوظيفتها وتنحو في تشكيل البنية الكاملة للقطعة الإبداعية.‏
أما الحركة في النص فتجري وفق نظام وسياق يعمه فوضى الأفكار والأقوال والتصرفات، فوضى في الاستطرادات، فنص "نساء الطوابق العليا" مثلاً –يتجزأ ويقطع الكاتب ذلك السياق الأخاذ لوصف موقف حب مثلاً أو وصف حالات ذهنية وروحية لشخصية "الكاتب" نفسه المتماهية مع الشخصية في القصة "جسد بأعضاء متحاربة" وتنتهي فوضى النص في هزة التساؤلات التي يتركها الكاتب في نهاية كل قصة، تساؤل الشخصية عن كينونتها. وجودها أصلاً في هذه البقعة البيضاء"، وتظل على هذه الصورة من التساؤلات حتى ينهيها الكاتب بطريقته التي تعتمد على جانب معرفي مضمر في أكثر من موقع. لكن كابوس الغموض والخيال الباهر تهيئ فخاً لهذه المعرفة "الحقيقية" سرعان ما يقبض على روح النص ويلغيه في متاهات لغوية هذيانية تؤدي بالنتيجة إلى "قراءات خاطئة".‏
بالمقابل ووفق هذا النشاط اللغوي الذي يشتغل عليه الكاتب يبدو في الأفق ذلك البعد المعرفي الواضح أو ذلك الدلالي الذي يؤدي وظيفة إدراكية فاعلة، باستثناء القراءات المتقطعة لسرد الأحلام الذي يكون أرضية المجموعة كلها على ما يبدو. لهذا تجد الغموض ملاصقاً لبنية النص، غموض الشخصيات وتركيبها، غموض الأمكنة التي تكون أمكنة مظلمة غالباً وباردة، غموض الزمن المفقود. تقريباً، علاقات مختزلة ومجزأة، حوارات هذيانية تجري من اللاوعي، تصرفات قائمة على إشارات ورموز، شخصيات تقدم نفسها من خارج النظام المعرفي العقلاني الطبيعي، شخصيات مريضة. مختلّة عقلياً، إنها تذكرنا بشخصيات كافكا وديكنز:‏
"أخوتي يضحكون، يقهقهون على بعد متر من جثتي التي تسيل سواقي الدود من أذنيها، يقهقهون لا يشمون الرائحة. أين أنوفهم؟ وجوههم هيولية خالية من الأنوف والعيون، لا شيء غير أسنان تمضغني. أنام على الطريق.. تمر شاحنة مسرعة على يدي فاتركها وأمضي وقد يعضني من فخذي حصان شموس فأترك له رجلي فأسرع إلى النوم برجل واحدة".‏
من قصة "حب منخور الجمجمة" ص7.‏
أمام هذا التداخل بين الحلم واليقظة، بين الرعب والتساؤل. تبدأ اللغة لتحل محل الفوضى، وتنظم العلاقات اللغوية من جديد. ترتب الحوار، وتقضي على ذلك السرد الطويل للحلم بطريقة العارف المنظم للشخصيات وتصرفاتها، كأن اللغة هنا، خاصة في "نساء الطوابق العليا" هي الديناميك –محرك النص كله:‏
"أنا إنسان بدائي، يسكن مدينة ليست له، يشتهي امرأة تشتهي غيره".‏
"صعد راكضاً إلى الطابق الأعلى، خرج إلى سقف المبنى، نظر إلى الغيوم. كانت المرأة تتطاير في السماء، تسبح في الغيوم عارية كآلهة في الأساطير البدائية.. فتح يديه على امتدادهما.. نظر إلى حيث المرأة الساكنة في ا لغيوم. حاول الطيران.. ركض.. ركض.. ومن أعالي الطابق الأخير.. تهاوى".‏
قصة "نساء الطوابق العليا" ص98.‏
بقي القول أن ما يهدف إليه عبد الحليم يوسف هو خلق معنى أكثر جاذبية للنص، والمعنى المفرد الذي يلغي ذلك القارئ الغبي الذي تعلم على قراءة العالم دون أن يشارك أو يحرك أي شيء، وعبد الحليم يوسف بذلك يبحث عن قارئ ذكي مبدع في قراءاته وتناولاته للنقاد. إنه حاضر في النص، مشارك في بنائه وكشفه على العالم.‏
أخيراً.. لابد من قراءة أخرى وبطريقة أخرى لأحلامنا عبر "نساء الطوابق العليا" وعبر قصص هذا المبدع الشاب عبد الحليم يوسف.‏
مجلة الموقف الأدبي  - العدد 304 آب 1996