٢٩‏/٧‏/٢٠٠٩

تيتس رووكي
أرياش من السماء: أو الذي قالته شجيرة الفلفل للبطل
الترجمة عن الإنكليزية، عبدالرحمن عفيف
تنظير
هذه المقالة تناقش بعض أوجه" مشكلة الهويّة" متجليّة في رواية "الريش" (1990) للروائي الكردي المولود في سوريّة سليم بركات (ولد 1951)، على خلفيّة تيبولوجيا التاريخ كما هي معروضة في كتاب برنهارد لويس تحت عنوان التّاريخ: متذكّراً، مكتشفاً، مبتكراً (1975). كعضو من جماعة أقليّة محرومة من كامل حقوقها الثّقافيّة والسّياسيّة، فإنّ بركات بشكل خاصّ وبدهيّ ذو حساسيّة رهيفة فيما يتعلّق بالطبيعة المتكوّنة للتاريخ والهويّة، وبكيفيّة عمل مسائل التذكّر، الاكتشاف ـ الإحياء والابتكار. المقالة تعرض تحليلاً مفصّلاً لرواية الرّيش، مستنتجة أنّ "مشكلة الهويّة" لم يتمّ حلّها في هذا العمل الأدبي؛ بل بالأحرى، الرّواية تبدي لنا صفّاً من الهويّات بصنفين، صنف متضّاد وآخر متكامل، بينما الشخصيّات محكم عليها بالبحث عن هويّة ثابتة لاتلبث أن تتحلّل وتضمحلّ كالسّراب حالما تقترب منها الشخصيّات.
فاتحة
قبل مايقارب الثلاثين عاماً كتب برنهارد لويس كتاباً صغيراً بعنوان التّاريخ: متذكّراً، مكتشفاً، مبتدعاً (1975). الفكرة الأساسيّة في هذا الكتاب هي أنّه هناك أنماط من التّاريخ. أوّلاً، هناك التقليد المعاش للمجتمع أو لجماعة ما من الجماعات، ذاكرتها الجمعيّة، الواقعيّة والرمزيّة على السواء؛ هذا هو "التّاريخ المتذكّر". ثمّ هناك "التّاريخ المكتشف"، هذا الذي يتكوّن ويتألّف من حقائق جديدة بخصوص لحظات، أناس وأفكار كانت قد نُسيت يوماً ما أو رُفضت من قبل الذّاكرة العامّة، ثم يتمّ إعادة اكتشافها بعدئذ وانعاشها من قبل التعليم الأكاديميّ. من هذين النمطين الأساسيّين الإيجابيّين يميّز لويس نمطاً ثالثاً، سلبيّاً: "التّاريخ المبتدع". هذا تاريخ له غرض ذو طبيعة سياسيّة أو إيديولوجيّة على الأغلب. إنّه مختلق من التّاريخ المتذكّر أو المكتشف، أو هو المفبرك بغرض وقصد.(1)
التشابه الصّادم بين عنوان كتاب لويس وعنوان هذا المؤلّف يهب مثالاً معبّراً عن التناصّ وقوّة التقليد، وكيف كلّ النصوص مبنيّة على نصوص سابقة. لكنّه أيضاً يرسم أنّ الأدب والتاريخ أنظمة مترابطة برباط وثيق إلى بعضها البعض. كتّاب التّاريخ والكتّاب المبدعون جميعهم يخوضون في عمليّة سرد - القصص وينتجون الحكايات. هذا الشيء يظهر على الأخصّ في صيغة النّصوص المطبوعة.  الموضوع الأهمّ المشترك للقصص التاريخيّة والخياليّة هو النّاس والأحداث في الزّمن الماضي. فوق ذلك، تماماً مثل أيّة رواية، القصّة التاريخيّة مختصرة، ويمكن لها أن تحلّل بأدوات ودلالات يتمّ تطويرها من قبل النظريّة الأدبيّة. في القصّة التّاريخيّة تدعى الشخصيّات حسب المعتاد "فاعلين" وليس"شخوصاً"، لكنّها تظهر في أدوار تشابه كالتي في الأدب: البطل، المجرم، الضحيّة وهكذا إلى آخره.(2) التعرّف على هذا البعد النصيّ الأساسيّ للتاريخ يجعل من تيبولوجيا لويس بطريقة ما باطلة. بعد كلّ شيء، أليس التقليد التاريخيّ المعاش لجماعة ما أيضا اختلاقا مغرضا؟ وإعادة الاكتشاف العلميّة للماضي هي نشاط يجمع ليس فقط إعادة البناء، بل أيضاً إضافة القطع المفقودة. الدّعاية هي أقلّ حرصاً فيما يتعلّق بالحقائق وأقلّ خجلا حين يكون الأمر أمر تأويلها، لكنّ هذا فقط اختلاف في الوتيرة، وليس في النوعيّة. في المحصّلة، كلّ التّاريخ "مبتدع"، لأنّه ممثّلٌ كقصّة بكلّ التورّطات الذّانيّة ويشكلّ دراما تكرّس هذا الشيء ذاته. لكن الدّور الذي يلعبه التّاريخ في صياغة الهويّة الفردانيّة والجماعيّة دور طاغ. هذا يعني أنّه إن اهتزّت الثّقة بأمانة وموضوعيّة التّاريخ، فإنّ أساس الهويّة يفسد. ماالذي يحدث لهويّة المرء آنذاك؟ أكلّ إنسان حرّ أن يبتكر صيغته الخاصّة من التّاريخ في سبيل أن ينشيء هويّته الخاصّة على هواه؟ إن لم يكن كذلك، كيف تستطيع أن تستدلّ في تيّار التّواريخ الحاضرة، المتباينة، المتزاحمة والأفّاكة؟  في أيّة مكيدة تخطّ نفسك كشخصيّة، وكيف تتأثّر حين يضعك الآخرون في مكيدة، حتّى وإن رفضت أنت نفسك الدّور؟ ماالذي يحدث لعاطفتك الذاتيّة حين تدرك أنّك لايمكنك أن تكون متأكّدا من موثوقيّة ذاكرتك الشخصيّة نفسها، لأنّها تاريخٌ أيضا؟ هذا هو مأزق الرّجل والمرأة المعاصرين، هذا ملمح من ملامح "مشكلة الهويّة" تتميّز به الحداثة. إنّها المسألة نفسها متجلّية في الرّواية المتميّزة المسمّاة بالرّيش (1990) للكاتب الكردي، المولود في سوريّا سليم بركات (ولد 1951).(3). كعضو من جماعة أقليّة محرومة من كامل حقوقها الثّقافيّة والسّياسيّة، فإنّ بركات بشكل خاصّ ومنطقي ذو حساسيّة أرهف من حساسيّات آخرين فيما يتعلّق بالطبيعة المتكوّنة للتاريخ والهويّة، وبكيفيّة عمل مسائل التذكّر، الاكتشاف ـ الإحياء والابتكار.
محكوم بدوار التّاريخ
التّاريخ والهويّة موضوعان منسوجان مع بعضهما البعض في الكثير من أعمال سليم بركات، حيث النّاس يُرسمون باستمرار ممسوكين بهم في دوار التّاريخ. وهذا بخاصّة يحقّ على رواية الرّيش، رواية، هي نصّ نموذجيّ لقلم سليم بركات، كذلك فيما يخصّ سمات أخرى. أوّلاً، هناك استخدام العناصر الخياليّة في القصّة. ثانيّاً، هناك الميل باتّجاه الهواجس الفلسفيّة والميتافيزيقيّة. وثالثاً، هناك التركيز على المأزق الكرديّ بشكل إجماليّ، على فرض، بالطّبع، أنّه يوجد ذاك الشيء الذي يطلق عليه "رواية نموذجيّة" عند كاتب ذائع الصيت لدى قرّائه بكونه غير نمطيّ ومليئاً بالمفاجآت الجديدة مع كلّ كتاب حديث.(4) يتكوّن نتاجه الإبداعيّ حاليّاً من ثلاث عشرة رواية، اثنتي عشر مجموعة شعريّة، مؤلّفين في  السيرة، مفكّرة ومجموعة من المقالات. اعتبرت نصوصه غالباً صعبة القراءة بسبب من لغتها المفصّلة، الشعريّة والأسلوب المتفرّد، لكنّ، تمّ تقريظها لجمالها وإبداعها. وفي ذلك الملمح السّالف فإنّ رواية الرّيش بالتأكيد ليست استثناءاً.(5) كمثل مسرحيّة تفتتح الرّيش بسجّل معنون بـ "الشّخوص المنتخبة للإشكال القدري". وكأنّ تراجيديا قدريّة على وشك أن تبدأ. بعض من هذه الشّخوص المنتخبة أشخاص تاريخيّون؛ أشباح تستدعى فيما بعد عن طريقة مخيّلة النّاس الأحياء وتظهر في القصّة الجارية في فترة من السّبعينات والثمانينات. الزّمن المحدّد غير معطى. السجلّ يضمّ أيضاً أبطالاً أسطوريّين من عوالم الخرافات بالإضافة إلى كائنات الخيال المبتدعة من قبل الكاتب. بمعيّة الحيوانات المتكلّمة، الطّيور والنّباتات فإنّها تخلق جوّاً سحريّاً في الروايةِ على الطّراز الذي يتميّز به فنّ سليم بركات. إنّ هذه مزيّة حديثة جدّاً من جهة عدم احترامها للواقعيّة التقليديّة، لكنّها من جانب آخر تملك جذوراً ضاربة عميقاً في تقاليد قصص الشّرق القديمة. لعرض القرابة الوثيقة والمعقّدة بين التّاريخ والهويّة في هذه الرّواية، نستطيع أن نجمع شخصيّاتها في أربعة أنماط متباينة: أوّلاً، شخصيّات واقعيّة؛ ثانياً، شخصيّات تاريخيّة؛ ثالثاً، شخصيّات فانتازيّة؛ ورابعاً، شخصيّات غير بشريّة.
الشّخصيّات الواقعيّة: متجوّلون ورومانتيكيّون
متكّلمون بعلوم الكينونة، لاتظلّ الهويّة بعد أكثر واقعيّة من التّاريخ. عالم الاجتماع سيغمونت باومان يشرح  أنّها ـ أي الهويّة ـ لا توجد كملكيّة في ذات أو كصفة لموضوع. الهويّة هي دائماً مشروع وافتراض. تستطيع أن توجد فقط كتحدّ، كشيء يحتاجه المرء ليفعل شيئاً بخصوصه. "الإنسان يفكّر في الهويّة حينما لايكون متيقّناً ممّا ينتمي إليه"، يكتب باومان في إحدى مقالاته ويتابع: "الهويّة اسم يعطى للمنفذ الذي يرتجى للخلاص من اللايقين"(6). هذا اللايقين بخصوص الانتماء من الممكن أن يكون نتيجة للإقتلاع الاجتماعيّ والانقطاع، أو أيضاً للتشريد الجغرافي، للوجود "خارج المكان". هكذا يصف إدوارد سعيد تجربته الشخصيّة عن الغربة الفلسطينيّة في مذكّراته الأخيرة.(7) إحدى الشخصيّات المحوريّة في الرّيش يتمّ بتر جذورها وتهجيرها وتنفى لتكتشف أنّها "خارج المكان". الشخصيّة هذه شابٌّ يسمّى "مم" يعيش في منزل في نيقوسيا في قبرص. حين تبدأ القصّة، فإنّه للتوّ يكون قد قرّر أن ينتحر كمنفذ أخير لوجوده الذي بغير معنى في هذا المكان الأجنبي الذي لاينتمي إليه. صار له ستّ سنوات هنا، منتظراً في يأس لقاء مع الشخصيّة الغامضة المسمّاة بـ "الرّجل الكبير". في بيته الواقع على الخطّ الأخضر بين جهات القبارصة اليونانيّين والقبارصة الأتراك في هذه الجزيرة، يتأمّل مم في وضعه المؤلّف من الانتظار الأبديّ ويستعيد ماضيه. كان قد ولد في بلدة القامشلي في الجزيرة السوريّة. إنّه ابن تاجر كرديّ منشغل بالسّياسات القوميّة الكرديّة؛ ويتبدّى أنّ والده هو الذي أرسله إلى قبرص كي يلتقي بالرّجل الكبير لمقصد هو لغز كامل لـ مم. كشخصيّة في رواية، ينتمي مم إلى صنف "اللا - أبطال". بكلمات أخرى، الفشل يلازمه. لقد فشل في مهمّة الالتقاء بالرّجل الكبير. فشل أيضاً في التلاؤم مع المحيط الغريب الذي يعيش فيه - لم يتعلّم اليونانيّة، ويشعرُ بنفسه منعزلاً عن البيئة المجاورة له. أيضاً يفشل في الأشياء الصّغيرة، كمثل صيد الطّيور البريّة التي تطير في أجواء الحديقة. في الحقيقة، إنّه لاينجح في الانتحار أيضاً لأنّه طوال الوقت تحدثُ أشياء غريبة تجعله ينسى الاقدام عليه. على الاجمال وضعه مأساويّ ويتمّ تفسيره  بهيئة رمزيّة. يمثّل مم التجربة الكرديّة في المنفى. يجسّد الهويّة القلقة التشرّد السياسي ـ الثّقافيّ، هويّة يمكن أن نطلق عليها اسم الهويّة المترحّلة والجوّابة. وبتناقض كاف مع هذا فإنّ اسم "مم" رمز قويّ للهويّة الثّقافيّة والانتماء. مم أيضاً اسم بطل الملحمة الكرديّة الشّعريّة، مم وزين للشّاعر أحمدى خانى (1650-1707).(8) ملحمة القرن السابع عشر هذه مشبعة بالرمزيّة القوميّة ممثّلة هويّة متذكّرة كجزء من ذاكرة جماعيّة للكورد. لكن حين يقرّر الأب في الرواية أن يسمّي ابنه باسم البطل في الرّواية، فإنّ هذا الشيء نوع من الاختلاق. يختلق عاطفته الكرديّة عن طريق ملاحم الماضي، باحثاً عن تبريرات تاريخيّة لخطّته الحديثة للاستقلال السياسيّ، وتأسيس الدّولة. القوميّون الكرد تبنّوا ملحمة مم وزين كملحمة قوميّة تقريبا للسبب ذاته.(9) كما تستنتج "بورغي رووس" عن حقّ في أطروحتها الحديثة حول سليم بركات ونثره، شخصيّة الأب تمثّل النوستالجيا الكرديّة. خلال كامل الرّواية يتمّ وصفه أنّه مأسور في عالم من الأبطال الاسطوريّين والأموات، غير قادر للتمييز بين الملاحم والأساطير، من جهة، وبين واقعيّة الحاضر، من جهة أخرى.(10) إنّه يحلم خاصّة بالعصر الذهبيّ للإمارات الكرديّة ذات الحكم الذاتيّ التي تأسّست بين القرنين السادس عشر والتّاسع عشر. هذه الأسطورة عن العصر الذّهبي ميّزة من مميّزات الإيديولوجيا القوميّة في كلّ مكان. إنّها مثال للتّاريخ المبتدع كما هو موصوف في تيبولوجيا برنهارد لويس، تاريخ يؤدّي بسهولة إلى هويّة متناظرة مبتدعة.(11) لكن، يمكن أنْ يقال أنّه حتّى الهويّة المبتدعة لصاحب النوستالجيا ما هي إلاّ هويّة متذكّرة ومكتشفة، مبنيّة على أجزاء من الذّاكرة الجماعيّة وحقائق منتخبة، أعادتها إلى الوجود المدرسيّة التّاريخيّة. تماماً مثل والد مم، الكثير من الكورد اليوم يؤسطرون (من الأسطورة) عهد الإمارات الكرديّة كفترة مثاليّة من الاستقلال والحريّة. الرّواية تتصدّى لهذه الأسطورة كقاعدة للهويّة الكرديّة، كاشفة طبيعتها الرومانسيّة. في هذا الصّدد، من المثير الاشارة أنّ ملحمة مم وزين هي ملهمة شعر سليم بركات. إنه بالشّعر بدأ مهنته الأدبيّة وعرف عن طريقه أوّلاً.(12) إحدى مجموعاته "الكراكي" تتألّف بشكل أساسيّ من قصيدة حبّ ملحميّة طويلة مسمّاة بـ "ديلانا وديرام".(13) هذه القصيدة صيغة حديثة من القصّة الكلاسيكيّة عن الحبّ المستحيل بين الرّجل والمرأة، كما تحكى في مم وزين وروميو وجولييت، على سبيل المثال؛ لكنّها صيغة صِفرٌ من النوستالجيا العاطفيّة وصافية بشدّة من جهة الأسطورة القوميّة.(14) وإن رجعنا إلى روايتنا، فإنّه  بالإضافة إلى مم المتشرّد هناك الشخصّية المحوريّة الثّانية في الريش التي هي أخوه التوأم، دينو. لهذا الاسم معنى شيّق، إنّه مشتقّ من الصّفة الكرمانجيّة التي تعني المجنون؛ لكنّ دينو ليس مجنوناً، إنّه غامض فحسب.(15) له عينان خضراوان غامضتان وأحلام غامضة. في الرواية يمثّل دينو البقاء "في المكان"، عائشاً في منزل عائلته في القامشلي بين أقربائه وأنسبائه، وبهذا مشكّلاً تضّاداً مع أخيه الذي هو "خارج المكان" في قبرص. بالإضافة إلى البعد المكاني هناك أيضاً بعد زمنيّ  بين الشخصيّتين المحوريّتين، لأنّ الأحداث في قبرص مرويّة حين حدوثها ست سنوات بعد الأحداث في سوريّة. دينو يرمز إلى الانتماء والتجذّر بمعناه الجغرافيّ، على الرّغم أنّ هويّته أيضاً تشكّل مشكلاً وفعل لايقين. يزداد الأمر سوءاً على سوء، وفي الخصوص بسبب من أنظمة الدّول الطّاغية في المنطقة، مدعومة بإيديولوجياً عروبيّة عدوانيّة أو إيديولوجيا طورانيّة تخاصم وتعادي اللّغة والثقافة الكرديّة. وعلى الرّغم أنّ عائلة دينو تعيش في سوريّة فإنّها تنكر عليها الجنسيّة السوريّة، وهكذا يتمّ حرمان دينو من حقّه في الدّراسة العليا. إنّه مجتمعيّاً "خارج المكان"، كما يُقال. وهو في عشريناته، آفاقه محصورة فيما يتعلّق بانتقاء المهنة التي ستجعله مستقلاً عن والده، التّاجر، الذي يعيله بالفوائد التي يجنيها من عمله. إنّه ليس سهلاً على دينو أن يطوّر أو يكتشف هويّة تخصّه هو نفسه تحت وطأة هذه الشّروط والظّروف التي يتقاسمها مع شباب آخرين، في جوّ ممزّق من قبل صراعات الأجيال التي تغرغر تحت السّطح الريفيّ  الهاديء. كشخصيّة، فإنّ دينو باحث وحالم، وفي الصّفحة الأخيرة للرّواية يتحوّل إلى متشرّد حيث يعدّ حقيبته ويغادر إلى الأرض المتملّصة لكردستان. بنية الرّواية معقّدة للغاية. إنّها صراخ بعيد عن الحكاية الخطّيّة التأريخيّة. القفزات في الزّمان والمكان كليهما عديدة، ونقطة نظر القارىء تتبدّل. بعض فصول الكتاب تحكى عن طريق الشخص الثّالث، إمّا عن طريق مم أو دينو، بينما فصول أخرى تقصّ من قبل شخص ثالث، راوٍ مطلّع على كلّ شيء. لأنّ الرّواية غنيّة بالمواضيع والقصص فإنّه من المستحيل اعطاء ملخّص عن المحتوى. لكن الحدث المفتاحيّ للقصّة هو بالطّبع الاختفاء المباغت لـ مم من مجمّع العائلة في القامشلي وتحوّله اللاحق السحريّ إلى ابن آوى. النّصف الثّاني من الكتاب يدورعلى نحو أكبر حول الأسئلة المثارة حول اختفائه الغامض وبحث العائلة للعثور عليه، بينما النصف الأوّل يصوّر موقفاً ينوجد في دورة تالية في قبرص. هكذا، تبدو بداية الكتاب حاوية لنهاية القصّة. لكن هذا أيضاً تبسيط، كذلك إيحاؤها أنّ مم قد قُتل على الحدود بين تركيّا وسوريّا ومسألة بقائه الطّويل في قبر هو في الحقيقة ليس إلاّ حلماً من أحلام توأمه الحالم، دينو. بكلمات أخرى، أحلام الأخير هي معايشات الأوّل. التفسير المعقول لهذا هو أنّ الأخوين في الحقيقة هما بعدا الهويّة المجزّأة والمنقسمة نفسها، ربّما هويّة الكاتب ذاته، الذي هو "المتشرّد" و"الباحث" كلاهما.
البعد السّيري الذاتيّ
البعد السيري ماثل للعيان في كلّ حدث، في رواية الرّيش: في سنة 1982، بعد الاجتياح الإسرائيليّ للبنان، أرغم سليم بركات أن يغادر بيروت، التي انتقل إليها قبل ذلك بعشر سنوات، باحثاً عن حريّة فنيّة وثقافيّة. بسبب من عمله وكفاحه مع منظمة التّحرير الفلسطينيّة في لبنان، فإنّ اسمه كان على لائحة الملاحقين من قبل الدّولة السّورية بالرّغم من كونه في الحقيقة من الأناس المكتومين، الذين بغير دولة. مزوّداً بجواز سفر يمنيّ جنوبيّ باسم زكريّا شهادة، انتقل سليم بركات إلى المنفى في قبرص. عاش في نيقوسيا ستة عشر عاماً باسمه المستعار،عاملاً في معظم هذه الفترة كسكرتير لمجلّة كرمل الفلسطينيّة الثقافيّة المتألّقة، مطوّراً تجربته الكتابيّة. لكن بعد اتّفاقيّة أوسلو في أواسط التسعينات، حين غادر النّاشطون الفلسطينيّون قبرص إلى الضّفّة الغربيّة ورام الله، فإنّه اختار ألاّ يمضي معهم. بسبب من الصّعوبات الماليّة والقلق العام الناتج عن الرّفض المتكّرر من قبل السّلطات القبرصيّة منحه الجنسيّة، فإنّ سليم بركات هاجر إلى السّويد مع عائلته سنة 1999. ملبّياً دعوة اتّحاد (پِن) السويديّ والپرلمان العالمي للكتّاب في شتراسبورغ، ثمّ قامت مدينة ستوكولهم باختياره كـ- پروتچ- ها الخاصّ أو "كاتب مقيم" ووهبته منحة. بعد وصوله قدّم سليم بركات اللّجوء السّياسيّ. احتاج الأمر لأكثر من سنتين وقضيّة بيروقراطيّة طويلة بكثير من الإلتواءات والمماطلات إلى أن قرّرت مسألته وأعطي إقامة دائمة في السّويد، حيث يعيش الآن.
البيت الذي عاش فيه الكاتب في نيقوسيا، وتجربة منفى مم في جزيرة قبرص توازي تجربة سليم بركات نفسها. أبعد من ذلك، بحث دينو عن الاستقلاليّة في القامشلي مبنيّ على ذاكرة الكاتب في المرحلة المتأخّرة من شبابه. في الحقيقة، الرّيش تشكّل نوعاً من استمراريّة روائيّة لسيرتي طفولة سليم بركات، اللتين كانتا عمله الأوّل في مجال النّثر.(16) في هذه النّصوص الثلاثة جميعها يكشف الكاتب ماضيه الشّخصيّ كشبكة معقّدة من الذّكريات والأحلام، تجارب وخيالات. الهويّة الشّخصيّة التي تبرز من الرّحلة الاستكشافيّة هذه للوعي وطبقات ماتحت الوعي في الذّهن هي الهويّة القلقة، المبعثرة لما بعد الحداثة كما هي معرّفة عند سيغموند باومان، ستوارت هول وآخرين.(17) الشخصيات الأدبية، سواء إن كانت تناسخات الكاتب نفسها أو لم تكن، فإنّها غالباً ما تكشف توتّراً بين الملامح المحليّة والعالميّة لهويّة تبدو "طافية بحرّيّة" في الزّمن والمكان كليهما وغير بطوليّة بوضوح. في روايات سليم بركات لايكون النّاس أبطالاً بشكل عامّ، غير أنّهم استثنائيّون. شخصيّة الأمّ في الرّيش تمتلك الكثير من الصّفات الإيجابيّة بحيث نستطيع أن نعتبرها بطلة من نوع ما. بمعيّة بناتها الستّ وامرأة مجهولة تسمّى "التي بالجزم العسكريّة"، تدعم العناصر الأنثويّة في سلسلة شخصيّات الرّواية المسيطر عليها من قبل الذكور. لكنّ الأمر ليس كذلك دائماً. في رواية معسكرات الأبد (1993) الأحداث مركّزة حول مجموعة صغيرة من النساء، خمس أخوات وابنة يسيطرنَِّ على القصّة.(18) أمّا ما يخصّ شخصيّة الأمّ في الرّيش، فإنّها رمز للمعرفة الصوفيّة، تعيش في نوع من الاتّصال الروحاني مع الطّبيعة والكونِ. إنّها أيضا تشخّص البساطة والإنسانيّة، هذه القيم التي لم تفسد حسب التقليد الكرديّ بعد من قبل السياسات. إنّها تعتني بحديقة ورودها وتتلاطف مع نحلها. تأمّلها في طنين الحشرات جامعات العسل، يصبح قريباً من التناغم والانسجام الأرضيّ كلّما مضينا أكثر وتآلفنا مع الرّواية.
الشّخصيّات التّاريخيّة: الأبطال الاسطوريّون
بطريقة أخرى، الأبطال "الحقيقيّون" الوحيدون في الرّواية هم الشخصيّات التّاريخيّة. هذا يضمّ عدّة قادة من التّاريخ الكورديّ ـ ملا سليم البدليسيّ الذي قاد تمرّداً متواضعاً ضدّ التّرك في عشيّة الحرب العالميّة الأولى؛ الشّيخ سعيد الذي قاد ثورة رائدة كبيرة في تركيّا في سنوات 1920؛ القاضي محمّد، رئيس جمهوريّة مهاباد ذات الحياة القصيرة في إيران بعد الحرب العالميّة الثّانية ـ، لكن أيضاً الشخصيّات الملحميّة الخالصة كمثل بَهرم جور. هؤلاء النّاس الميّتون يظهرون في الرّواية في العديد من الحكايات مغروسين في أفكار وأحلام الأحياء. الحكايات مطوّرة في العادة هكذا بحيث تدور وكأنّها قصص مستقلّة بذاتها من جهة البناء والحبكة العامّة. الحكاية تغيّر حتّى النمط الأدبيّ في بعض الأحيان وتصبح استقراءً ومبحثاً نقديّاً ونقاشاً للأحداث التّاريخيّة التي تلعب دوراً رئيساً في الخطاب القومي الكرديّ ليومنا هذا. الثيمة العامّة هي الآمال المثبّطة، حيث يفشل كلّ هؤلاء الأبطال في مسعاهم إيجاد نوع من أنواع استقلال كردستان. ولايتمّ بأيّ معنى من المعاني تحويل هذه التّراجيديا إلى رومانسيّة. هذه الشّخصيّات التاريخيّة تمثّل أبطالاً مثاليّين للأناس الذين على شاكلة والد مم ومؤيّديه، وهم يريدون أن يبنوا عليها وعلى مثالها نمط حياتهم الشخصيّة. لكن حين يدرس مم الحقائق فإنّه يكتشف أنّ هذه الهويّة المتذكّرة بغير تمحّص ما هي إلاّ بنيان من الأساطير والفانتازيات التي يرفضها هو نفسه. في الحقيقة، الفكرة كلّها حول الأرض التي تُسمّى كردستان تبدو مصطنعة له،  لأنّه فقط الرومانسيّون القوميّون كمثل والده يبدو وكأنّهم يعرفون تخومها. هنا، مرّة ثانية، نرى الرّواية تتحدّى العقائد المقدّسة ـ في هذه الحالة، عقائد الوطن القوميّ، البدئيّ والمحدّد بوضوح. إنّها تقابل وتستفزّ التّجانس الكرديّ المتخيّل بالواقع الكرديّ المتنافر، في الماضي والحاضر كليهما.
هناك شخصيّة تاريخيّة أخرى  ذات صفات بطوليّة خرافيّة تظهر في الرّواية، ألا وهي شخصيّة مؤسس الصّحافة الكرديّة الأولى المطبوعة، حسين موكرياني. هذا الرّجل وصحافته يمثّلان أهميّة وقيمة اللّغة والأدب لترسيخ هويّة الشّخص ذاتها. لكن حقيقة أنّ الرّواية مكتوبة بالعربيّة تمنع القارىء أن يشكّل لنفسه استنباطات بسيطة حول اللّغة الكرديّة وكونها المعنى الوحيد لعبارة "القوميّة الكرديّة". وبما يوازي هذا، فإنّ استخدام الكاتب ببراعة لذخائر اللغة العربيّة القاموسيّة وأسلوبه السويّ في الاشتغال بها تشكّل صفعة للعرب القوميّين الذين يحاول استخدام هيبة هذه اللّغة ليعزّزوا ويبرّروا أهدافهم السياسيّة الطّاغية. كما يلاحظ خوان غويتيسولو في مقدّمته للترجمة الاسبانيّة لرواية الرّيش، سليم بركات يستخدم لغة "المحتلّ" ليوصل رسالة ملتبسة: الامتثال لثقافة الغالب مشحون بافراط ليكون شكلاً حاذقاً من أشكال الانتقام. من هذه الوجهة، عمله يماثل عمل العديد من كتّاب مابعد استعمار الامبراطوريّة البريطانيّة السابقة وبعض كتّاب شمال أفريقيا الذين يعبّرون بالفرنسيّة.(19)
شخصيّات الخيال الأنثروبومورفيكيّون: الربّ مستتراً؟
يتمّ ادخال مسألة أهميّة اللّغة إلى القصّة خلال جزازة ورقة قديمة يعطيها جار مم الجديد له في جزيرة قبرص. فوق الورقة العبارة التّالية: "الألمان الپروتستانتيّون يكذبون عليك!". بدون شرح، يطلب الجار من مم أن ينسخها ثمانين ألف مرّة باليد، طلب غير ممكن مطلقاً. هذا يأخذنا إلى مضمار الخيال والعبثيّة. جار مم الجديد ليس على الاطلاق شخصيّة واقعيّة، حتّى وإن تكلّم مع مم كأيّ كائن بشريّ. يده اليمنى مغطّاة بأرياش بيضاء وله قدرات فوق طبيعيّة. إنّه واحد من شخصيّات خياليّة عديدة تظهر في الرّواية. الأمثلة الأخرى هي الملائكة المتكلّمة والرّجل الكبير الغامض المشار إليه سابقاً. في الحقيقة، الرّجل الكبير نفسه لايظهر في الرّواية، لكن الكثير من شركائه يظهرون وهم جميعاً بدرجة كبيرة أو قليلة مخلوقات عجيبة. أحد الخيوط المحوريّة في نسيج الرّواية هو انتظار مم العقيم للرّجل الكبير. عبثيّة هذا الموقف تذكّر القارىء الأوربيّ بفرانتز كافكا ومحاكمات يوزف ك. في رواية القضيّة. تشير رووس إلى رواية القلعة كعمل قريب من رواية الرّيش فيما يتعلّق بالاسلوب.(20) لكن، في الغالب هذا التشابه والقرب هو فقط إشارةٌ إلى كونيّة النصّ، وليس دليلاً على تأثّر أدبيّ مباشر. من هو الرّجل الكبير؟ الأمر ليس جليّاً. إنّه رمز مفتوح. ربّما يكون السلطة التي لا وجه لها في حيواتنا، التي في مواجهتها نحن دائماً بغير قوّة وضعفاء. ربّما كان البروفسور الكبير الذي لاتتاح لنا فرصة اللّقاء به أبداً، أو مسؤولاً رفيعاً، مشغولاً على الدّوام. أو، ربّما، الرّجل الكبير هو الله نفسه؟ في مستوى الحكاية هذا، مطلب الهويّة ليس له أيّة صلة بـ "الكرديّة" أو أيّة هويّة إثنيّة. المتجوّل، النوستالجيّ، الباحث والصوفيّ كلّهم هويّات تلغي التخوم الثّقافيّة والظّروف السياسيّة. تبنّي واحدة منها هو مشروع ميتافيزقيّ. عظمة الرّيش تكمن في كونيّة وصفها للظّروف الوجوديّة للإنسان المعاصر. عن طريق إثارة العناصر الخياليّة وادخالها في زاوية الرؤية إلى العالم، يعطي سليم بركات مسألة الهويّة بعداً فلسفيّاً ذاهباً إلى ما وراء مقاييس السياسات.
في الحقيقة، شعريّات سليم بركات تضع التخيّل فوق كلّ الاعتبارات الأدبيّة الأخرى. التخيّل هو السبيل الوحيد لمقاومة العالم الشّاحب للاستهلاك والخلاص من أكاذيب العقائد. الكتابة ينبغي أن تكون فعل تمرّد ضدّ الخير والشرّ كليهما، حيث تبتكر الكلمات نفسها معانٍ جديدة للوجود خلال لعبتها. في الحقيقة، الكلمات تخلق العالم من جديد أو، كما يعبّر سليم بركات نفسه في كلمته الافتتاحيّة للشّعراء المجتمعين في مهرجان الشّعر في ستوكهولم 2000: "(21) تعالوا، نخطف الله ونبقيه فدية  للكلمات! الكلمات التي تبرم أنّ الله تصعيد كما هو خيال الطّيور!". ذكر الله والطّيور والخيال في نفس واحد لايبدو شيئاً غريباً للذي ألف أجواء رواية الرّيش. بشكل خاصّ، الأرياش هي رمز الربوبيّة والخيال في الرّواية، أرياش تنهال من السّماء، ترتفع من قعر الحقيبة أو تشكّل أجنحة على الطّير أو الانسان على السّواء. الأرياش هي الخيط الأحمر في الرّواية وكما قرأتها، علامة الحضور السّحري في حياتنا اليوميّة. الأرياش تتضمّن الروحانيّة، تتواشج مع الطّيران والفضاء السماويّ. (22)
الشخصيّات اللابشريّة: النباتات المتكلّمة
البعد الروحانيّ والفلسفيّ للهويّة يتجلّى غالباً في حوارات بين النباتات، الحيوانات والطّيور، مع أنّها أحياناً تضمّ البشر، أو حتّى أشياء جامدة مثل نهر أو قبر. الفلسفة التي نصادفها في هذه الحوارات تبيّن عبثيّة الوجود وسفاهة شؤون الانسان. لهذه الحوارات والفلسفة علائق وقرابة مع التعاليم التصوفيّة التي تحاول أن تنوّر التّلميذ والطّالب عن طريق المتضادّات والعبارات التي لامعنى لها ظاهريّاً، مدّعية أنّ الحكمة حَدسيّة ولايمكن بلوغها بطريق الأسباب لوحدها. وإنّه في محلّه هنا أن نشير أنّ الكاتب قارىء شغوف للأدب العربيّ الكلاسيكيّ، بخاصّة للأعمال الميتافيزيقيّة كمثل ابن عربي، ذاكرين فقط مثالاً واحداً. في استعماله للتخيّل يشعر المرء أيضاً بتأثّر الكاتب بطريقة قصّ الحكايات التقليديّة في الشّرق الأوسط، هذه الحكايات التي فيها غالباً ما تتناقش الحيوانات مع بعضها البعض أو مع الانسان، كما في كتاب كليلة ودمنة وخرافات أخرى. (23) كمثل  قصير على هذه الخاصّية ذات الشأن نذكر هنا مقطعاً من محادثة بين مم ونبتة الفليفلة في حديقته. النبتة شكت للتوّ أنّها قلقة وحيرانة، هكذا يحاول مم أن يهدّىء من روعها عن طريق الإيضاح لها أنّ الحالة عامّة ومشتركة:
"نحن نَحارُ، كثيراً، ونبقى مغلقين على أمور ليس في وسع أحدٍ اقتحامُها"، أجبتُ.
"من أنتم؟"، سألتْ.
"نحن"، أجبتُ. مضيفاً في تأكيد صارخ: "نحن. نحن. ألاتعرفيننا؟"، سألتُ.
"آه. أنتم. نعم. تسيرون دون جذور. أعرفكم"، ردَّتْ.
"جذورنا تخنلف"، قلتُ شارحاً ما لن تستطيع شجيرة الفلفل أن تفهمه: "جذورنا هي الحنين.. هي الـ.."، قلتُ باحثاً عن كلمة تليق بحوار بين إنسان ونبات، يكون لها حكمتها التي تختزل كل كلامٍ عن الجذور"، فقاطعتْني:
"لذلك أنا حيرانة".
"أحاول أن أشرح قَدْرَ ماتستطيعين فهمه"، قلتُ.
"وأنا أختصر كثيراً حتى تفهمني"، ردَّتْ. النسخة العربية، ص41.
تماماً كما هو مضبّبٌ الفاصل بين العالم البشريّ وعالم النّباتات في الحكاية، فالحواجز والحدود ليست واضحة أيضاً بين الأنواع الأربعة من الشّخصيّات المعرّفة سابقاً. هذا أيضاً مهمٌّ جدّاً: الشخصيّات يمكنها فجأة أن تعبر من حيّز الشخصيّة الواقعيّة إلى حيّز الشّخصيّة الفانتازيّة أو الشخصيّة اللابشريّة. فمَمْ في القصّة في البداية رجل، بعد ذاك ابن آوى، بعدئذ شبح. البطل التاريخيّ، ملاّ سليم البدليسيّ، يكوّن أجنحة ويطير، متحوّلاً إلى كائن فانتازيّ خياليّ. خرق القوانين الطّبيعيّة للحكاية التقليديّة، يؤكّد الطبيعة الخياليّة للهويّة وبنيتها المكوّنة من العناصر المتذكّرة، المكتشفة، المبتكرة. لكنّ، التخطّي والتجاوز هذا لقوانين الطبيعة يخلق أثراً فنيّا، جالباً معه اللامتوقّع والمدهش إلى النصّ.
المحصّلة
ماالذي قالته نبتة الفلفل للبطل؟ إنّها قالت أنّ البشر يتحرّكون بغير جذور. "الجذور" صورة عامّة للهويّة. الجذور البشريّة "الهويّة" هي شوق، البطل يردّ، هكذا متبنيّاً وضعاً ما بعد حداثيّاً: "الهويّة إبراز نقديّ لما هو مطالبٌ به و/ أو ماهو مشتهى في مقابل الموجود فعلا؛ أو بشكلّ أدقّ، الهويّة هي إقرارٌ غير مباشر بالعجز أو النّقص". (25) لكن دون أن تكون منفذاً وخلاصاً من القلق وطلباً لمزيد من الواقعيّة "الكاملة".  ماهي الهويّة بالإضافة إلى ذلك؟ إنّها علامة وشارة في الجدال العالميّ المعاصر. إنّها تظهر في هذا المضمار في كلّ السياقات الممكنة. في الدّراسات الأدبيّة، على سبيل المثال، موضوع الهويّة هو همّ  وشاغل لباحثي التّاريخ وكذلك لإختصاصيّي الشعريّات الحديثة. إن قمت ببحث على شبكة الانترنت في الكاتالوغ القوميّ السويدي للمكتبات الدّراسيّة (ليبريس) فإنّك ستحصل على أكثر من 400 لقية تخصّ المواضيع المشتركة بين الأدب والهويّة (مضافا إليها 50 لقية أخرى حين تبديل البحث من الإنكليزيّة إلى السويديّة).(26) يظهر من هذا أنّ الهويّة تشكّل "مشكلة". وإلاّ كيف يمكننا أن نشرح استحواذ هذا الموضوع على عقل العلماء والفنّانين على السّواء؟ "مشكلة الهويّة" عبارة تبرز بتغييرات متوائمة حسب المجال المعيّن في دراسات وأعمال أدبيّة لاحصر لها. في هذه الكتابات في الغالب تكون "المشكلة" معرّفة ومحدّدة كفقدان ونقص في الهويّة عند الشخص أو الجماعة التيّ يتم دراستها. القضاء على نقص الهويّة هذا عن طريق خلق ناجح لهويّة جديدة، هويّة أكثر "اكتمالاً"، هو الحلّ التقليديّ المعرض والمقترح في الرّوايات والدّراسات العلميّة على السّواء. بهذه الطّريقة، تُحلّ مشكلة الهويّة افتراضاً. ، لكن، المشكلة غير محلولة أبداً في الرّيش. لايستعاض عن هويّة ضعيفة بواحدة أقوى منها. في الحقيقة، تعرض الرّواية صفّين من الهويّات بقسمين، قسم متضادّ وقسم متكامل، هويّات غير كاملة في ذاتها. القلق واللايقين طاغيان هنا والشخصيّات البشريّة المختلفة تبقى متعلّقة برغبة لا تهدأ في هويّة مستقرّة ومطمئنّة تضمحلّ كسراب، حالما تقترب منها هذه الشخصيّات.