٢٠‏/١٠‏/٢٠١٠


مؤثِّرات حلبيّة
عبد الرحمن عفيف

أمّا من جانبي، فكنتُ أخالف رأي الصديق ذاك، وأطلب منه أن يردّنا إلى لحظتنا هذه في المعهد. قلتُ له، انظر إلى عربات القطارات، إلى الشحم المنساب تحت عجلاتها وانظر أخيراً إلى زوايا غرفتك الجامعية، هذه الواسعة، مثل دخان! وهكذا أقعنت الصديق أن يكفّ عن العتاب والشكّ وتحريض الذكريات والمدن والقرى ضدّ بعضها البعض وعلى الخصوص في أغنية المغنّي وهي بالكرديّة. وقلتُ له، كفّ أو أبعد كفّك عن ريشة المغنّي وانظر إلى دفتر مذكراتك الخاصّة، ستجد أنك نسيت موعد نظرك إلى بدن عارٍ لسريانيّة من الكوّة العارية في سقف ما بعد الظهر! وهي عشيقة المغنّي وعلى الأقلّ عشيقة صاحب الكلمات وهو عفرينيّ أو كوبانيّ كان يعيش في السوفيات، كان شاعراً على طريقته البسيطة؛ وهي تذكّراته وألمه لخسارة حياته، حيث أصيب هناك بالسرطان في الرئة من تدخينه للسكائر الروسيّة. إذاً، أيّ صدى وأيّ صوت يمكن فصلهما، بعد هذا!؟ للمسجد قبّة من الوحل، وذهبَ الغبارُ أيَّ مذهب؛ مذهبٌ شافعيّ وآخر حنبليّ: ربّما رأيتكِ يا ذات العنق والأنف الصغير، في البريّة ترضعين لبوة لم تكتمل. ثمّ، آخ، لو نظرتُ أعمق إلى ما تحت الفستان الأخضر، أيتها النعامة المشمّرة عن قوت قلبها. القبّة هي صندوق الطنبور الأصفر أو هي سترة آلة العود؛ جاءت من دمشق بل من زقاق حلب الشهواء، ثمّ يذكرُ في صلاته التي هي غناء وموّال، يذكر حلب بقوّة أكبر من عفرين ويقول: آخ، أتيه بين عفرين وبين كوباني! ثمّة كراكي في الجوار تزور الأماكن الخالية، خاصّة في أيام الأعياد وأيضاً في الصلوات بعد إفطار رمضان. مذهبٌ للغبار ونسيج على نول حلبيّ يتكرّر هكذا، هكذا بحيث كانت نافذة معهد هندسة القطارات بحجم عربة قطار وكنتُ في حلب أشعر بالوحدة وكانت الوحدةُ تلازمني بحيث عقدت صداقات مع شبّان كنتُ أتجنّبهم في عامودا؛ ورأيت هناك في غرفهم جرّة ماء وكيلوات عدّة من البطاطا وصورة لجدّ أحدهم بالزيّ العثماني وبشارب كرديّ كان يبدو كشجرة كثيفة سوداء لكثرة ذهاب وإياب الزمن عليها. أيها الصديق: هات شربة ماء، وألا تشربون بيرة مثلّجة في حلب، كنّا نجرّب شرب البيرة حتّى في الأرياف المتخلّفة. لكن الصديق ينزعج ويتهم حلب برجعيّة أكبر ويتعرّق كأنه يخرج بعرقه من الغبار أو من صمت طال سنوات. آخ، يقول الصديق، ذكّرتني بمشاوير لم أقم بها إلاّ في القامشلي، كنت أزور عمّتي المنهارة وثم أبدأ بزيارة الشوارع الخالية في الساعة الثانية ما بعد الظهيرة، حيث لا أحد في الحارات وربّما عصفورٌ تائه أو صوت طنجرة أو حشرة ذهبت وراء رحيق يغلي. آه، ماذا كنتَ تفعل؟ كنتُ أشعر بالجوع ولكنني كنتُ أمارس الصبر والتصبُّر وشعاري كان «الصبر مفتاح والمفتاح قلب وبئر وغصن ذاهب في حرارة العصر». كنتُ أشعر بدخان حولي وأشعر أننا بالفعل يجب أن نجري عملية كومبيوترية لغناء الـمغـنّي من كوباني لكي يصير أكثر حلبيّة، لأن تأثير حلب كان عليه كبيراً ولو أنه بقي يغنّي بالكرديّة إلا بين حين وحين بالعربيّة الفصحى وكانت قصائد لابن الفارض أو بعضاً من أشعار لقمان ديركي وكانت هي أيضاً خالية من أيّ قوميّة أو شعار تماماً مثل الصدى بين الأوتار وكان بالفعل لا يمكن فصل الصوت عن صداه. عمّه ذاك، أخت عمّه، خالة جدّته التي نزلت من تركيا وما زالت حيّة في قبرها كما كانت، لها جبل هو عمامتها الكرديّة الأصيلة مثل مشعل في الإشراق. والعمّ الخجول بدون لحية وبدون شارب، غنّى على التراب الذي ذهب مذاهب، في الغبار الذي ذهب مدارسَ ونوطاتِ فنّ واستشهد بمحمد عبدالوهاب وبأمراء البزق في المغرب وفي الجزائر وحمل عوده ذات مرّة وجاء إلينا في عامودا، واستقبلناه استقبالاً كلاسيكياً. يليق بنا أن نكون كلاسيكيين وذهبت أمّ أحد الأصدقاء إلى أننا بلاستيكيّون لهذا نحبّ صوت العود وهو آلة موسيقى لا تنتمي إلينا، إنّما تنتمي إلينا صناديق الحلاوة الحلبيّة ودرّاجة صنعنا منها طنبوراً يدور في قلوب الفتيات، تنتمي إلينا صدفة أطلقنا عليها اسم قوميّة عامّة وصوتٌ فيه الكثير من الصدى بدل الصوت. كان على المغنّي أن يحذف الصدى بين وتر وآخر، قال الصديق، كان عليه أن يكون أقلّ خجلاً وأن يكون عقرباً يلدغ من يُسيء إليه، لكنه للأسف عقربٌ لا يمكنه اللدغ.كان شعاري يكفيني أحياناً لأعيش به وله لمدّة شهر أو شهر وعدّة أيّام أُخَر. قمتُ بمقاطعة الصديق ووددت أن أرجع إلى حلب وليس إلى القامشلي أو إلى عامودا، حيث كان بركان الذكريات لا يزال لديه ثائراً ومتعصّباً، فهي مدينته على أقلّ تقدير وتلّ شرمولا يكفي ليجتاز به امتحانات جامعيّة عدّة، أقصد أنه يتكىء على جانبه ويفكّر بدل أن يعيش. طبعاً في أحيان كثيرة كنت أقوم بخلط عمديّ وأنسب له ذكريات كانت في الحقيقة، والحقّ يقال، هي ذكريات عمّه المختلف، بطنبوره المختلف الألحان، عمّه الذي فرّ فراراً كثيفاً من أن يهجر عامودا وبقي يختبىء في حواريها، إلى أن سُمِّي بالعمّ العقرب وبالفعل أصبح شبيهاً بالعقرب، خجولاً وسريع المشي، خاصّة في آناء الليل وأطراف النهاراتِ، في أطراف الحارات وقلوب الخوالي من الساعات.
«الغاوون»، العدد 29، 1 تمّوز 2010
اللوحة للفنان نهاد الترك