١٤‏/١١‏/٢٠١٠

ذكريات الدكتور سعد الدين ملا عن إحتراق سينما عامودا. كانت المدينة كلها تعيش أجواء إسبوع فعاليات دعم ثورة الجزائر والتبرع السنوي الذي لم يستثني أحدا بحسب إرادة مدير الناحية والمباحث. مثل الكثيرين من زملائي في ذلك المساء كنت أدخل لأول مرة دارا للسينما في حياتي وذلك لأسباب مختلفة منها ضيق ذات يد الأهل أو صغر العمر أو تجنبا لفساد الأخلاق والعادات أو..، ولم تكن لدي فكرة عن جغرافية صالة سينما الشهرزاد سواء من الداخل أو من الخارج.و مثل الكثيرين من التلاميذ كنت متلهفا لفكرة الذهاب إلى السينما من ناحية وأعيش كابوس تأمين الريع الإجباري للحفلة من ناحية أخرى. وكما في كل خريف كانت عامودا بأغلبية سكانها تعاني من تأمين نفقات تدريس أطفالها من شراء الكتب والمواد القرطاسية ونفقات "صندوق التوفير" والكساء اللازم لإتقاء الأمراض المختلفة والشتوية منها بشكل خاص. كان كل شيئ في عامودا كما في مختلف المناطق الكردية ينم على الحرمان وتدني الخدمات وإهمال البنية التحتية والتمييز في الوظائف والتعريب القسري والإستعلاء القومي ويزرع الوعي العروبي في براءة أطفالها.كان جميع المعلمين والموظفين في سلك التعليم مختارين من المضمونين قوميا والشوفينيين العرب مثل البعثيين أو من القوميين السوريين أو من جماعة الإخوان المسلمين وقليلا من الشيوعيين من الداخل. فمنهم من كان في مهمة قومية ومنهم من كان غير مرغوب فيه في المراكز الهامة للدولة ولكن يجمعهم جميعا محاربة الهوية القومية الكردية والترويج للوطنية السورية و أفكار القومية العربية أو الإسلامية أو الأممية. كانت المناطق الكردية بمثابة الجبهة الأمامية لهؤلاء يخوضون فيها حربا مقدسا في سبيل تحقيق الدولة العربية الواحدة علما ولغة وقومية وكان الكل يتبارز في أنفلة الغنيمة ويزاود على حصاد التعريب وتشريد الإنسان والمكان من هويته وإسمه فيها. ومما كان يزيد من همجية هؤلاء ويخرجهم عن طورهم الإنساني عجزهم عن تفسير إزدواجية الدفاع عن إتفاقية سايكس ـ بيكو فيما يتعلق بالكرد وإسقاطها فيما يتعلق منها بالعرب، عجزهم عن تفسير شعارهم "الأرض تتكلم عربي" بينما يؤكد كل ما هو فوقها وما هو تحتها من بشر وحجر عكس ذلك.وكالنقش في الحجر أتذكر تصرف المعلمين مع التلاميذ الكرد،  كان واحدهم يختلق الذرائع لمعاقبة الأطفال الحفاة الجياع الأبرياء جسديا ومعنويا بحقد واضح وبدون أيما سبب مباشر. كان يتصرف بعضهم وكأنهم يتصارعون مع الأطفال وبدون أدنى مراعاة لقواعد التربية أو الرحمة، كانوا يضربون للتلذذ ولإحداث الأذى الجسدي والنفسي لدى المتلقي والمشاهد في آن. واقسى عقوبة أتذكرها كانت بسبب التحدث بالكردية في باحة المدرسة. لم تعد عامودا الموسكو الحمراء حيث كانت الأزقة تمتلئ بالمناقشات وتصبح شوارعها مسرحا للمظاهرات والتصادمات بين الشيوعيين والإخوان المسلمين. كل شيئ فيها تغير وإحتل الدفاع المدني والإتحاد القومي المكان، وأصبحت أخبار ثورة الجزائر و وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر وحلفي بغداد والناتو وتآمرالإستعمار والإمبريالية والصهيونية وعملائها من الرجعيين ضد الأمة العربية وطليعتها الجمهورية العربية المتحدة بزعامة جمال عبدالناصر وعودة الملا مصطفى البرزاني إلى عراق يتقاسمه الكرد والعرب. كنا  نخرج في المسيرات المدرسية برفقة الموسيقى الحماسية التي كانت تعزفها فرق الكشافة في المناسبات العديدة وننشد لبلاد العرب أوطاني ونهتف للحياد الإيجابي ونسقط الزعيم عبدالكريم والطابور الخامس والإنفصاليين.لقد إستجاب البعض لسياسة فرق تسد وشراء الزمم وسعى الكثيرون إلى إثبات إخلاصهم العروبي بالإساءة إلى الكردي والوشاية به فتغيرت هرمونية عامودا إلى كردي دخيل وعميل وخاتوني عربي ومسيحي وطني، وتلبدت الأجواء بإنتشار أخبار إعتقال قيادة وكوادر حزب ديمقراطي كردستاني ـ سوريا وقصص تعذيب القوميين الكرد والشيوعيين في السجون التي كانت المزة رمزها الأول.بالإضافة إلى عدوانية الشرطة والدرك والهجانة والمكتب الثاني والمباحث وهمجية رموزها حكمت ميني ومحمد رجب وغيرهما. كانت المحافظة تدار من قبل عناصر أثبتتها الأيام غلاة شوفينيين أمثال محمد طلب هلال ومنذر الموصلي وسعيد السيد وعلاوي السطم وغيرهم الذين كانوا قد قرروا تجريد عامودا من هويتها أو تدبير أمر إغتيالها أولا وبأي شكل كان لتصبح عبرة للمناطق الأخرى. كانت الحفلة المسائية التي حضرتها هي الثالثة التي أمر بها مدير الناحية أصحاب السينما على إستقبال التلاميذ بعد ظهر ذلك اليوم المصادف لـ 13ـ11ـ1960، ولما كانت الأخيرة فقد حشر في الصالة ضعف ما كانت تستوعبه من التلاميذ.وبما أنني حضرت متأخرا ولبيت طلب حارس الباب بجلب الماء له من المنزل المجاور فقد وجدت نفسي في اللوج دون أن أدري. وبعد إنقضاء أكثر من نصف الفيلم ـ شبح منتصف الليل، إختفت الصورة وشعرت بحرارة النار التي كانت قد إندلعت في غرفة المحرك وإستولت على مدخل اللوج. وسرعان ما إستولت على الجدران لتنتشر حتى شاشة العرض وتملأ الصالة بدخان كثيف. فهاجت الصالة وماجت طلبا للنجاة وبإنكسار سياج اللوج وجدت نفسي في القاعة دون أن أعرف إلى أين. تبين أن الصالة تفتقد النوافذ و أن لامخرج إلا عبر بابين ضيقين فقط وأنهما مغلقان بتكدس الأطفال المتزاحمين والمتدافعين. بعد عدة سقطات ومحاولات فاشلة وجدت مجالا لتسلق الأجساد المتراكمة خلف الباب الجنوبي والتحشر عبر الفتحة المتوفرة أعلاه لأسقط في وحل البئر الموجود في الخارج ومن ثم الهروب إلى الشارع. كانت النيران قد حولت الصالة إلى أتون وكان ثمة شرطي أمام الباب الشمالي يمنع الناس من الدخول ويحاول البعض إحداث فتحة ما في الجدران لإخراج الدخان الخانق بينما كان محمد الدقوري يسحب ما أمكن من الأطفال عبر الباب الجنوبي.
عن: سما كورد وجريدة الوفاق الكوردستاني
اللوحة للفنان نهاد الترك.